* كوثر الزعبي *
أنت الطريق..والعارف بالطريق أنت الخارطة..وأنت الحب كل الحب. ( ابن الرومي)
استهليت بهذه الانشودة ، لعلها تقودني لمدخل الحديث عن روحه الطاهرة ، فقد كان الله طريقه والخارطة، وكانت روحه الحب، الذي غمر به كل من حوله ومن عرفه فكان متلفاً قلوبنا برحيله.
كان له هاجس عام لم يشغله عنه شاغل، كان يقضي جل وقته بين الكتب يغوص بالأزمنة وهو يشنف لصوت العقل في ثنايا صفحاتها. وحين تلقاه كانت ترف الابتسامة محياه وكأنك تقرأ ذات الوقت بحزن عينيه . موت هيباتيا ومقتل الحلاج وكتب ابن رشد المحروقة، .وما زال الجنون يلف العالم
رحل وبفمه نداء لأولي الألباب .
في الحديث عن علامة مثل المرحوم أنور الزعبي ، يبقى الكلام حاسراً أمام هذه الشخصية الفريدة بكل معنى الكلمة ، ويظل بعيداً كل البعد عما آل اليه مسعاه ، لما كان عسيراً مشواره الفكري والثقافي في سبر أغوار عصت عن بلوغنا. وقد كان رحمه الله غواصاً فذاً في دياجيرها، و لكني سأسلك ظل روحه لعلني أوفي لقلبه ولقلمه بعضا من نبض.
أدرك رحمه الله ، مأزق الثقافة الانسانية ، فقد كتب عدة مؤلفات سلسلة في تنظير مشروعه التنويري في مواجهة المشهد الفكري والثقافي الذي تكرر انحرافة عن جادة العقل، وأحتدم به تلاطم الغربة والتطرف الفكري، وخلق المفاهيم التي تعيد الثقافة والفكر والفلسفة الى رشدها ، وقد نبه رحمه الله أن المأزق لا يتمثل في الأفكار أو المعتقدات في حد ذاتها، فكثير مما يعتقده الناس حق، ولكن المأزق يتمثل في العقل المسلم العاجز عن إدراك الحق وعن تطوير معارفه.
لم يأل جهداً في نبش التراث لعله يجد ضالته ، فكان له ما كان حيث حقق ما لم يستطع غيره أنه يحققه فقد سعى سعياً حثيثا في إحياء المفاهيم واعادة المرجعية للعقل والعلم والفصل في التحليل والتفسير والمنهج، فقد قدم قراءة بحثية لابن تيمية محاولاً الاجابة عن اسئلة فلسفية مفصلية والذي بدوره نقد المقولات الفاسدة في المنطق الارسطي وقدم منهجية ابن حزم التي رأى أنه بوسعها تخليص العقل المسلم من الخلط الحاصل في فهمه واستيعابه للحقائق.
كما حاول الإجابة على ما هي حقيقة العقل.الآلية التي بوسعها أن تعزز ماهو حق مما هو باطل وبوسعها تطوير المعرفة مما اشغله بالعقلانية ليعمل على تفنيدها وتخليصها مما ليس منها وذلك برصد الموقف من ناحية شمولية ومن ثم محاولة تحديد الخطوات والإجراءات التي تكون بها العقلانية عقلانية فعلاً، فكان أن قدم منهجية ابن حزم التي رأى أن بوسعها تخليص العقل من الخلط الحاصل في فهمه واستيعابه فبدلاً من الافتراضات والزيادات التي لا مبرر لها وبدلاً من تنحية ما لا بد منه لجأ ابن حزم إلى تلك المركزية التي بها يكون العقل عقلاً، فوجدها في الأوائل الحسية والعقلية التي وجد الإنسان نفسه يعانيها ولا يملك لها دفعاً ولذلك نهض الدكتور أنور الزعبي بهذه المهمة لأنه كان يرى أن التمييز بين الروية المنهجية الدقيقة لكل من الطبيعة والشريعة.
ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﮫ اﻟﻤﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﯿﺔ واﻟﻌﻠﻤﯿﺔ واﻟﺪﯾﻨﯿﺔ ﺗﻮﺟﮭﺎت ﻣﻌﺮﻓﯿﺔ ﻣﺘﻤﯿﺰة ﺗﺘﺼﻒ
ﺑﺎﻻﺗﺴﺎق واﻟﺘﻜﺎﻣﻞ واﻧﮭﺎ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ اﻟﺘﻮﺟﮭﺎت اﻟﺘﻲ ﻋﺮﻓﺖ ﻗﺒﻠﮫ او ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺎﺋﺪة ﻓﻲ ﻋﺼﺮه وﻗﺪ ﻗﺎﻣﺖ ھﺬه اﻟﺘﻮﺟﮭﺎت”اﻟﺤﺰﻣﯿﺔ” اﻟﻰ اﻟﺠﻤﻊ ﺑﯿﻦ اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻨﻘﻞ وﺑﯿﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﺸﺮﯾﻌﺔ ﺑﺪون اي ﺷﻐﻒ ﺑﺎﻟﺘﺄوﯾﻞ. وفي كتابه في مفهوم «التهافت» عند الغزالي وتهافت «تهافت التهافت» عند ابن رشد: أن مسألة السببية عند الغزالي تعود في اصلها إلى معالجة مشكلة الإستقراء العلمي، الأمر الذي يجعل المسألة في سياقها الصحيح، ويجعل من معالجة الغزالي لها معالجة ذات أصول علمية صحيحة، حيث خلص من خلال فحصها، ومقابلتها ببعض تعلقيات ابن رشد، الأمر الذي أدى إلى بلورة نظرية الغزالي في السببية، على أساس من الإقرار بها، ولكن على نحو مختلف عن إقرار ابن رشد لها في كتابه تهافت التهافت .. هو أن ابن رشد لم يكن محقاً في انتقاده للغزالي في موضوع السببية، بل إنه لم يفهم هذا الموقف، معتبراً أن الغزالي، بشكل أو بآخر ممن ينكرون السببية. وعلى هذا فإن ابن رشد يكون متهافتاً في هذه المسألة.ولما كانت المسائل التابعة لها، كالقول بقدم العالم وأزليته، وغيرها، مبنية على هذا الفهم الخاطىء للسببية، فإنها أيضاً متهافتة ، هذه نبذة عن واحد من مؤلفاته لا يتسع المقام هنا للإفاضة .
كما يعتبر كتابه ظاهرية ابن حزم من المراجع العلمية الهامة لطلاب الدراسات الإسلامية والفلسفة ، وله مساهمات هامة في اصدارات المعهد العالمي للفكر الاسلامي باللغة العربية ، (تيارات الفكر العربي الإسلامي المعاصر وتحولات العصر وتداعياته (. أورد بعض ما جاء فيه إذا كانت العقلانية الإسلامية قد مارست تجربتها فيما مضى على نحو مفارقٍ للعقلانية اليونانية، فإنَّ العقلانية الإسلامية المعاصرة تطمح كذلك إلى المباينة والقطيعة مع عقلانية الغرب، وهنا يسأل رحمه الله “هل يمكن الشروع في تحديث الفكر العربي الإسلامي دون الإحاطة الشمولية به، والوقوف على أصوله، واستعراض رياداته، ومعالم مسيرته، ومواكبة تطوراته وتقلُّباته حتى عصرنا الراهن؟” وقد حاول الاجابة بتقديم منهجية نقدية يرى أنها ملائمة للتحديث، تقوم على سبْر مفاهيم أساسية وفحصها فحصاً دقيقاً.
والدكتور أنور الزعبي شغل مناصب عديدة في وزارة الثقافة الأردنية، منها مدير مديرية التبادل الثقافي، ومدير مديرية ثقافة العاصمة، ومدير الهيئات الثقافية، ومساعد الأمين العام، ومدير مركز المعلوماتية الثقافية، ومستشار وزير الثقافة. وكُلّف، أيضاً، أميناً عاماً لوزارة الثقافة بالوكالة، واشتغل رئيسا للمجلس التأسيسي لنقابة الفنانين الأردنيين، ومحاضراً أكاديمياً غير متفرغ في الفلسفة والفكر والحضارة في جامعة فيلادلفيا. وكان أعدّ وقدّم برنامج التنوير في الفكر العربي الإسلامي.
في عام 1997 كان رئيساً للجمعية الفلسفية الأردنية، ونائباً لرئيس النادي العربي للثقافة والتنمية عام 1992، ومقرر لجنة مستقبل الثقافة العربية في الشارقة عام 1998.
ومن مؤلفاته “مسيرة المعرفة والمنهج في الفكر العربي الإسلامي” الحائز على جائزة فيلادلفيا لأحسن كتاب عام ألفين وستّة، “رسائل في المعرفة والمنهج (المقدّمة)”، “ظاهرة ابن حزم الأندلسي: نظرية المعرفة ومناهج البحث”، “مسألة المعرفة والمنهج عند الغزالي”، “واقعية ابن تيمية”، “في تحليل المفاهيم: جزءان”، “تيارات الفكر العربي الإسلامي المعاصر وتحولات العصر وتداعياته”، “العقل والعقلانية الشاملة في الفكر العربي الإسلامي”.
وللراحل مؤلفات مشتركة منها: الثقافة والعولمة، نحو نظام معرفي إسلامي، المشروع الثقافي النهضوي العربي، مستقبل الثقافة العربية، الفلسفة في العالم العربي، تشكيل السياسات الثقافية، العطاء الفكري لأبي الوليد بن رشد، الثقافة التنمية، نحو قراءة عربية للتاريخ والحاضر.
قيل عنه رحمه الله هذا الرجل الذي غادرنا سريعا وكأنه اراد ان يطوي اوراقه دون ان يستأذننا ويقول لنا بأن الحياة مشروع خطر ولا بد من التعامل معها بحذر ، انور الزعبي طاقة فكرية فلسفية تمتلك كل اسلحتها الحيوية حينما يكون حاضرا وعزاؤنا اننا نعيش مع كتبك التي نقرأها لكي نسترد الحياة على وجهها الجميل.
كم كنت ذات حظوة بأن كنت شقيقة له ارتويت من منهله، فكان لي الحظ الأكبر من الحزن لفراقه ، لكن من كانت مرثيته فكرة وهاجة من شمس الحقيقة فهو حاضر لا يمضي.