الجريمة – قصة قصيرة

( ثقافات )

* حفيظة قاره بيبان – بنت البحر

جلست أمامها أخيرا، بيننا المكتب الأبيض الفسيح. اِبتسمت لي سائلة عن أحوالي، مسندة مرفقيها إلى المكتب الرّحيب، بعد ألقت نظرة على بطاقتي. أسرعت بالتخلّص من الإجابة، لأقول لها أنّي بخير. وبنبرة اِبتهاج طارئة في صوتي، أضفت:

  • بدأت أكتب رواية جديدة!..رواية تنتهي بجريمة! …لهذا فقط، أتيتك! بطلتي مريضة نفسيّة!

تأمّلت وجهي عميقا وطيف اِبتسامة يمرّ ويتلاشى على وجهها. اِنتظرت بوحي، كما اِعتادت طيلة سنوات تردّدي عليها في المكتب الهادئ الدّافئ بموقد ورحيب، يتعالى أمامها لهيب النّار الأزرق والوردي. لهبات تتعالى وتتعانق وتضيع ذؤاباتها في دخان شفاف، يتلاشى في سماء المدفأة العريضة الأنيقة.

توقّفت أوّل مرّة شاهدتها، أتأمّلأ الجسد الناري الراقص، مأخوذا بسحر النّار الملون الأخاذ يتعالى خلف الزّجاج الصّقيل.

  • ما أجمل نار موقدك!

لم أتمالك عن الإعلان عن إعجابي، بعد أن بُحْتُ بكلّ ما كان يرهقني، وتركتها تكتب لي وصفة الدّواء بينما كنت أتأمّل اللّهب الملوّن المتعالي. رفعَتْ رأسها واِتّسعت الابتسامة في الوجه المطمئنّ الجميل.

  • إنّها مدفأة كهربائية!

اِندهشت يومها لروعة التمويه، ومكر الخيال يتآلف مع كائنات المكتب الحقيقيّة:

الكنبة العريضة المُغلّفة بالمخمل الأخضر الفستقي في الزّاوية قرب الموقد، الوسائد المربعة المتناثرة، صغيرة، برتقاليّة وأرجوانيّة تفتح أفقا ملوّنا حالما يريح نظر المتعبين القادمين إليها ناشدين الشّفاء.

تخلّصت سريعا من حالتي، وشرعت أقصّ عليها بعض مفاصل الحكاية التي عنها أكتب، والتي لا أكشف عنها عادة لغير الورق. أنهيت سائلا عن أسماء الأدوية المعالجة لمريضتي بطلة الرواية، وتأثيراتها الجانبية، حتى لا أترك خللا أو مكانا للصدفة وأتقن حبكة روايتي.

أضفت سائلا أخيرا متثبّثا:

  • أيمكن أن تصل بها الحالة المرضية إلى…الجريمة التي سترتكب والّتي خطّطت لها، في ذروة الرّواية، بعد اِختفاء حبيبها واِنتشار أخبار الاغتيالات في البلاد؟

تأمّلتني مهلة، وعيناها اللّوزيتان العميقتان تجولان في وجهي، ببعض اِرتياب، سرعان ما غاب، قبل أن تجيب بنبرة هادئة مطمئنة أمام تلاشي علامات اِنهياري وعودتي بشغف للعمل والكتابة.

تعلقت بوجهها المريح، وأشهرت قلمي مستنفر الحواسّ، ألتقط كلّ كلمة قد تضيف لروايتي.

بنبرة واثقة هادئة أجابت:

  • بطلتك، لا شفاء لها!

مرضها مزمن، يجعلها ترفض الدّواء في البداية. ولكن المواظبة عليه، ستخفي أعراضه. سيعود لها الهدوء، والقدرة على ممارسة حياة طبيعيّة بسيطة، غير منهكة. ولكن، سيؤدّي الدّواء إلى تصلّب الجسد لتتحرك وتتصرف كالرّوبو..أو سيؤدي إلى اِرتخاء عضلي مستمرّ، فتتباطأ كلّ حركات وأفعال الجسد…أحيانا تصبح عينا المريض ساهمتان، معلّقتان إلى السّماء، مع فتور الحركة الدائم.

هذه بعض تأثيرات دواء مرض الفصام الذي حلّ ببطلتك.

اِنتابني القلق، مربكا. اِستدركت موضّحا:

  • ولكني أريدها يقظة، متوتّرة! قادرة مع أي فعل مفاجئ غير منتظر! غير معقول كواقع

البلاد المجنون! الجريمة ستحدث!..لا بدّ أن تحدث! مع ما أصابها!..ومع كل الأحداث المزلزلة في البلاد!..عليّ أن أقنع قارئي!..لا مفرّ من الجريمة!

اِندفعت معلّقا، مشفقا على روايتي المنتظرة عودتي لبطلتي المترقبة مصيرها الغامض. أمعنت الدكتورة آمال النّظر في وجهي، مهلة، قبل أن تجيب ونظرها يستقرّ في عيني:

  • وفي هذه الحالة، عدم اِنتظام الدّواء أو التّوقّف عنه هو مبعث الخطر..وقتها كلّ شيء

ممكن!

تنفّست أخيرا الصّعداء ووجدت الحيلة التي أُتقن بها حبكة روايتي.

قبل أن أنهض مودّعا وأدفع ثمن العيادة، حرصت على كتابة أسماء الأدوية التي ستتناولها بطلتي في دفتري الصغير الدائم الحضور في حقيبتي اليدويّة.

أسرعت في الشارع الخالي، باحثا عن سيارة أجرة تعيدني إلى البيت. فقد أظلمت المدينة المقرورة وكنست الريح العاتية المارين، إلا أنفارا من رجال الأمن اليقظين وبعض الشباب المتسكّع على عتبات المقاهي التي لم تغلق بعد أبوابها في اِنتظار ساعة منع الجولان.

أخيراً، توقفت أمامي سيارة أجرة ينقصها راكب واحد. اِنحشرت في ركني الضيّق جوار النافذة، مع الراكبين. وقتها، أنشب القلق أظافره في صدري، بعد تلك الرّاحة الطارئة التي أخذتني في مكتب الدكتورة آمال وأنا أبوح لها بأسرار روايتي القادمة.

أحسست حركة قلقة حذوي، داخل السيارة المنطلقة تعلو وتنخفض وترتطم عجلاتها بأحجار الطريق، واِنقباض طارئ غامض يغمرني مع وخز تأنيب غير مفهوم، يومض ويختفي..

تلفّت حوالي، وإذا بي أشاهد بطلتي بجانبي، ترفع يدها المقفّزة بالسّواد، تفتح سلسلة الحقيبة في حضنها، تبحث عن شيء ما…تراها تستعدّ الآن، لتفاجئني بالجريمة؟

مازلت خارج الرواية، فما الذي جعلها تلحق بي؟ تحدّق بي، وعيناها ترسلان في ظلمة السيارة شعاعا أسود قاسيا يسلط على وجهي المندهش؟!

جمّدتني النّظرة القاسية الرّاشحة بالتّأنيب، وهي تقول في صوت خافت لا يصل الآخرين:

  • ما الّذي فعلت بي؟..لماذا فضحتني؟

اِندهشت وأنا أراها في كشافات سيارة قادمة قد اِتّخذت وجه جارتي الغائبة في المهجر، المصابة بالفصام، والتي لا تعود إلى البلاد إلا كل صيف…كيف عادت؟..ومتى؟

رفّ جفناي، يطردان ما رأيت، مصدوما، غير مصدّق..

طارت السّيارة الكاشفة، وعادت الظّلمة، تغيب فيها ملامح وجوه الرّكاب..

رفعت ياقة معطفي عاليا على أذنيّ، أبعد صدى الصوت الراشح بمرارة السؤال، يثقب السمع والذاكرة. تفاديت بشدّة الالتفات إلى جانبي..تعلّقت ببعض الأضواء المتقافزة الطائرة على سواد إسفلت الطريق..بالمصابيح الذابلة للأعمدة الكهربائية الهاربة..بالسيارات المتجاوزة بعضها، هاربا من بطلتي التي لحقت بي وجلست قربي تقدح نار اللوم في مسمعي.

اِنطلقت موسيقى عالية صاخبة بغتة من جهاز السيارة وعلت على ذبذبات الصوت في أذني.

ما إن توقفت السّيارة أخيرا في محطتي، حتى أسرعت بالنزول، أطبق الباب بقوة قبل أن تلحق بي بطلتي وتطير السيارة بباقي الرّكاب.

تنفّست الصّعداء، إذ لم ينزل غيري من سيارة الأجرة التي اِنطلقت طائرة إلى محطات أخرى. لفحتني ريح الشمال الباردة وأنا أمضي وحيدا، أحثّ الخطى في اِتّجاه بيتي القريب، نصف ساعة فقط قبل منع الجولان في المدينة.

رغما عني، اِرتفع بصري إلى نوافذ جارتي المهاجرة المغلقة على ظلمة الغياب،والتي لاح لي وجهها في سيارة الأجرة متّخذا وجه بطلتي. ها هي مغلقة دوما تؤكّد هجرتها الطّويلة للبلاد.

بدا لي أني أسمع لهيثا خافتا ورائي وصدى صوت أنثوي يتخلّل عصف الرّيح، يلاحقني.

  • لماذا فضحتني؟

طاردتني تموّجات الصّدى، تتابع خطوي الحثيث، وإحساس غامض لا مفهوم بالذّنب يتسرّب إليّ.

قبل أن أصعد سريعا عتبات البيت الخمس، اِلتمعت في الظلمة، عينا بطلتي في وجه جارتي المهاجرة، تحدّقان بي، ترشحان بالدّمع والعتاب، قبل أن تغيبا في الظّلام.

قفزت على العتبات، بحثت باِتباك عن مفاتيحي، لأدير ـــ بعد لأي ـــ المفتاح في القفل وأعيد غلقه جيّدا من الداخل.

مضيت أفرغ حقيبتي اليدوية، أخرج دفتري، أنقل أسماء الأدوية الضرورية لبطلتي على إحدى قصاصات الرواية..سأترك لها الدواء لفترة، وسأداريه عنها، أضيّعه..أو أختلق حدثا ترفض معه تناوله، حتّى أقنع القارئ، وتكتمل الجريمة.

مستنفرا، جهّزت قهوة بنّ مركّزة، بملعقتين مقببّتين. قضمت بعصبيّة قطعتين من رغيف. وجلست إليها، خارج الزّمان والمكان، راميا أصداء اللّوم والعتاب خارج الرّواية الّتي دخلت، لألتقي ببطلتي الحقيقية، لا بجارتي المدعية سرقة قصة مرضها النفسي. شوق صاخب يأخذني إليها، لندخل معا ليل تونس العاصف.

          دعوتها- بعد التعب- معي إلى الفراش. دخلنا سويا جنتي المشتهاة وجحيمنا القاهر. ورغم  إشفاقي وولهي بساكنتي، لم أتوقع أن تنتهي ليالينا  الصاخبة معا، بذاك الصباح الصاعق الأخير.

         سمعت قفل الباب يكسر، وشاهدتهم يدخلون ويفاجؤون بجسدي المتصلب أمام المكتب وعيناي معلقتان بالسماء.

  • يا إلهي! سمعته أمس في المذياع يتحدث بحماس عن روايته الأخيرة..أكان يكتم المرض؟.. كيف قضى وحيدا؟

قال أحدهم بنبرة إشفاق.

  • سنرى ذلك بعد التحقيق والتحليل.

عقّب آخر بصوت رصين.

في انشغالهم، لم يلمحوا بطلة الرواية تركض حرة طليقة خارج البيت،  معلنة عقاب سارق النار والحقيقة ، تاركة قتيلها المتصلب الجسد، أمام أوراق الجريمة.

  • أديبة من تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *