لم أجد أفضل من القراءة

  • محمد الغزّي

إن العزلة كما أوضح المتصوِّفة، هي الجلوس مع النفس، أي إنّها ضرب من الوحدة لكنّها الوحدة المأهولة، وهذا الجلوس مع النفس عند (نيتشه) ضرورةٌ لاتساع الذات وامتلائها، وسببٌ مباشر في إيقاظ الإحساس بالحرّيّة، «فالذي لا يبتهج في العُزلة لا يحب الحرّيّة».. يقول شوبنهاور.

والواقع أنّي لم أجد أفضل من القراءة تنقلني من حالٍ إلى حالٍ، أي من حالِ الضرورة إلى حالِ الحرّيّة. لكنّ القراءة التي اخترتها، في هذا الظرف المخصوص، هي القراءة التي تُضيء وتكشف: تُضيء اللحظة الراهنة، وتكشف لي عن أسرارها وخفاياها.. القراءة التي «تفضح» وتدين، وربَّما تحاكم الإنسان المُعاصِر الذي ما فتئ يمضي إلى حتفه مفتوح العينين..

في اللحظة التي دخلت فيها البشريّة الحَجْر المنزليّ تذكّرتُ قولة كالفينو: «أعتقد أنّ عليَّ أن أطير في فضاءٍ مختلف كلّما بدت الإنسانيّة محكوماً عليها بالثّقل، ولا أعني بهذا أنّ عليَّ أن أهربَ في الأحلام، أو فيما هو لا عقلانيّ، بل أعني أن عليَّ أنْ أغيّر مقاربتي للعالم، أن أنظر إليه من زاوية مختلفة، ومنطقٍ مختلف».

أن أغيّر مقاربتي للعالم، أن أنظر إليه من زاويّة مختلفة، ومنطقٍ مختلف، هذا ما كنت أرجوه بعدما باتت كلّ المُقاربات القديمة للعالم والأشياء غير واضحة، وربّما غير صائبة..

هكذا وجدتُني أعود إلى قراءة أعمال مخصوصة، خلال الحَجْر، وهي الأعمال التي أدانت الإنسان المُعاصِر، بل حذّرت من صلفه وعنجهيته وسيره الأعمى نحو المجهول: مثل أعمال كافكا / كامو/ ناتالي سروت / بيكيت / إليوت… كلّ هؤلاء رفعوا أصواتهم بالصراخ، حاولوا أن يلفتوا الانتباه، أن يعلنوا عن الكارثة قبل حلولها، لكن لا أحد أصغى إليهم، لا أحد أولى «مواقفهم» أيّة أهمّية، بل عُدَّت، هذه المواقف، لدى فريق أول، مجرَّد احتجاجات رومانسيّة لا ينهض لها سبب قويّ يسندها ويدعمها، وعُدَّت، لدى فريقٍ ثانٍ، مجرَّد مواقف أيديولوجيّة ذات طابع يساري تعادي الليبراليّة المُنتصرة..

هكذا ظلّ الإنسان متوّجاً بكلّ إنجازاته وكشوفاته يسير قدُماً.. غير عابئ بأيّ تحذير حتى كان الربيع الأسود عام 2020.

في هذ الحَجْر قرأت أعمالاً كثيرة وكبيرة كانت كلّها دون استثناء قد آخذت الإنسان المُعاصِر على خياراته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والأيديولوجيّة الخاطئة، وتوقعت أن يمرّ هذا الكائن الممتلئ بذاته بمنعرجات تراجيديّة خطيرة.. كلّ كاتب اختار لهذه «المنعرجات» معادلاً موضوعيّاً، أي صورة استعاريّة… لكنّ الكُتَّاب جميعاً اتفقوا على أنّ الإنسان يسير في الطريق الخطأ، وأنّ كل منجزاته مهدَّدة بالاندثار..

ذكرني هؤلاء الكُتَّاب بـ«العرّافات» في المسرح اليوناني، حيث كنّ «يتنبّأن» بالمأساة قبل حدوثها، لكنّ الأبطال لا يعيرون اهتماماً لنبوءاتهنّ، فيواصلون خوض الصِّراع، بكلِّ حماسة، دون أن يتوقَّعوا أنّ نهايتهم وشيكة.

أدب (كافكا) كان نعياً طويلاً وحزيناً للإنسان الذي فقد «آدميّته»، وكلّ حضوره الإنساني البهيج، أدب (بيكيت) كان صيحة في وجه نظامٍ اقتصاديّ واجتماعيّ ظالم قضى على كلّ القيم الإنسانية الكبرى.. قصائد (إليوت) كانت تصويراً للإنسان يسير بعينين مفتوحتين نحو خرابه الروحي…

في هذا السياق، أحبّ أن أتوقَّف عند عمل صغير الحجم، ربَّما كتبه صاحبه لليافعين، لكنّه كان، على بساطته ووضوحه، من أعمق الأعمال التي أدانت الإنسان المُعاصِر إدانةً شديدةً، وحذّرته من الفاجعة.. وهذا العمل هو كتاب «الأمير الصغير» للكاتب الفرنسي «سانت اكزوبري». 

شخصيّتان اثنتان تتقاسمان في هذه القصّة غنائم البطولة: الشخصيّة الأولى هي شخصيّة أمير صغير لا يسكنُ الأرض، وإنما يسكنُ المدى يلفّعه الغمامُ. مملكته ليست من هذا العالم، وإنّما من عالم آخر بعيد. فقد جاء من الكوكب 612، وهو الكوكب الذي يكاد حجمه لا يتجاوز حجم بيتٍ من البيوت، لينزل ضيفاً على الأرض، أمّا الشخصيّة الثانية فهي شخصيّة طيار متمرِّس آثر السباحة بين الغيوم على البقاء بين البشر.

ينطلق الحديث بين هاتين الشخصيّتين، أي بين الأمير الصغير الذي ينظر إلى العالم بعفويّة ساحرة، وبين الطيار الذي ينتسب إلى العصور الحديثة يحمل ثقافتها.. ومن خلال هذا الحوار نقف على محاكمة الأمير الصغير للإنسان المُعاصِر، فيدين جشعه وأنانيّته وفقدانه القدرة على الحلم… هذا «الإنسان الأجوف»، على حدِّ تعبير (إليوت)، فقد الإحساس بالدهشة، وبات يرى العالم بعينين باردتين فقدتا نار الفضول من زمنٍ بعيد.

لكن الأمر الذي صدم الأمير الصغير هو: خلع الإنسان المُعاصِر على المال قيمة كبرى، بحيث بات في العصور الحديثة قيمة القيم، منه تتحدَّر القيم الأخرى انحدار الوليد من الوالدة.. هكذا يلاحظ الأمير الصغير أنّ الأشياء لم تعد تكتسب قيمتها من ذاتها، وإنّما من السوق. السوق هو الذي يقيِّم البشر، والأشياء، والبضائع، والآداب، والفنون، والعلوم.

يقول الأمير: 

وإذا قلت للكبار: «رأيت بيتاً جميلاً مبنياً بالقرميد الأحمر، وعلى نوافذه الرياحين، وعلى سطحه الحمائم…» عجزوا عن تمثّل ذلك البيت، فإذا أردت الإيضاح وجب عليك أن تقول «رأيت بيتاً قيمته ألف دينار» فيصيحون قائلين: «ما أجمل هذا البيت!».

فالبيت، ليس «جميلاً»، لأنّ على نوافذه الرياحين، وفوق سطحه الحمائم.. وإنما هو جميل، لأنّ قيمته ألف دينار. الأمير الصغير، هذا الكائن السماوي لم يفهم هذا المنطق الأرضي الغريب.. لم يستوعب قوانينه وآلياته. لهذا ما فتئ الأمير يردِّد «هؤلاء غريبو الأطوار حقّاً»..

لكنّ أهمّ إدانة وجّهها الأمير الصغير إلى الإنسان المُعاصِر تعويله على «العقل» وتهوينه من شأن القلب… فالعصور الحديثة قامت على الإشادة بسلطان العقل، وتحقير بقيّة الملكات الأخرى التي يتميَّز بها الإنسان عن بقيّة الكائنات الأخرى: مثل الوجدان والحدس والرؤيا مع أنّ هذه الملكات مثَّلت قوى هائلة توسَّل بها الإنسان لحلّ ألغاز الوجود… لهذا ما فتئ الأمير الصغير ينقد ثقافة العين ويدعو إلى إحياء ثقافة القلب / أي ما فتئ ينقد ثقافة الرؤية ويدعو إلى ثقافة الرؤيا.. ومن أقواله التي تكرّرت داخل القصّة: 

«– لا نبصر جيّداً إلّا بالقلب.. والشيء المُهمّ لا تراه الأعين.

—- ينبغي البحث بالقلب». 

ومن أهمّ الدروس التي يقدّمها هذ الأمير الصغير هو الدعوة إلى التسامح وتجنُّب التعصُّب:… فالحقيقة حقائق، والواقع ليس واحداً، وإنما هو كثير.

«للناس نجوم يختلف بعضها عن البعض الآخر، فمن الناس مَنْ يسافر فتكون النجوم مرشداتٍ له، ومن الناس مَنْ لا يرى في النجوم إلّا أضواء ضئيلة… ومنهم مَنْ يكون عالماً فتكون النجوم قضايا رياضيّة يحاول حلّها، ومنهم مَنْ يحسب النجوم ذهباً، وهذه النجوم على اختلافها تبقى صامتة، أمّا أنت فيكون لك نجوم لم تكن لأحد من الناس».

هكذا تكلَّم الأمير. فكلٌّ له نجمه: نجم الملّاح يختلف عن نجم العالم، ونجم العالم يختلف عن نجم الرياضيّ، ونجم الرياضيّ يختلف عن نجم التاجر… فالنجم واحد في الأصل لكنّه يتعدَّد بتعدُّد الناظرين إليه..

تلك هي بعض مآخذ الأمير على الإنسان المُعاصِر… لكن هل هناك مَنْ سمعها؟ هل هناك مَنْ سيسمعها؟!

 

  • عن الدوحة الثقافية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *