قراءة في رواية ليلة النار لـ: اريك إيمانويل شميت، ترجمة: لينا بدر

( ثقافات )

* د. ريمان عاشور

تساءلتُ بعد المضيِّ قليلًا في هذه الرواية: ما الذي سيضيفه فرنسيٌّ لم يعش في الصحراء ألبتة، ولم يك ابنها يومًا، وما حمل تراثه فصلًا عن فصول الصحراء وطبيعتها ومزاياها، ما الذي سيضيفه إلى عربيَّةٍ نشأت بين أبيات شعرٍ انغمست في الصحراء وتقلُّباتها وسحرها نشأةً قراءئية لم تبقِ على ثقب فيها إلا وسدَّته حقيقةً ومجازًا؛ حتى امتلأ وعاء عقلها وفاضت فجوات مخيلتها، بعبق الصحراء وتفاصيلها الصغيرة وحركة سفنها وطبائعهم وأسمائهم مصحوبةً بمراحلهم العمريَّة التي جعلت لهم اسمًا جديدًا كلَّما تجاوزوا عمرًا أو حالةً بيولوجية معينة كالرضاعة والولادة والصبا والشيخوخة والمرض والفقد والحزن، وما إلى ذلك..
وإذ بي أقرأ رجلًا يمحو تصحُّر نفسه وروحه، مع كلِّ خطوة قطعها في صحراء الجزائر، حتى بلوغ ذروة الحدث وتأزُّمه على الصعيد الروائيِّ الذي شكَّل مرحلةً انتقاليَّةً حاسمةً في حياة الراوي، قلبت حياته وأنبتت إيمانًا جديدًا في نفسه كان قد حاربه وأنكره طوال حياته حتى بلوغ تلك اللحظة..
وجرتْ بي مراكبُ العادة ألَّا أقرأ نقد أحدهم أو قراءته لنصٍّ أدبيٍّ ما، إلَّا بعد فروغي من قراءتي وحدي حين أبحر ومدادي ومباضعي بين تلاطم أمواج بحر ذاك العمل فاصطاد منها ما أصطاد، ثمَّ أتقهقر إلى ما كُتبَ عنه، أقلِّبه وأناقشه مع نفسي، فإذا ما صادف أن وجدت تقاربًا بالرأي بيني وبين الآخر السابق ذاك، أشرتُ له ووثَّقت قوله في الهوامش لأدَّعمَ رأيي الذي بلغته واعتمدته، وإن لم أجد قدَّمتُ قراءتي علَّها تسكنُ زاويةً أخرى وتشعل شموعًا ما أشعلت من ذي قبل..
وأنا في فعلي ذاك أشابه نفسي حين لا أحكم على أحدهم من رأي الآخرين فيه، فقد تُبنى آراؤهم على قُصْر نظرهم أو طوله في الفصل بين حَسَنِه ورديئه ، أو لعلَّه عاملهم بما عاملوه، وبانَ لهم كما بانوا له، وأظهر لهم ما استحقُّوه من إظهار..
وهكذا فعلتُ مع هذه الرواية، التي ما إن فرغتُ من قراءتها والكتابة عنها حتى رحتُ أفتِّش في (العمِّ چوچل) عمَّن كتب عنها، ففوجئتُ بأحدهم ممن وقعت عيني عليهم، وقد صنَّفها على أنَّها ضربٌ من ضروب أدب الرحلات، وكم استوقفني هذا التوصيف واتخذتُ عليه مآخذ جمَّة، قد لا يتَّسع هذا المقام للخوض فيها، إذ هذا ليس همِّي ها هنا..
وفي كلِّ رواية قرأتها وجدتها قد ضمَّت بين ضلوعها حكاية، بيد أنَّ بعض الحكايات لم ترتقِ لأن تكون روايةً..
لم أستطع المضيَّ سريعًا في قراءة هذه الرواية.. أثقلتني حركة الجمال البطيئة في الصحراء.. علقتْ قدماي وسط الرمال مع كلِّ خطوة رافقتُ الراوي بها فتباطأت خطواتي، وقد انفتق في رأسي كثيرٌ من الأسئلة النابعة من بركان كلِّ فقرة تفجَّرت أمام ناظري..
أسئلة حول المترجمة لينة بدر..
وأخرى حول بعض الجمل المفتاحيَّة، بل الجرسيَّة التي كانت تنقرع بعد كلِّ صفحة تطوى..
تساءلتُ مرارًا: هل نروي حين نروي تدافُعَ الأحداث فعليًّا من حولنا ونضمُّها مع انفجارات دواخلنا التي تواكب الحدث الخارجي؟
أم أنَّنا حين نعيد حياكة الرواية نقدِّم خطوةً ونؤخِّر أخرى لتبينَ كما استقرَّت في أنفسنا وأذهاننا..
لقد ردَّد الراوي جملة:” في مكان ما، ينتظرني وجهي الحقيقي” غير مرة في الثلث الأول من الرواية، تحديدا ص٣٧-ص٣٨-ص٤٠
وقد كان حينها عند العتبة الأولى من تلك الرحلة الصحراويَّة التي خاض غمارها مع مجموعة من المكتشفين وصديقه المخرج، وآخرين بقيادة أحد الطوارق الخبيرين بالارتحال في الصحراء الجزائريَّة والإبحار بين أسرارها وغموضها ومخاوفها ومخاطرها..
لم أشعر بكلمة تجربة تتحوَّل إلى كثبان رمليَّة متحرِّكة تحاول ابتلاعي ومضغي مثلما شعرتها اليوم أثناء قراءة هذه الرواية..
أيجدر بنا أن نعيش التجربة فعليًّا بحذافيرها ومخاطرها، وكلِّ ما فيها من انكشاف واحتلال وحفريات وتغيير، حتى يستدعي ذلك مواجهة أنفسنا واكتشاف ماهيتنا وسرَّ وجودنا ومن نحن حقًا!
بعد أن كانت تفاصيل الحياة قد ابتلعتنا دواماتها، وما تفقَّدنا أنفسنا للحظات..
من نحن حقًا! ولمَ نحن هنا! ومن يجب أن نكون حين نكون؟ أم نستسلم هكذا ونسلِّم أطرافنا لتيَّارات الحياة، تجرفنا كما تشاء أن تجرف وتقذفنا حدَّ شواطىء النسيان!
وقد تعانقك قناعاتٌ كثيرةٌ، وأحاديثُ نفسٍ متباينة ومتلوِّنة، وأنت تعبر الرواية حين تلفي حقيقة أنَّ للبشر جميعهم كنهًا واحدًا، وجوهرًا متماثلًا يلتقون في رواقه لطرح أسئلة متشابهة ومتقاربة..
إذ تزداد نقاط تقاطعها وتشابكها كلَّما بلغ البشر المبلغ نفسه أو شبيهه من العلم والمعرفة، وينكشف ما وراء سجوف عوالمهم الإنسانيَّة العميقة في التوق نحو تفسير الكون وسرِّ الوجود وبواطن الظواهر الكونيَّة والبشريَّة ومسبِّباتها ومآلاتها..
وتنقرع أجراس الشكِّ بعد كلِّ درجة يسمو فيها العارف نحو كنه المعرفة..
لعلَّ الصحراء في انفساح أمدائها، وهدوئها الصارخ، وليلها المنجلي والكاشف عن اللا نهائيات؛ تُعدُّ خيرَ بيئةٍ جغرافيَّةٍ تكتنف رحلة البحث عن الذات، في الوقت الذي يظنُّ العابر فيها أنَّه يستكشفها، وإذ بها تنثر رذاذ سحرها عليه؛ لتجعله يرتحل مستظهِرًا نفسه، سابرًا أغوارها قبل أن يستكشف الجغرافية من حوله..
ولعلَّ ذاك هو نفسه السِّرُّ الكامن وراء سحر الأشعار التي وصلتنا من شعراء عاشوا في الصحراء، وكانت منبعَ وحيهم وسرَّ رهافة حسِّهم وتماسك قصائدهم، التي لملموا فيها أشلاء متراميةً من حولهم، يقرأونها قراءة المتمعِّن والمفكِّر والمتفكِّر والفيلسوف وطالب المعرفة، ثمَّ يعيدون صياغتها وسكبها في نصوص محسوسة ملموسة تُعيد إليهم الشعور بالوحدة بعد التشظِّي، وتخلِّد قراءتهم الكونية تلك..
حينئذٍ تأتي كلُّ قراءة اكتشافًا جديدًا للكون والوجود، كما تكون كلُّ كتابةٍ تخليدًا لذاك الاكتشاف ونقطة بدء لانطلاقة قراءات لاحقة.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *