الناقد الأردني مصلح النجار يعالج العلاقة بين شعرية الصورة وسؤال الشعر

بحثاً عن تجليات القصيدة البصرية في الشعر العربي الحديث

الناقد الأردني مصلح النجار يعالج العلاقة بين شعرية الصورة وسؤال الشعر

  • د. شهلا العجيلي

يطرح منذ عقود السؤال حول الشعر، إذا ما كان أفل حقاً، وولى زمنه، بحلول زمن الرواية مثلاً، أم أنه تعقد وتعالى على التداول، وصار نخبوياً، بحيث لم تعد الحالة الثقافية الرخوة في العالم قادرة على احتمال العمق المعرفي الذي يحتاجه ليتصف بالسمو. سمعنا ملاحظات عبر العالم عن أن العبقريات الشعرية تلاشت، وقد غادر الشعراء من متردم، كما ذكر عنترة العبسي في مطلع معلقته منذ حوالى ألفي سنة، وهو ذاته العجز عن الابتكار والوهم والخيال، الذي أشار إليه هربرت ريد في “طبيعة الشعر”، ولا بد من أن نذكر مؤثراً آخر أدى إلى إزاحة الشعر من مكانته، وهو الجرائم التي ارتكبها في حقه الـ “مديوكرز”.

يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات ببحث آراء الشعراء الذين تقصوا كنه الظاهرة الشعرية، إذ يقول غوته، “تصاغ الموهبة في العزلة، أما الشخصية الخلقية فتصاغ في تيار العالم”، ولعل شعراء ما بعد الخطابية عجزوا عن العثور على العزلة التي لا يوفرها صخب العالم اليوم، ولم يتمكنوا من تجنب درامية الحياة المتصاعدة، فتضاءلت الفردية التي يحتاجها الشعر، وقد يفسر هذا اتجاه كثير منهم إلى الرواية، التي هي فضاء حق للشخصيات الخلقية التي أشار إليها غوته.

تغير المتلقون أيضاً، فمن أين لنا اليوم الجمهور الذي وصفه الإنجليزي كيتس، إذ قال في رسالة إلى صديق له في عام 1817 مسوغاً كتابة القصيدة الطويلة، “ألا يحب عشاق الشعر أن يكون لديهم مستراد صغير يتجولون في رحابه حيث يمكن أن يقطفوا ويختاروا”!

thumbnail_القصيدة البصريّة.jpg
الكتاب النقدي (دار ضفاف والإختلاف)

تأتي في هذا الإطار دراسة الأكاديمي الأردني وأستاذ النقد الأدبي الحديث في الجامعة الهاشمية، مصلح النجار، وعنوانها “القصيدة البصرية في الشعر العربي الحديث” الصادرة عن (ضفاف، ومجاز، والاختلاف) 2021، لتحكي حكاية الشعر العربي في خروجه من الحالة الوظيفية إلى الحالة الجمالية، ليتغيا إرضاء الحس الجمالي لدى المتلقي، من غير أن تكون ثمة منفعة خاصة أو غرض معين سوى المتعة الجمالية، بحيث يمكن أن يُقرأ من خلال المفاهيم الجمالية لا المناهج  اللغوية الاجتماعية.

 ظواهر التجديد

يرصد الكتاب الظواهر التجديدية الي أثرت في السمت البصري للقصيدة العربية الحديثة، سواء أكان ذلك بتأثير أجنبي، كالتشكيل والتجسيد الصوري، الذي يعود إلى التأثر بفن الـ “إكفراسيس” الفرعوني أو الإغريقي، والذي يعني خارج الكلام، ويسميه بوجمعة العوفي بكتابة التصوير، أم كان تراثياً كالخط والزخرفة الذي يعيده (عبد اللطيف الورواري) وثلة من الباحثين إلى الأصل الإسلامي للشعر البصري، حسب إشارة النجار. يدرس الكتاب الخروجات الفنية منذ المحاولات الأولى لها في عصر الدول المتتابعة، ثم في بداية القرن العشرين، مروراً بحركة الحداثة، حتى عام 2020، وهو يغطي التجارب من معظم البلاد العربية، وقد ركز على تمثيل الظواهر الفنية التي اتكأ عليها شعراء كثر في التشكيل البصري لقصائدهم، من الجسم الطباعي للنص، وهو الهيئة البصرية، والمحسوسة أحياناً نتيجة تأثير الـ 3D في عملية الطباعة، إلى الرسم الذاتي، أو توظيف لوحات الآخرين، وهي عناصر ذات دلالة لا تقل قيمة عن المفردات، “إن الرسومات والأشكال تختصر عدداً كبيراً من المفردات، بل تفتح أفقاً جمالياً نحو مزيد من التجريد”، وسنجدها في تجارب كمال أبو ديب، وفاتح المدرس، وشريف خزندار، وأدونيس، وفي هذا الحديث، الذي يورده الكتاب، بين أدونيس وفاتح المدرس، يحكي فاتح عن العلاقة القوية بين الشعر والرسم، إذ يعيد كلاهما الأشياء إلى أصلها بتفكيك الرموز أو فصم علاقة الدال بالمدلول، “لأنك تصف ميكانيكية شعورك… ترسم الشيء الموجود داخل الشجرة وليس الشجرة، أنا أقول، ترسم الشجرة الجديدة… عند الرسام يدخل هذا الشيء الجديد في الصورة البصرية، وعند الشاعر يدخل في الصورة الذهنية”.

 أما الاختلاف بين الشاعر والرسام فيكمن في العلاقة بالفلسفة، فالشاعر لا يحرم الوجود من الفلسفة، لكن يضع فلسفته بشكل لطيف جداً، بينما الرسام يشطب الفلسفة، ويريد أن يكون كحارس لا مرئي خلف اللوحة”. لعل هذه الفلسفة الجديدة الكامنة، هي ما لا يطيقه الجمهور العادي، أو جمهور الشعر التقليدي الذي مازال يناقش وجود قصيدة النثر، أو الذي اصطدم مرة بجدارية محمود درويش فتوقف. يتطور الشعر بغض النظر عن تطور العالم، أو عن تطور المتلقين، لقد ودع رامبو في “فصل من الجحيم” الشعر الغنائي والإيقاعات الساذجة، وغرائب السلوك، وحتى الاستبصار، وانتقل إلى “الإشراقات” حين درب نفسه على إيجاد علاقات جديدة بين مفردات العالم، مغيباً الوعي القديم به  كالطفل، حيث الحرية، والتجربة المنعزلة لكل نص، والقصائد متعددة الإلهام، الغريبة عن بعضها بعضاً، التي تصور المادة بنصف الحقيقة ونصف الخيال، وتقدم رؤية غير مألوفة للمألوف، بجمالية تخلص الفن والروح من التحديدات التي فرضتها التصورات المعنوية وليس الواقع المادي فحسب.

يفسر النجار الوصول إلى الجمالية المنشودة عبر حضور التشكيلات في النص اللغوي بجمع المحسوس والمجرد، وكذلك المجرد والأكثر تجريداً، فكل أثر فني يقودنا إلى ما هو أبعد منه، إلى عالم سحري رومانسي يمثل رؤية تقتلع حتى الجذور، لقد أشار كولريدج مرة إلى أن “الألوان والموسيقى والحياة التخييلية والانفعال كلها شعرية، أما المادة والترتيب ففلسفيان”.

ينقسم الكتاب إلى بابين بعناوين كثيرة حول معابثات العنونة، والإهداءات، وتضمين اللغات الأخرى، والحضور الرمزي للثقافات الأخرى، بحروفها ونصوصها وإشاراتها، والعنوانان العريضان هما، معمارية السطر والكلمة في الأثر البصري، والتشكيل بالموتيفات البصرية، وقد جاء في 350 صفحة أما التجارب التي خضعت للبحث فهي لمئة وأحد عشر شاعراً منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ولثلاثة وعشرين من النصف الأول.

* عن اندبندنت عربية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *