* فيصل درّاج
احتضنت الخسارة برحيل عزالدين المناصرة وجوهًا متعدّدة: خسرته الثقافة العربية، وهو الذي امتدّ من فلسطين إلى القاهرة، فبيروت والجزائر وعمّان، وبقي مثقفًا لا يهادن، يواجه العَوَج، وينصر الصحيح، ولا يقترب من المؤسسات الرسمية، التي تعاقب النقد، وتكافئ الصمت، والمواقف الرخوة المتكسّبة. بقي طيلة حياته مع الموقف النقدي الذي اختاره، متسقًا صادقًا كارهًا للرخاوة والكلام المتكسّب، كما لو كان مدافعًا عن ثقافة الحقيقة وهو يدافع عن حق فلسطيني ـ تاريخي لا مهادنة فيه. وخسره الشعر الفلسطيني، في صورته الأكثر إبداعًا، فجدّد وطوّر وابتكر وأثنى عليه محمود درويش، حين قال: “إنه يحمل مشروعًا شعريًا كبيرًا قصّر عنه الكثيرون”، حتى بدا ودرويش الصوتين الأكثر علوًّا فيما عرف “بشعر المقاومة الفلسطينية”، الممتد من أبي سلمى، وإبراهيم طوقان، إلى سميح القاسم، وتوفيق زياد، ومريد البرغوثي، وغيرهم.
ومع رحيل “عزّ”، كما كنّا ندعوه في بيروت ذات مرة، خسر عارفوه وجهًا أليفًا بسيط الكلام عميق الملامح واسع السخرية. كان بعيدًا البعد كلّه عن التكلّف وأمراض الشهرة، يرى كرامته الذاتية، ولا يلتفت إلى “منصب محتمل”، ولا يحفل بإرضاء أصحاب “المناصب”، إن كان للكلمة معنى في أرجاء اللجوء الفلسطيني. كان عارفوه يلتقونه في الشارع والمقاهي وندوات بيروت الثقافية، لم يكن له مكتب خاص به، ويضيق “بالمكاتب الإعلامية”، ويجعل منها موضوعًا للسخرية.
نشر أولى قصائده في الخامسة عشرة من عمره، وعرف في أوساط الشعراء المصريين حين كان طالبًا في القاهرة. أثنوا على موهبته، واعترفوا بها، أكانوا شعراء عاديين، أو اقتربوا من شهرة صلاح عبدالصبور، الذي أثنى عليه “عزّ” غير مرة. جاءت شهرته من قصيدة نشرها في القاهرة عام 1966، عنوانها “عنب الخليل”، جاء فيها: “خليليٌّ أنتَ يا عنب الخليل لا تثمر، وإن أثمرتَ كن سمًا على الأعداء، لا تثمر..”. وجّه قصيدته إلى بلدة “الخليل”، المعروفة بتاريخها الكفاحي، وهو الذي ولد في قرية قريبة منها: “بني نعيم”، عام 1946، وبقي يتذكّر أرجاءها التي تشرف على “البحر الميت”.
كما كثير غيره من مثقفين عرب وفلسطينيين، قصد عز الدين، بعد انتهاء دراسته في القاهرة، بيروت. ملاذ الفلسطينيين الأوسع في سبعينيات القرن الماضي، وعمل في “الإعلام الفلسطيني الرسمي”، ولم يعثر على ما توقع أن يعثر عليه.
تحزّب لقناعاته، لم ينحن ولم ينجرف وراء ثقافة الاسترضاء، وتدثّر بكرامة لازمته إلى أن حسمه الموت. وليظل متسقًا مع معاييره الثقافية، رحل إلى بلغاريا، تابع الدراسة، وحصّل دكتوراة في الأدب المقارن هاجسها الحداثة وأخلاقية الإبداع، وذهب إلى الجزائر أستاذًا جامعيًا، واحتفى أدباؤها به، وانتهى إلى عمّان أستاذًا جامعيًا في جامعة خاصة، يعلّم فيها التلاميذ ما تعلّمه من الحياة.
كان مرجعًا في الشعر العربي الجاهلي والحديث، تأمل شعر العراقي بدر شاكر السيّاب، واللبناني خليل حاوي، وقرأ شعر يوسف الخال، المشرف على مجلة “شعر” ذات مرة، وأُعجب ببعض قصائده، ولم يفته التعرّف على أدونيس وشعره. أعلنت قراءاته الشعرية عن طموحه الشعري، بشكل مغاير. ذلك أن في الطموح، الذي لا ينشد الشهرة والمصلحة، مقارنة بين التقليدية والجديد والاتباعي والإبداعي وتوقًا ذاتيًا إلى ما تجب معرفته، واجتهادًا في ملاحقة مثال شعري مضمر، لا يعرفه إلا هو. ولعل ذاتيّته الطليقة، التي تمايز بين الأفكار والأشخاص، هي التي حملته على الاختلاف مع الناقد الكبير د. إحسان عباس في تعريف الحداثة ومحدّداتها. كان الناقد الفلسطيني العجوز، آنذاك، عارفًا بالشعر العربي القديم، وكان عزالدين عارفًا بالقديم مدافعًا عن الجديد. لكأنه كان يقرّر بلا ضجيج: “الاختلاف العارف من علامات النجباء”. وكان عزالدين مختلفًا واسع المعرفة واضح النجابة، وهو القائل: “القدس بوابة السماء”، محتفيًا بقدس متعددة الأبواب، ليس آخرها: باب العمود، ويخبر السماء ما أصاب القدس في زمن زنيم.
كان يقول في لحظات حوار، يطول أو يقصر: “ليس لنا نحن الفلسطينيين إلا هويتنا”، فإنْ سُئل عن معنى الهوية أجاب: “الهوية هي الأرض التي ننتسب إليها، وجدارتنا بالتمسّك بها والدفاع عنها”. كان يدافع عنها بسلوكه الأخلاقي، وبإبداعه الشعري، وبموقفه النقدي، كتابة وممارسة، منذ أن وحّد بين الكتابة والسلوك وردّ بهما على واقع يجب تغييره، أكان عربيًا كلما حاول الوقوف سقط من جديد، أو فلسطينيًا أرهقته عثرات كثيرة. أخلص في انتمائه الوطني، وفي قصيدته، وذكره بخير المستشرق الفرنسي، جاك بيرك، في كتابه “الألسن العربية اليوم”، الذي لم يكن يعترف إلا بممثلي الحداثة الشعرية العربية الحقيقيين.
لم يكن عزالدين من “شعراء المناسبات”، فإنْ كتب قصيدة في مناسبة كانت تحيل على فلسطين، من حيث هي إيمان وعقيدة وقضية. قال لي في لقاء أخير جاء صدفة في عمّان: “الفلسطيني لا يتوسّل الوطنية من أحد، لأن وطنه السليب جزء مستمر من وجوده”. ولعل تكافل شعره ونظره إلى العالم هو ما جعل من وطنه السليب مرجعًا لقصيدته المتجددة، من دون تناصٍ، أو محاكاة، أو زخرفة بلاغية نافلة. كأن يأتي “بقصيدة النثر الرعوية” (1959)، قبل أن يتحدث آخرون بسنوات عن “قصيدة النثر”، وتغدو “موضة” تُخلص لأصحابها، ولا تُخلص للشعر إلا صدفة، وأن يقترح بعد أكثر من عقدين “الكنعانياذا”، التي هي مشروع شعري فلسطيني الوازع والتاريخ واللغة. كان يجرّب ولا يصل إلى صيغة شعرية أخيرة مساويًا، ضمنًا، بين قصيدة تعتلج في صدر صاحبها، وقضية وطنية تفتش عن آفاق حميدة.
كان هذا الأسمر اللون المعتدل القامة لا يميل إلى الاختصاص، إذ في الاختصاص انغلاق، يعرف المدارس الشعرية العربية، ويجتهد في النقد السينمائي، ويوغل في قراءة الحداثة الأدبية، ويتابع ثقافة الصورة، ويهجس بمفردات اللغة العربية، ويلاحق كتابات جاك دريدا، الذي أثنى على شعر المناصرة وهو يقرأ في قاعة فرنسية قصيدته “جفرا”، ودراسات بارت، وتودوروف، ولا يرى في الكتابات المتنوعة مرجعًا له. كانت مرجعه بلدة “الخليل”، وقصيدة مشبعة بهواء الخليل، وذكرياته من بلدته “بني نعيم”، وأحلامه متقادمة متجددة متوالدة فلسطينية من الألف إلى الياء. كان يحلم ويفسّر أحلامه منفردًا.
عاش عزالدين المناصرة ما وقع عليه، لا ما أراده، وقع على منفى قاومه وبقي فيه، وعلى قصيدة فسيحة واسعة الأرجاء منفتحة على الأفق، وعلى عارفين احترموه وتعلّموا منه، ووقع على أحلام صعبة مسوّرة بالنار تتوارثها أجيال متلاحقة، ذلك أن أعداء “بوابة السماء”: أي القدس، منتشرون في كل مكان.
عبّر عزالدين عن اغترابه في قصيدة له حين قال: “لن يفهمني غير الزيتون، لن يفهمني الدكتاتور، لن يفهمني الطاغوت، لن تفهمني ميليشيا الغابات. لن يفهمني غير الليمون، لن يفهمني أحد غير الزيتون”. وكانت في الزيتون إشارةً إلى فلسطين ماضيًا ومستقبلًا
- عن موقع ضفة ثالثة