الكتب يا أمّي

  • قاسم حدّاد

غرقت عيناه، في غضب مكبوت. كل ثروتي وآخر الشواطئ. جمعتها ورقة ورقة منذ بدأت القراءة. كيف يمكنني إعادة بناء ذلك العالم المترامي الأطراف والفضائل. يا ولدي تصور نفسك في موقفي. لم أكن وقتها أكترث بأي شيء سواك. خشيت عليك أنت. أنت فقط. لوّح بكل روحه في وجه الأم. ودسّ رأسه في وسادة قديمة، كان لا يعرف النوم عليها، بسبب رفقة تسهر معه حتى الساعات الأولى من الصباح.
أنا وحدي.
أي قيمة تكمن في هذا الجسد الوحيد في مواجهة عالم الأسلحة. جسدٌ عارٍ وحيد.
كانوا يلتقطون أصدقاءك واحداً بعد الآخر، وكل ورقة في الدار تمثل إدانة. وأنت تكدّس فيضاً من الكتب، تخيلتُ أن كل كتابٍ كفيل بإبعادك عني، عام واحد، شهر واحد، وحتى ساعة واحدة. لابد أن ذلك يعني غيابك في حيث لا أدري. وقد أكون أنا قد متُّ خلال ذلك.
هل أوارب الباب، وأضع يدي على خدي.
أنتظرهم وأنساك؟
لو أنك تعرف ما الذي كان يجتاحني من عذاب. توقف عن البكاء يا ولدي. لم أرك تبكي منذ وقت طويل.
كيف لها أن تفهم. وليس هذا البكاء سوى تهويدة لجثةٍ لا تعرف النوم ولا اليقظة.
أبكي لئلا أحترق، أبكي. لو أن الإنسان يتمكن من العودة إلى الطفولة، لكنت بدأت من حيث كنت. ألتقي بالكتاب الأول. ذلك الذي أخبرني للمرة الأولى عن شكل الكلمات وتحولات الحروف. عندما لم يكن للجسد شكلٌ، سوى التميمة الأولى أمام الجبل. وقتها ضعت.
أوشكت على الخروج من أشلائي المتناثرة. وتماثلتْ أعضائي للشفاء من الاقتداء بالأسلاف. وعلى شفير الهاوية تداخلت الرؤى. هذه بوابة مشرعة لأحلامي.
ولم أكن أعلم. لم أتعلم. لم يعلّمني أحد. وكل من حولي كانوا يعمهون في غيهم، تتشظى على جسدي شهوة الاكتشاف والكشف. قلتُ، لي أن أندفع في الأسرار. وهربت من جسدي القديم. ذلك الجسد الذي أخذت منه وأعطاني وتعاطاني في حضرة الناس والمسافات، واختصرَ لي الفصول.
ليست سوى نزهة تبدأ في الشتاء وليس الصيف نهاية لها. وهو يرقب اختلاجاتي. يرقبني عقلاً طائراً، ليس مجنوناً ولا عاقلاً. ليس شاكاً ولا واثقاً. يرقبني ويهدي خطواتي. حيث لم أكن أعلم ولم أتعلم ولم يعلّمني أحد. تهتُ في مطارداتهم لي. يعمهون ولا يريدون لطريقي هداية. أقول ما الذي تفعلون. فينهار حولي دمٌ وحجارة وجنائز. ركضتُ هارباً من الشتاء والصيف، ومن الغيّ الذي فيه يتخبطون.
ركضتُ وشهوة الذبح خلفي. أقدامُ بهائم وحبال تشدّ أعجازهم إلى القعود. ثقيلة كالرصاص. وليس فوق الكتفين إلا صلصلة القيود والسلاسل. ركضتُ أبحث عن فيء أو كوخ يحمي سريرتي. تعبوا وما تعلّمت. اهترأت الصحراء تحت أقدامي. أركضُ مثل غزالةٍ وهم يلهثون خلفي، يستافون الرمل والحجارة. وهدأتْ روحي في جبلٍ فتح لي فسحة من الراحة. اختلجَ الدمُ وانداحت الأخلاطُ والعناصر. وباغتوني بما يشبه الصوت والضوء والمرايا. أقرأ، ليس كلاماً ولا إشارة، ولم يكن هناك أحد، فقط اقرأ والجبل، يتأرجح كالقذيفة.
قلت له: لستُ.
قال اقرأْ،
فقرأتُ.
ومن ساعتها تخثَّر وقتٌ عميقٌ أكثر اتساعاً من البحار في روحي، ورأيت روحي تهدأ كما لم تهدأ أبداً. كأن هدأتها الأخيرة، رأيتها تتقاطر على جسدي أوراقاً وكتباً وأقلاماً وكتابات. صار جسدي صفحة تتلقى الكتابة وتتسع لغيرها. كتبٌ على جسدي، كل فاتح تاريخاً وكل كاتب كتاباً وكل نبي سِفراً. يظل لي هذا الجسد الناحل الذي تتعب فيه الحروبُ ولا يتعب.
قرأتُ وازدحمتْ طرقاتي وخطواتي بالكتب.
ويوم سمعت أمي وقع خطواتَهم في ظاهر المدينة خشيتْ عليّ. قالت هذه هي الكتب التي ينصبون عليها مقصلةً لرأس ولدي.
وأراه يجهش بالبكاء كطفلٍ تركوه وحيداً في الدار وذهبوا في اللهو. لكن يا أمي أين ذهبتم بالكتب، ماذا فعلتم بها.
انسَ الأمر. ستكبر وتنسى الكتب. لكن ستفهم. لقد كنتُ على صواب. حشرتهم في عربة. وفي منتصف عمق أحد عيون الماء العميقة، سوّدتُ بها البياض.
إنها هناك، حيث لن يكتشفها أحدٌ أبداً بعد الآن.
ولن يستفيد منها أحدٌ أيضاً.
أعرف ذلك.
لمَ تفعلين بي كل هذا. لقد أمضوا تاريخاً كاملاً يسعون لكي أتذكر شيئاً. لئلا أقرأ شيئاً عنهم. طاردوا خطواتي لكي يصير ذلك.
قاومتهم وها أنت تحققين لهم ما أرادوا بكل هذه السرعة البسيطة. هل صدقت، أنهم سوف يخسرون دليل الإدانة الآن.
آه يا أمي إنهم لا يريدون شيئاً أكثر من ذلك. تعبتْ أعضائي وأنا أركضُ أمامهم وهم يلهثون ورائي. الكتب التي هناك كانت كل ثروتي وكل قوتي وأسلحتي أيضاً.
لقد هزمونا يا أمي.

كاتب من البحرين

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *