لقد أدمنت على الهروب إلى الليل بعد رحيلك يا عزيزتي


*يوسف الطاهري

( ثقافات )

الليلة هذه تصادف ليلة مولدها ، فلو كتب لها البقاء لكانت صاحبة الخمسة و أربعين سنة. ماذا عساني أطلب من الليل، من الفلك و من النجوم التي لا تعير اهتماما لوجودي. 
قلت لها يوما و هي تشع نورا ملائكيا رغم الآلام و نحن فوق السرير، و كانت على مقربة أن تتوسد صدري و يجري العناق، وخديها تحمر متأهبة لاحتضان دموع دافئة:
ـ لا تحزني عزيزتي سينحاز القدر إليك و بناتنا. ثم التحمنا وغصنا في يقين بأن حدسي صوفي ينشأ من عمق بصيرة صادقة. 
و بعد ثلاثة أعوام، فعل القدر مشيئته وغدر بها، واثبت أن حدسي خادع، لكن هذه المرة كانت وحدها فوق السرير و ليست على مقربة من صدري و من العناق.
غدر بها و خانني، و أملى علي مدة طويلة من النحيب الذي سكنني على مدار الليل و النهار حتى كادت أجفاني أن تتشقق من حرارة الدموع.
ساعة أو أقل قبل أن يُفرغ السرير الذي اعوج فيه جسدها بشدة الآلام، فاجأتها بوقوفي أمام باب غرفتها. و فور ما لمحتني رفقة ابنتها الصغيرة، ململت شفتاها و أجحظت عيناها لتدعوها للجري من أجل احتضانها. 
ثم ولت بعد ذلك وجهها نحوي ببطء وهي تكابد من أجل تحريك أطرافها. و قالت و بأسى وحزن وعيناها تصغر: 
ـ لقد تعبت كثيرا هذا اليوم، و رأيت في منامي أخي يتمسك بي عندما طلبوا مني الانتقال إلى جهة أخرى. قلت لها لا تأبهين بذلك و أنا لا أدري ما أقول.
لم أخبرها أني تلقيت التعازي من أجلها من قبل جيراننا في المدينة التي رحلنا منها، و لم أخبرها أن واحدة من بناتها استفاقت قبل أسبوعين على كابوس في منامها. و بعد أن هدأتها طلبت منها أن تحدثني عن الكابوس الذي أرعبها، فقالت:
ـ يا أبي لقد حلمت بأننا زرنا والدتي في المستشفى لكننا لم نجدها في غرفتها، وانفجرت أنتَ بالبكاء…
و قتها تذكرت أنه قبل أربع و ثلاثين سنة، زرت أخي الأكبر يوما رفقة والدي في المستشفى، فوجدنا الغرفة فارغة إلا من امرأة تنطفها. وعندما سألها أبي عن أخي، أخبرتنا أنه غادر إلى دار البقاء، ثم صرخ أبي و بكي بقوة، و راح يركل كل الأشياء الموجودة أمامه، وكل الابواب التي تصادفنا في طريقنا إلى دار الموتى من أجل إلقاء آخر نظرة على وجه أخي.
لم أطل كثيرا كي أروي لها حالتي و حالة بناتها، و أزين لها أوضاعنا حتى لا يزيد ترديه معاناتها، و أُخبرها أننا كلنا ننتظرها كي تعود إلى المنزل، الذي عانينا سنة كاملة من أجل الحصول عليه.
و من أجل خاتمة أخفف عنها من التيه في ما سيأتي، قلت لها مرة أخرى و بنفس الصيغة السابقة:
ـ لا تحزني فلك العمر الطويل و سيأتي يوم تنسين فيه كل هذه المعاناة.
و منذ أن رحلت، أدمنت على الهروب إلى الليل. 
أقضي النهار في ما ورثت عنها من مهام، ثم أهرب إلى الليل كي أرسم صورتها كما أرغب فيها، و أُرغم ذاكرتي أن تقطع من أوصالها تلك اللحظات الوعرة، تلك الآلام و المعاناة التي كانت تعيشها ونحن أمامها، يوم كنت و بناتي ندعك متنها على مدار اليوم كي نخفف من أوجاعها، يوم شحب جلدها و غادرها ذلك النور الذي رصع وجهها طوال حياتها.
كنت و أنا اراقب السماء في تلك الليالي، لا أخجل من استعادة صور لحظات العناق الحميمي، أو اللحظات الرومانسية و الهادئة قبل النوم و نحن ننشأ بأمل كبيرفي حلمنا مستقبل بناتنا، وننام ملأ العينين. 
كنت أهرب إلى الليل و كانت صورتها المضيئة، هي وحدها تملأ فضاء القمر و توسع من ضوءه على الأرض من أقصاها إلى اقصاها.
طوال الثمانية أشهر من رحيلها، كنت أراقب السماء، فأرى سحبها تجري، أما السحب الجاثمة على صدري، فهي ثابته مستقرة.
كلما حاولت اجتثاث تلك السحب، تتشتت بين ربوع الذاكرة و تنحى نحو الأمكنة السوداء فيها، و أجترع ألام مكوثها الطويل. ثم أتسائل أحيانا بحزن و تشاؤم:
ـ لماذا لا تجري تلك الرابضة على صدري و لا تنسحب كما تلك التي أراقبها في السماء؟ إلى متى سأظل أتابع تفاصيلها ناسيا أني نشأت من أجل المشي حتى تراني السماء و نجومها أمشي. إني أعرف أن القمر سيأتي غدا، و الشمس ستملأ المكان غدا، و علي أن أحفظ حلمي من الذوبان في غسق السحب الداكنة كي يقوى على ايواء ضوء الشمس و القمر…
قالت ابنتي في يوم و أنا اصطحبها بعد خروجها من المدرسة: المهم يا أبي، أنا لن تكون لي أم بعد الأن، مثل “نوريا” معلمتي التي قالت لي أنها هي الأخرى فقدت أبوها و هي صغيرة…
كانت ابنتي تقول ذلك بدون أن تشعر بي، بدون أن تدري ماذا سيخلفه قولها في داخلي من حسرة و ألم…
.قلت لها بدون قناعة أن إجابتي ستفيد في اقناعها بأي شيئ: 
ـ أمك يا ابنتي ستبقى ذكرى جميلة و هي معنا كما أبو “نوريا” معها الأن.
لهذا يا زبيدة من أجل تفادي الأسئلة العاصية الجواب، اضطررت إلى الإدمان على الهروب إلى الليل…و أراقب السحب و ضوء القمر. و قناعة واحدة ألهمني بها الليل هي أن السحب الداكنة السواد لن تفلح أبدا في حجب ضوء القمر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *