قراءة في رواية “رامبو الحبشي” للأرتيري حجي جابر

*دانا جودة

أكثر ما قد يجذبني في أثناء قراءة عمل أدبي هو ملامح المكان وتاريخه، إذ يدفعني للاستغراق في البحث عن اسم غير مألوف أو تاريخ أجهله أو أي تفصيل يوضح لي ما يحدث، لأعود للنص إما بفكرة أوضح وإما بارتباك لذيذ لعجزي عن تمييز الخط الفاصل ما بين الأحداث الخيالية وتلك الحقيقية!

ليس لدي أي فكرة عن أثيوبيا، ولا هرر وتاريخها السحيق، لكن رغبة قديمة في السفر إليها سياحةً تجددت بعد قراءتي “رامبو الحبشي” للكاتب الارتيري حجي جابر . أصبحت التضاريس مختلفة الآن بعد “ألماز” الثائرة و”جامي” التائه و”كلثوم” الخانعة ومآذن هرر وكنائسها وصخب السوق وألوانه ورائحة البن والتوابل والقات، وتلك الأيادي الخفية التي كانت تعبث في كل ذلك.

عدم استطاعتي تمييز ما هو واقعي وما هو خيال شكل لدي ضغطًا بألا أحكم على ثلاثي شخصيات الرواية، خاصةً “رامبو”، لأنه الحقيقي تاريخيًّا بينهم، ومع ذلك، ولأنني أومن بأن الحقيقة تختبئ في غير المنطوق والمُدون، فقد فهمتُ “ألماز”، تعاطفتُ معها ورأيت كل شيء من خلالها.

ذكرتني الرواية بشكل أو بآخر بكتاب أساطير أوروبا عن الشرق، إذ ألقى هذا الكتاب الضوء على حقيقة بعض الكُتاب الأوروبيين وكشف زور قداستِهم التي أسبغوها على أنفسهم، كـ”برتون” و”لورانس”. كان ذلك في الفترة الزمنية نفسها، حين كان أدب الرحلات يميل إلى شكل المغامرات والحكايات الطريفة، إلا أنه لاحقًا بدأ في تلفيق صور تخدم خيال الرحال وتمنياته أكثر مما تُصور حقيقة الآخرين، فاختلاق النماذج العرقية والتأكيد على حكاية الهمجي أو بلاد الذهب والتجارة كان شيئًا حيويًّا بالنسبة لمفهوم العالم الاستعماري.

صحيح أن رامبو، ذلك الشاعر الأوروبي، لم يكن مبعوثًا من بلاده، إلا أنه كان ممن تأثروا بتقفي أخبار الجنة المختبِئة خلف تلك البلاد الإفريقية، رامبو الذي أراد أن يحقق أحلامه الضبابية بعيدًا عن بلاده الباردة فحمل معه برودة عواطفه تجاه قلوب من احتملوا حلمه الأهْوَج.

هذا الشاعِر كرِه الدنيا في قرارة نفسه، وكان كالممسوس يحاول أن يُمسك بطرفها بأي طريقة، لكن كرهه ونفوره الذي وَرِثه من بلاده لم يُحطم خططه فقط، بل حطم “ألماز”، تلك الفتاة الخام التي تشبه بلادها؛ فيها من الفوران والحياة ما يُعمر السهل ويحرر هِرر ويقلب عَدَن لجنات، ولكنها أيضًا تشبه ذلك الشيء المشوه فينا، العصي على الاقتراب، الذي نعتقد أن من حق الآخرين أن يعبثوا به، وأن لهم الحق أكثر منا في استكشافه.

تجربة “ألماز” في الحب كانت متأثرة في صميمها بعلاقتها بجسدها، وتجربة الألم أُسقطت بشكل فوري على طبيعة علاقتها بجسدها، الجسد الهوية، الجسد اللغة، الجسد السرد والذاكرة والمدينة والتاريخ، التابو الذي شوه استحقاق وإدراك الذات لذاتها ومع الآخر، فأصبحت تُعطي الحق لهذا الآخر بأن يكون مرآتها، ينهلُ من خيراتها ويُلقي لها بفتات تَقنَع على مضَض أنه يكفي، فتبرر استنزافها على أنه حب، وتُفسر ارتباكها على أنه أثر السحر الواقع عليها!

تعاطفت جدًّا مع “ألماز”، وأحسَسْت بالخوف عليها، ليس من الأوروبي فقط، بل من ماضيها، من “جامي”، ذلك الماضي المشوه اجتماعيًّا وثقافيًّا وعاطفيًّا، فقد يخاف أحدنا من ضعفه أكثر من خوفه من قوة الآخر.

حاولت “ألماز” أن تهرب من هذا الماضي، لكنه لَحِق بها كأنه يقول لها لا أحد يستطيع الهرب من ماضيه. لم تتأثر به “ألماز” لأنها هربت بوعي منها، ولكنه أثر عليها بأن كان يلاحقها ويشوه لحظاتها. هذا الماضي المتمثل في “جامي” كان يُزاحمها، يُريد مِثلها أن يدخل التاريخ من خلال رسائل “رامبو”.

في منزل رامبو وقعت “ألماز” بين المطرقة والسندان، بين ماضيها ومستقبلها، فرامبو لا يريد إلا أن يعبث، لا يهمه إن كان العبث بالقلب أو بالجسد، ولا يريد إلا أن يسجل انتصاراته ويخفي خيباته بتذمره المستمر، فأن يذكر “ألماز” أو “جامي” في رسائله فهذا يعني انتصارًا لهما وإيحاءً لأمه وشقيقته باستقراره، في حين أن كل ما أراد أن يوصله هو عناءه وتعاسته في الحياة، وكأنه بذلك يُذكر بلاده بوجوده لأنه خائف أن تنساه كما نَسِيَها.

ما قامت به هذه الرواية هو تحريك عدسة الكاميرا قليلًا وتسليطها على شخص آخَر كان خارج إطارها، كاميرا رامبو صحيح أنها لم تلتقط يومًا صورة لألماز، ولكنه نسيها مفتوحة، كانت تصور كل ما ضاع بين سطور رسائله عن تلك الأرض الإفريقية، ولحسن الحظ أنها وقعت بين يدي الكاتب. ظلت تراودني فكرة طريفة أن رامبو عندما باع كاميرته لعابر، ظلت تتنقل من شخص لآخر ومن يد ليد، وكلما مضى عليها زمن تخلص منها أصحابها بسرعة إلى أن أصبحت في متناول حجي جابر، الذي قرر أخيراً أن يفتحها، ووجد ما بقي من صور لم تُحمض بعد!

استخدام اللغة وأسلوب السرد في الرواية كان يُربكني في أثناء القراءة. أحيانًا أشعر بأن الراوي العليم، عليم بما في الصدور أيضًا، فأراه لا يكتفي بسرد الحكاية بل أيضًا بتحليلها والتعبير عن رأيه. في بعض المواقف التي استحوذت علي عاطفيًا كان يُحللها عقليًّا كأنه يُريدني أن أصل إلى حكمة ما أو أن يُوصِل إلي شعورًا يشعر هو به، ولكنني لا أريد أن أصل إلى الحكمة عن طريق عقلي، بل أريد لقلبي أن يدلني من دون أي تدخل من أحد، وأريد أن أتوقف قدر ما أحتاج لِلَملمة إحساسي بالألم تجاه المذبحة التي تعرضت لها المدينة، وأريد أن أبكي “كلثوم” أكثر!

رواية ثلاثية الأبعاد. لم أستطع رؤية “رامبو” الذي أراد أن يُربِك الصورة ليظهر بها وحده، كما لم أستطع أن أرى ملامح “جامي”، الذي سيبدأ في التلاشي ما إن تجد “ألماز” طريقها مجددًا، لكنني استطعت رؤية وجه “ألماز” بوضوح، وسماع اختلاجات صوتها حتى وهي تفكر، استطعت رؤية يديها وهي تشد أطراف ردائها بعصبية وترقب، كما استطعت أن أتعرف إلى “رامبو” من خلال مشاعر ومشاهدات “ألماز”، وهذا ما تستحقه هي؛ أن تُروى الحكاية بلسانها.

* تكوين – منصة الكتابة الإبداعية

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *