خلف طاولة البار

*راشد الخمايسة

 

محاولًا البقاء ثابتًا رغم البرد الذي يدفعني للارتعاش بشدة، أشعلت سيجارة وطفقت انظر إلى الشاشة الموجودة خلف الساقي، رغم تحديقي في الشاشة لكن كُل ما رأيته كان غباشًا غير واضح ثم أدركت أنها مباراة كرة قدم من الدوري الإنجليزي بين توتنهام ونيوكاسل، تذكرت سنوات مراهقتي وكم كُنتُ أحب كرة القدم، وأمضيت ساعاتٍ طويلة أمارسها في شارع الحي مُعرضًا ركبتي لكثير من الجروح ومتابعة الكثير من المباريات المهمة وغير المهمة على التلفاز عندما كانت مشاهدة كرة القدم لا تتطلب دفع المال.

واصلت التدخين ناظرًا من حولي وطلبت كأسًا من النبيذ حَضَّرهُ الساقي بخفةٍ وسلاسة، كان يتحرك مثل الأخطبوط مُلبيًا طلبات الزبائن واحدًا تَلوَ الآخر، كان سريعًا ورشيقًا وكأنه يخضع لقوانين فيزيائية خاصة به، تمنيت لو أنني أمتلك رُبع ما يمتلكه من حيوية، النظر إليه وهو يَعِد المشروبات ويمسح الطاولة ويُحاسِب الزبائن ويغير القنوات على التلفاز محافظًا على أناقة ونظافة قميصه الأبيض اللؤلؤي وربطة العنق السوداء الرفيعة والمريلة حول خصره، أن مثل هذه الوظائف مُتاحة لأشخاص ضمن مواصفات مُعينة؛ هُناك وظائف لها مُتطلبات مُعينة يَصعُب التَّدَرُّب عليها، فأما أن يكون الشخص هكذا أو لا يكون، لن تجد الساقي في الحانة مُدرسًا للرياضيات، ولن تجد مدرس الرياضيات سائق شاحنة، ولن تَجِدَ سائق الشاحنة نادلًا في مطعم. أما أنا وظيفتي تتلخص في المراقبة ثم التدوين، مثل الغُراب أجدني على هوامش المشاهد في الحياة، لا داعي لمشاركتي في حيثيات الفضاء العام، كُل ما عليّ فعله هو ترك تلقائية الأمور تُسيِّر الأحداث مهما كانت اعتباطية، وبالمناسبة هي لا تَدُرُ علي دخلًا وأحيانًا لا أعرف كيف أعيش ومن أين أنفق.

يدخل زبائن جُدد كُل بُرهة، من كل الأشكال والأصناف، الحانة هادئة باستثناء بعض موسيقى التكنو التي تعمل في الخلفية، وفي أحيانٍ أخرى تسمع أغاني البوب، بات من المستحيل أن تجلس في مطعم أو بار وتستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية أو حتى بعض الروك، لا شيء سوى صدأ الأذنين المسمى بالبوب أو الراب، أنا مُؤمِن أن هذا النوع من الموسيقى الذي يمتاز بإيقاعات مُتكررة وكلمات ذات كُورَس قصير وسهل الحفظ لها تأثير يشبه تأثير التنويم المغناطيسي على المرء، تجادلت مع الساقي حول الأغاني مراتٍ كثيرة لكن بلا فائدة؛ عُندما تُطالب بتخفيض صوت الموسيقى أو تغييرها سينظر لكَ النادل أو الساقي وكأنك كفرت بأهم ركن من أركان خدمات المطاعم سيرمقونكَ بنظرة “من هذا المجنون الذي يُريد خَفضَ صوت الموسيقى؟” لِحُسنِ حظي أن الساعة ما زالت الواحدة ظهرًا، لكن لو عُدتُ خلال فترة الذروة فلن أستطيع سماع صوت أفكاري حتى، لذلك أتجنب أن تطأ قدمي أي مطعم أو حانة أو مول لأن هذه الأماكن تَحرِصُ على تعذيب مرتاديها بهذه الموسيقى؛ الحانة التي أنا فيها تُرفع فيها الموسيقى عاليًا في ساعات الذروة حيث تبدأ العروض الخاصة وتُخفّض الأسعار على كل شيء، ولأن هذه الحانات وغيرها هدفها الربح قبل كل شيء فإنهم يريدون من الزبائن أن يغادروا المكان بسرعة حتى تُتاح مقاعدهم لزبائن غيرهم وللقيام بذلك لا بد من استخدام عنصر الموسيقى المُزعج الذي يجعل الزبون يضيق ذرعًا فيَطلب الفاتورة ويدفع وينصرف.

لم تعد هذه الأماكن أماكن ترحيب ولقاءات ولا حتى أماكن للخلوة مع الذات والانهماك بل أصبحت إسطبلات يُحلب فيها الزبائن، ثم يخرجون في مزاجٍ سيئ لأنهم استوعبوا أنهم أنفقوا نقودهم بلا طائل. ليس هذا فحسب، هذه الموسيقى تُتلف حاسة الذوق والآن يتلقفها الجميع خصوصًا المراهقين ويستمعون لها عبر أجهزتهم المحمولة، سابقًا كان شراء الألبوم مغامرة بحدِ ذاتها، تقف في الطابور ثم تشتريه وتعود لبيتك سريعًا وتخصص وقتًا للاستماع له، كانت الموسيقى تجربة كاملة والناس صنفان أما مُستمعونَ شغُوفون أو عازفون بارعون أما الآن في الموسيقى باتت مجرد وشوشات في الخلفية حتى تبقينا في حالة خدر وتحرمنا من الاستماع إلى الأصوات المحيطية للفضاء العام مثل زقزقة العصافير وصدى الأحاديث وحتى حواراتنا الداخلية.

أشعل سيجارةً أخرى وأطلب من الساقي حبتي دوناتس، وأواصل التحديق. الزبائن في مثل هذه الساعة معروفون ومميزون، وهم يظهرون في هذه الساعة وبعد ذلك يختفون ويعود كُل منهم إلى قصة حياته، وكأن الحانة هي استراحة ما بين تصوير مشاهد حياتهم المتكررة، يصرخ المخرج “أقطع!” ونذهب جميعًا للمطاعم والحانات ودورات المياه وكراجات السيارات، نحدق في هواتفنا وندخن سيجارة وربما نرسل بعض الرسائل، نحدق في السماء، نتذكر كم بقي على انتهاء الدوام: ثماني ساعات وأربعون عامًا. حفظت تقريبًا كُل الزبائن الذين يأتون إلى هذه الحانة، لا أعني أنني أعرفهم شَخصِيًّا أو أميزهم، فمثلًا هُناك رجل في الستينات من عمره على ما يبدو يجلس على الطرف الأقصى من البار، يبدو أنه متقاعد وأرمل، أبنائه في الغربة، ولديه الكثير من الأحفاد، يمضي في حديقة المنزل والاعتناء بسيارته بعدها يأتي إلى هُنا، لا أقصد أن الرجل نفسه تحديدًا يأتي كل يوم، بل يأتي أشخاصٍ كُثُر لكن في الستينيات من العمر، متقاعدين وأرامل ولديهم أبناء وأحفاد وحدائق وسيارات ويأتون للحانة. في الزاوية اليسرى قرب النافذة تجلس طالبة جامعية على ما يبدو، قررت عدم حضور المحاضرات اليوم (ستندم على ذلك لاحقًا) وقررت أن تأتي إلى الحانة وإن كانت لوحدها، لا أعرف ما الذي تشربه لكنه أزرق اللون وعليه نصف حبة ليمون.

على يميني يجلس موظف بنك، عرفت ذلك من البطاقة التعريفية التي يُعلقها ويرتدي بذلة من الواضح أنها “يونيفورم” مع ربطة عنق خضراء ناصعة للغاية، لا أعرف ما قصة البنوك مع اللون الأخضر لكن يبدو أن هُناك اتفاقٌ ضمني على أن لون المال والطمع والإنفاق والاستهلاك أخضر. كان يبدو مُتعبًا وكان يتنهد كل بضع ثوانٍ وفي كل مرة يتنهّدُ فيها تَهُب علي رياح الملل الوجودي الساخنةـ كان رفيعًا حليقَ الوجه وبدأ الصلع يغزو مقدمة رأسه، طويل القامة وعريض الكتفين.

“يومٌ صعْب؟” قُلت له وأنا أهز كأس النبيذ بيدي

“آوه يا رجل. هؤلاء… الناس… الرواتب… يا للهول” متحدثًا بنبرة تنم عن نوع من التحرر لأن أحدًا ما سأله عن يومه وسمح له بالتنفيس عمّا يجول في خاطره، وأطرد قائلًا:

“في الليلة التي تسبق يوم استلام الرواتب في نهاية كُل شهر، نحن موظفي الصناديق لا نستطيع النوم لأننا سنحظى بيومٍ حقير وطويل من التوبيخ والمراجعين من كل الأصناف الذين يأتون لاستلام رواتبهم التافهة، ثم ماذا؟ ينفقونها على قروض لشراء سيارات وبيوت لا يملكونها! لا أعرف على ماذا يتحمسون في نهاية كُل شهر! لا أعرف كيف لديهم أي نوع من التوقعات في ظل نظام مالي لا يعدهم إلا بالفقر الدائم” ثم أخذ جُرعةً كبيرة من مشروبه.

“أتعلم؟ ليس لدي حساب بنكي ولم يكن لي أي حساب بنكي على الإطلاق ولا أنوع فتح أي حساب لكن لدي ‘محفظة إلكترونية'” قُلتها ضاحكًا في وجهه

“أتعلم؟ رغم كل ما يحصل من عراك وشتائم في الطابور الطويل وكل التعب والمعاناة والصراخ إلّا أنه في نهاية الدوام عندما أغلق الصندوق واستعد للمغادرة تترامى أمام وجوه هؤلاء الأشخاص، موظفو حكومة ومتقاعدون وشباب وفتيات كُلهم يتقاضون أجورًا تافهة ثم أتذكر أنني مثلهم تمامًا فأشعر بنوعٍ من الألفة معهم وأسامحهم فورًا على ما يحدثونه من شغب، لكل واحدٍ ِمِنهُم قصة مختلفة وظروف جعلته بالصورة التي هو عليها رُبما لا تعجبك هذه الصورة وتكرهها أفعل ما شئت لكن هذه هي الصورة التي هُم عليها، في النهاية كُلنا مساكين في هذه المزرعة” يشعل سيجارته ويعود للتنهد محدقًا في الشاشة النتيجة ما زالت صفر-صفر والمباراة مملة والمُعلق نَعِس.

“حافظ على هذه الصورة الشاملة للموقف يا صديقي، في هذا العالم الخَرِب التفاصيل ستدفعك للجنون، لكن قُلي هل حَقًا أردت أن تعمل في البنك منذ البداية؟”

ليُجيبَ بسرعة “أي بداية تقصد؟” فقلت “أي هل هذا هو حُلمك؟” نظر إلي بنظرة ساخرة وبدأت تعابير وجهه ترتَسِمُ إلى ابتسامة واسعة ثم قال مقهقهًا “يا رجل هل أنت جاد؟ طبعًا لا، أسمع مفهوم الأحلام في هذه البلاد تجريدي للغاية… دعني أشرح لك” ثم أشار للساقي أن يملأ كأسه مجددًا.

“حسنًا، الإنسان يَحلُم أليس كذلك؟ أي إنسان، صغيرًا أم كبيرًا، في الشرق والغرب، والأحلام تبدو جُزءًا من تكويننا الأصيل، لا أحد يُعَلِّمَكَ مفهوم الأحلام، أنت فقط تَجِدُ نفسك تحلم وتمارس هذه الأحلام في أرض واسعة لا وجود لها على أي خريطة، أرض ليست مرئية إلّا لك تدعى الخيال، هُناك بإمكانك أن تكون ملكًا على جمهورية للأرانب، بإمكانك أن تكون قرصانًا أو ساحرًا أو وحتى مخلوقًا مُختَلفًا” ثم سألته:

“حسنًا أنا أدرك ما تقوله، لكن أنت تُدرك أن الأحلام لا تبقى في هذه الأرض دائمًا، أليس كذلك؟ أعني على هذه الأحلام أن تلتحم بالواقع…”

أشتعل الحماس في عينيه المتعبتين وقال: “تمامًا يا صديقي، هُنا مربط الفرس، هُنا يكمن نجمنا الذي يقودنا: الالتحام بالواقع! الآن قُلي ما رأيك في الواقع الذي نحن فيه؟”

“أنه أشبه بالقُمامة، أنه نتن وبشع!” قلت له مُطردًا

“تمامًا، الأحلام التي تلتحم بالواقع تخلصت منها سريعًا حينما استوعبت حال البلاد، وعرفت أنه تضيق علينا شيئًا فشيئًا ويومًا ما رُبما نُطرد منها مع أنها بلادنا، ليس بفعل الحروب أو سواها بل بسبب الظلم الذي يلتهم كل شيء في طريقه مثل العدم، أتعلم كانت لدي أحلامٌ كثيرة. لطالما أردت أن أكون طيارًا، السخرية أنه لم تطأ قدمي أرض أي مطارٍ قط” ضاحكًا محدقًا في كأسه.

“أتفهم ذلك تمامًا، أنا لم أرمي أحلامي فحسب بل رميت معها الطموحات، الطموحات! تخيل هذا! هه! هذا المُنتج الجديد، وبالتأكيد عليك أن ترمي الأمل في القمامة وتحرقه! حاول التخلص من كل ما تحمله أعباء قد تتسبب بأي نوعٍ من المرارة لديك!”

ضحكنا سَويًّا، ثم طلب الحساب من الساقي وارتدى سترته وقال

“أتعلم؟ الأحلام مجانية، الأحلام هي ملجأ أمثالنا، لذا لا بأس ببعض الأحلام اللذيذة. شكرًا على المحادثة” ثم غادر الحانة

الحانة الآن شبه فارغة والساعة تقترب من الثانية ظهرًا، تأثير كانون الأول على الجو بدأ بالظهور، رغم أن الشتاء فقد جزءًا كبيرًا من هيبته في السنوات الأخيرة، ولم تَعُد تُمطر بنفس ذلك الشغف، وحتى الثلوج لم نرها منذ سنوات. الآن الشتاء أصبح مجرد منخفضات جوية تحمل بعض المطر لمدة خمسة عشر دقيقة ثم يعود الجو إلى حالته الباردة والجافة، أتذكر جيدًا كيف كانت الشمس تختفي طوال كانون الثاني وحتى شباط، كل هذا تغير الآن، بفعل الثورة الصناعية ودخان السيارات وغاز الثلاجات ومثبتات الشعر. لا استغرب لو استيقظنا يومًا وكان الجو حَارًّا لدرجة أن كل ما عليك فعله لإشعال سيجارته هو تقريبها من ضوء الشمس. أنهيت الدوناتس، وطلبت كأسًا آخر. لم أدقق من قبل في ديكور الحانة، كنت دائمًا ما أدخل وأجلس على البار مُباشرة دون التَدقيق في أي شيء.

يوجد الكثير من بوسترات أفلام الستينيات والسبعينيات والثمانينات مثل فيلم “سايكو” و”كلوك وورك أورانج” و”داي هارد”. البوسترات في الحقيقة تبدو نادرة وهي مختلفة عن البوسترات الرسمية، وفي الجهة المقابلة هُناك بوسترات لألفيس بريسلي والبيتلس وجيمي هندريكس، وخلف الساقي هُناك غيتار كهربائي معلق يبدو فخمًا كذلك، كل ما في الحانة يعطي إحساسًا إنها حانة من القرن المُنصرم، لكن هذا الإحساس مُزيف، لا يمكنك تزيّف المظهر الانتيكي، أما أن يكون الشيء أنتيك أو لا.

أشعلت سيجارة أخرى وطَلبتُ من الساقي أن يملأ كأسي مجددًا، وعُدت إلى تَفَحُّص الزبائن مُجددًا، كُل واحد منهم لديه قصة وجاء من بيئة وتربية مختلفة، أحيانًا يُصيبُني مَللٌ شديد من الناس، أراهم في الشارع وفي ساعات الذروة كُتلًا لحمية تسير على غير هُدى، مُجرد روبوتات من لحمٍ ودم، يعيشون نفس اليوم إلى الأبد، يأكلون بلا شبع ويشربون بلا تخمة وينفقون بلا مسؤولية ويستهلكون بلا هوادة. تتلاشى عاطفتي تجاههم في مثل هذه اللحظات ولا أحتمل أقل تذمرٌ مُنهم ولا أطيق رؤيتهم في نطاق نظري. لكن في لحظات مُضادّة لتلك، أعود لتفحُّص الزبائن مُجددًا، يستولي عليّ فضولٌ شديد تجاههم، تجاه قصصهم والبيئة التي جاؤوا منها، فجأة تتفجر عاطفتي كالينابيع في الصحراء بشكلٍ تلقائي، فأعلق بصري عليهم مُطولًا محاول استشفاف ما في دواخلهم، كل رجل وامرأة وطفل هم مخلوقات تسيح في الأرض لها عالمها الخاص، وهكذا مثل البندول أواصل التأرجح بين قرفٍ طاغ وفضولٍ عارم.

يجلس بجانبي رجلٌ في نهاية الثلاثينيات من عمره حسبَ تقديري، يرتدي بذلة أنيقة للغاية وتبدو باهظة الثمن ربما من ماركة فيرزاتشي، وساعة روليكس. كان يتحدث على الهاتف ويُدخن سجائر باهظة الثمن بالطبع ويبدو مُنفعلًا بشدة.

“جعة باردة!” قال للساقي بنبرة أقرب للصراخ. أحضر له الساقي طلبه ووضعه أمامه مُسَمَّرًا نَظرَهُ على الرجل بنظرة احتقار وقرف.

“أسمع، هذا الكلام لا يعنيني مُطلقًا، لدي صفقات وعقود والكثير من الأمور، لا أهتم إذا ما كان الموظف في البنك متعبًا أو هُناك طابور أطول من طابور الحساب يوم القيامة، أنا عميل VIP لديكم وأتوقع معاملة مختلفة عن بقية الحمقى، إذا تكرر الأمر مرة أخرى سأودِعُ نقودي في بنكٍ آخر” صارخًا بصوت عال بجانبي وجعلي أذناي تُصفران ولاحظت أن الساقي يحاول الحفاظ على هدوء أعصابه بجهدٍ كبير.

“هل تُصدِّقُ هذا يا رجل؟!” قال بنبرة كُلها تَعَجُّب

“هل تتحدث معي؟!” قلت له ناظرًا في عينه.

“نعم أتحدث معك أنت وسألتك هل تُصدِّقُ هذا؟”

“أصدِّقُ ماذا؟”

“أنا مستثمر ولدي الملايين على المِحك! ذهبت للبنك المقابل للحانة وكان المَكان مليء بالأشخاص الذين يقفون في طابورٍ طويل، اتجهت مُبَاشَرةً إلى موظف على الصندوق، ذلك السافل!!” ثم ضرب الطاولة بقبضته.

“أسمع يا هذا إذا كُنتَ تعاني من مشاكل في إدارة الغضب فُهُناك نادي ملاكمة على الناصية، هذه الحانة لا تُناسبك” صرخ الساقي في وجه الرجل بعدما أن طفح بهِ الكل.

وقف الرجل وحاول القفز فوق البار لكنني أمسكته وحاولت تهدئته ثم رأيت الساقي يحاول الالتفاف أمام البار فانطلقت باتجاهه بسرعة

“أسمع أنا أعلم أنه هذا الرجل يستحق الكثير من اللكمات لكن عليك أن تهدأ، لا بد أنك واجهت الكثير من الزبائن مثله، لا تقلق” همست في أذنه بينما كان رافعًا يديه باتجاه الرجل محاولًا تجاوزي حتى ينقض عليه، لكن بعد ثوانٍ تراجع وعاد خلف البار.

“من أجل هذا الزبون المحترم لن أركل مؤخرتك اليوم!” صرخ الساقي بوجه الرجل الذي كان قد عاد للجلوس متجاهلًا ما قاله الساقي.

عَمّت لحظات من الصمت وكأنها أطنان من الساعات، والرجل بجانبي كان يدخن بعصبية واضحة.

“ذلك الموظف الطويل ذو الكتفين العريضين يظن أن بإمكانه أن يعطيني الأوامر!” متحدثًا إلى نفسه ولكن يبدو أنه يُريدني أن اسمع كذلك وربما أبدي تعليقًا.

“ماذا حصل هناك في البنك؟!” خاطبته بهدوء ناظرًا إليه

“حسنًا، كان هُناك طابورٌ طويل من الرعاع…” قاطعته فورًا “إذًا، أنت شعرت بالإهانة لأن عليك الوقوف مع بقية الناس وانتظار دورك؟!”

“لما عليّ الوقوف معهم؟! أعطني سببًا واحدًا! أنا رجلٌ مشغول وكل ثانية بالنسبة لي هي صفقة، كيف تظن أنني أصبحت ثَرِيًا وناجحًا؟ بالجلوس على مؤخرتي في الحانات مثلك؟ أنا رجل أعمل طوال الوقت وهذا يجعلني في مرتبة مُختلفة عن الآخرين” قال بلكنة متحاذقة.

“هكذا إذًا بهذه البساطة! تُخَوِلُ نفسك لتتجاوز الطابور وتنتظر مُعاملة مختلفة وربما تطلب منهم وضع السجادة الحمراء لحضرتك!” قلت له وأنا أنظر إلى الساقي الذي كان يبتسم بنشوة.

“نعم يا عزيزي بهذه البساطة، لو كُنت في مكاني لفعلت نفس الأمر، أنا شخصٌ مُعتاد على غير الاعتيادي، منزلي وسيارتي وسجائري وحتى زوجتي كُلها فوق المعتاد، لن تستطيع ما حققته أنا في حياتين، هل تعتقد أني لدي الوقت للوقوف في طوابير؟ وربما إلقاء التحيات هُنا وهناك؟ أتعلم، أغلبكم يشكي الفقر وقِلّة العُوز ودائمًا لديكم من تلقون اللوم عليه! المستثمرون!! رجال الأعمال!! الضرائب!! الحكومة!! تَلقُون اللوم على أي شيء وكل شيء، إلّا كَسَلَكُم! هذا العالم ليس للبطيئين، هذا العالم يعترف بالقوة والقوة فقط، والضعفاء والكُسالى مصيرهم التلاشي مثل ذرات الغبار. هذا الهاتف الذي تحمله والسيجارة التي تدخنها والإعلانات التي تراها والمنتجات التي تشتريها والطعام الذي تأكله والملابس التي ترتديها والحذاء الذي بقدمك كُلها كانت نتاج أفكار وجهد وعمل أشخاص من أمثالي. الحقيقة هي أن هذا العصر هكذا قوانينه: الثراء قوة، بل قوة خارقة، كُل شيء يُمكن شرائه بالمال، نعم ستواصل إقناع نفسك وتقول إن هُناك أمور لا يُمكن شرائها بالمال مثل المبادئ والشرف والكرامة وكل هذا الخِطاب المُتحجِّر، خِطاب الكٌسالى من أمثالك، لكن هاك الحقيقة يا صاح: بالمال بإمكانك شراء الضمائر والولاءات والأخلاق كُلها، بالمال بإمكانك أن تبني لك جيشًا، بإمكانك أن تَلِجَ في أي مكان تشاءـ وتجلس على أي كُرسي، بالمال بإمكانك شراء الحكومات والماضي والمستقبل كذلك. لقد شاهدت الكثيرين، الكثيرين من أمثالك من الذين يجلسون في البارات ويعتقدون أنهم عميقون وأصحاب فلسفة، ودائمًا ما لديهم تعليقٌ على كُلِّ شيء ولديهم نقد واعتراضات وكلامٌ كثير يبصقونه على الورق، لكنكم لا تلعبون أبدًا، كُل ما تقومون به هو التعليق من الخلف، دعني أخبرك أن زمانكم قد وَلّى، هذا زمن السرعة والثواني الذهبية، عصر الوصول والإمكانيات، نحن لا نعيش في مسرحية شكسبيرية حيث لدى كل شخصية خطاب يُلقيه عقب كُلَّ انفلاج لعقارب الساعة، هذا عصر القوة والسرعة، واليد الطويلة الخاطفة والانتهاز، أنا شخص أعرف ما أستحق ببساطة!” ثم تناول جرعة كبيرة من كأسه بفخرٍ شديد.

“انظر إلى حالك يا رَجُل” قلت له بهدوء.

“ها أنت تعطينا محاضرة عن أمور لسنا مُهتمين بها على الإطلاق، أتعلم ما مشكلتك؟ أنك تعيس، أنت وأمثالك من الرأسماليين الذين عملت لديهم طويلًا، أنتم لا ترون الحياة إلا من خلال تلك العدسة الخضراء التي تدعي المال؛ البنوك هي معابدكُم، تمضون وقتكم بجمع المال هُنا وهُناك، تكدسونه في جيوبكم، ودائمًا ما تُريدون المزيد، والمزيد، والمزيد والمزيد. في دواخلكم هُناك هاوية سوداء شديدة الاتساع والجاذبية تغذونها بالمال، ليس هُناك رقمٌ مهما كان عدد خاناته يرضيكم، ماكينة الربح تستولي على كل ثانية من حياتكم، وبالطبع -ويا للأسف-العالم بات محكومًا بقوانين السوق، كل شيء خاضع لسطوة العرض والطَلب، حتى الأخلاق. لستُ مستغربًا من عجرفتك وعجرفة أمثالك، لقد عملت لديكم وشاهدت الحرص المريض على كُل فرنك يدخل ويخرج، شاهدت الحذلقة والرغبة الشديدة بإلقاء المحاضرات والشعور بالدونية والغَلبَة من أي شخص لا يتوافق مع ما لديكم من أفكار، أنت تعتقد أنكَ مُخول لتجاوز طابور البنك وتعتبر كل من غيرك رُعاع بسبب خوفك الشديد منهم واعتقادك بأنهم مهووسون بك، لكن إليك الأخبار العاجلة يا عزيزي: هؤلاء “الرعاع” لا يهتمون ببذلتك وحذائك وسيارتك وزوجتك،  هؤلاء الناس يمتلكون رهافة أنت تفتقدها ويفتقدها كل إنسان يعبُد المادّة، لا أعتقد أنك في يومٍ ما لاحظت السَكَينةَ في غُروب الشمس، ولا البهاء في نجوم الليل، لا أعتقد أنك شاهدت خطوات طفلك الأولى ولا قُلت لزوجتك كلامًا طيبًا، أتعلم لماذا؟ لأن هؤلاء بالنسبة لك مُجرد نتائج لصفقاتك، وليسوا كيانات حقيقية وحية، كُل هؤلاء الناس بالنسبة لك أرباح أو خسائر، وكُلما تعمقت بالمادة أكثر كُلما زادَت تعاستك وجوعك وطمعك للمال. الموقف الذي تشكو مِنه هو موقفٌ سخيف للغاية لكن مثل هذه المواقف تظهر هشاشتك” قُلت له دون أن أنظر إليه وكان بإمكاني الإحساس بغليانه بجانبي.

“كما توقعت، فلسفة، كلام ولا شيء غير الكَلام. لا أعتقد أن لديك وظيفة أو تعمل حتى، ولن أتوقع الكثير من فاشل مثلك يجلس في حانة ظانًا نفسه شخصية في قصص تشيخوف، يومًا ما ستزحف لأمثالي وترجوهم ليعطوك وظيفة، عندها دع هذه الفلسفة والكلام الرخيص والكثير ينفعك!” رفع يديه للساقي طالبًا الحِساب.

“بعد أربعين عامًا، ستكون على فراش الموت، طبعًا إن كُنت محظوظًا فالموت يَقبِض، ستفكر بكل ما قمت به في حياتك، رُبما تتذكر حديثنا هذا، سيُعاد شريط حياتك أمامك مرارًا، ستتذكر ذلك موظف البنك الذي كان جالسًا على كرسيك تمامًا قبل نصفِ ساعة وقد أهنته وأخبرت مديره عمّا حَصل وربما سُيعاقب الآن بسبب عجرفتك، ستتذكر كُل تلك الصفقات والعقود التي وقعتها، ستتذكر كُل تلك الساعات التي أمضيتها في المكتب وكل الأوامر التي أعطيتها لموظفيك، سوف تتذكر كُل شخصٍ ظلمته، وتتذكر أطفالك الذين كبروا بعيدًا عنك وزوجتك الوحيدة في الفيلا المترامية الأطراف، سوف تشعر ببرودة تسري في جسدك حتى أطرافك، ستشعر بالعطش حتى لو شربت ماء الأرض كُله، الموت يدنو منك شيئًا فشيئًا ولن تكون يدك الطويلة الخاطفة قادرة على الوصول إلى حسابك البنكي حتى تعقد صفقةً مع الموت، عندها ستتمنى لو أن كُل هذا لم يكن، ستتمنى لو أنك كنت أحد هؤلاء الرعاع. لكن عجرفتك سوف تبقيك أعمى البصيرة هكذا حتى تأكلك ديدان الأرض!” قلت له وأنا أنتظر رؤية ردة فعله.

ضرب الرجل كأسه على الطاولة وأمسكني من سترتي الجلدية فسارعت بلكمِه بكل قوتي على كليته فصرخ متألمًا وتراجع للخلف.

“أيها الحقير، لا بأس، سوف أعود واركل مؤخرتك!” ثم رمى النقود على الطاولة وغادر ثم بدأ الساقي بالتصفيق والتصفير مُحتفلًا.

“يا رجل كان هذا رائعًا! أتعلم؟ كل ما طلبته وسوف تطلبه على حِساب الحانة اليوم!” قال الساقي بنبرة المُنتصر الفخور.

“شكرًا لك ولكرمكَ هذا لكن لا، يجب أن أدفع لقاء تعبك وخدمتك. هو يَعتقد أنه العالم كُله يخضع لقوانينه، يظن أن بعض الرِجال يُمكن شرائهم بالمال، لا أنكر أن هذا عَصر الجبناء وأخلاق العبيد، لكن ما زال هُناك من يقفون بشموخ على التلال، ويترفعّون عن الترهات المادّية الدنيوية، ومعاذ الله أن أعتبر نفسي من هؤلاء لكن هذا ما أطمح أن أكونه يومًا ما.” قلت للساقي بينما كان يُجفف بعض الصحون بالمنشفة التي يحملها وأردف قائلًا:

“لا بأس، وأشكرك حقًا لأنك أعطيته صفعة الواقع التي جعلته يعود إلى رُشده مُجدداً.”

“لو سَمَحت…” سمعت صوتًا ما من خلفي ونظرت إلى الوراء وكانت فتاة يبدو أنها في بداية الجزء الأخير من العشرينات، طويلة القامة وهُناك نَمشٌ ظاهر على أنفها وترتدي سترة جلدية ويبدو أنه دخلت الحانة في اللحظة التي كانت أعارك فيها ذلك الرجل ولم أنتبه عليها.

“لقد سمعت ما قُلته الآن وبصراحة لما أستطع أن أكبح فضولي؛ ما قصدك بأن هُناك من يقفون بشموخ على التلال، ويترفعون عن التفاهات الدنيوية المادّية؟” أخبرتني وسمحت لنفسها بالجلوس على الكرسي بجانبي وطلبت بعض القهوة من النادل ونظرت إلى تنتظر جوابًا.

“حسنًا، قبل قليل دَخل رجل يبدو رأسمالِيًّا وثريًّا ومتعجرفًا”

“أعتقد أنني شاهد رجلًا يرتدي بذلة وخرج من باب الحانة لحظة دخولي وكان وجهه أحمرًا مستعرًا ويبدو غاضبًا مثل كلبٍ مسعور” قالت مقاطعة

“نعم! هذا هو. هذا الرجل ببساطة ذهب إلى البنك وكان هُناك طابورٌ طويل على صناديق السحب والإيداع، وهذا مشهدٌ طبيعي في نهاية كُل شهر، ويبدو أنه تجاوز الطابور بأكمله ووقف أمام موظف الصندوق متجاهلًا كُل من خلفه وحصل خلاف بينه وبين الموظف، جاء الرجل إلى هُنا ويبدو أنه كان يُهاتف مدير الفرع ويشكو من الموظف ويطالب بمعاملة مختلف فقط لأنه عميل VIP! هه! هل تُصدقين هذا الهُراء!”

ضحكت على نبرتي في الكلام وقالت: “عميل VIP! ماذا يعني هذا حتى!” ثم ضربت الطاولة بيدها ضاحكةً وأردفت: “تبدو رجلًا يُفكر كثيرًا، لقد أثار تعليقك الأخير للساقي فضولي، هل لكَ أن تخبرني بالمزيد؟”

“عالمنا الحديث عالمٌ مُبهر، في المئة عام الأخيرة حقق البشر ما لم يحققونه في آلاف السنوات، في كل زاوية تنظرين إليها هُناك اختراع أو اكتشاف يجعل حياتنا أسهل وأسهل، كل هذه التكنولوجيا والاتصالات والأتمتة، جعلت عالمنا سريعًا للغاية، والجغرافيا لم تعد عائقًا، وأستطيع توفير الملايين من الساعات والدقائق، كل هذ مُبهر وإعجازي وبإمكاني الإسهاب في الحديث عنه لساعات، لكن بالنسبة لي، لست مبهورًا! على الأقل في السنوات الأخيرة وحتى اليوم، يبدو أن هذا التَّقَدُّم كان لهُ ثمنٌ ندفعه، بشكلٍ غير مرئي، ويبدو أننا ننكر أن هُناك نوعًا من الكارما، لا شيء في الحياة مَجّاني، ما تقوم به هُنا، سوف تَجد نتائجه هُناك.” قُلت له وأنا أعبث في المنديل المكتوب عليه “حانة جاك”.

“كَلامك هذا لا يحمل الجَديد، لقد سمعته مرارًا وتكرارًا، لكن أتمنى أن يكون لديك أية حلول، هل لديك؟” قالتها عن غير حماس حيث يبدو أنها قد توقعت أن أقول شيئًا جديدًا.

“لا أمتلك مفاتيح الوحي، ولست خبيرًا، أنا مُجرد شخص آخر، مُثلك تمامًا، نحن مُجرد أرقام وطنية على سِجلَّات الدولة وموجودين بحكم بطاقة الهوية ويا للسخرية؛ يبدو أن اختفاء بطاقة الهوية مشكلة أكبر من اختفائنا نحن بالنسبة للدولة. ونحن كذلك مُجرد مُستهلكين في سجّلات الشركات الديموغرافية، مُجرد أجساد تُجرى عليها التجارب التسويقية، ونحن مجرد مُسننات في ماكينات الشركات ندفع فيها أوقاتنا وجهودنا من أجل ربح لا نَشْتَمُّ رائحته… إلا تُلاحظين نمطًا ما هُنا؟ يبدو أن هذا التَّقَدُّم جاء على حساب قيمة الإنسان، أرجوكِ لا تخبريني أن هذا محتوم، وهذا ثمن المرحلة والتطور، فلا أعتقد ذلك كُليًا، هذا العالم الآن وقوده قَلقُنا.” أشعلت سيجارة ناظرًا لها منتظرًا ردها.

“حسنًا أعتقد أنني بدأت أفهمك، أنت ترى أن التقدم هذا هو تقدمٌ خارجي فقط؟”

“تمامًا! أحسنتِ الوصف! يبدو إن دواخِلنا قد أصبحت خرابًا، والإنسان قد يجلس في مُنتجع سياحي في جزيرة في المحيط الهادئ حاملًا بيده مشروبًا مستمعًا بأشعة الشمس ونسيم البحر والرمال الناعمة وكل ذلك، لكن لو أطلعتِ عليه من الداخل لشاهدتِ عدمًا مُستعِرًا!”

“ألا تعتقد أنك تُبالغ كثيرًا؟ أنت لا تَرَى سوى التعاسة في الناس، من الطبيعي أن يكون لدى كُل مِنّا ما يشغل باله ويبقيه يقظًا حتى في أوج لحظات متعته لكن هذا لا يعني أن هذا الإنسان تعيسٌ بالكامل” قالت بنبرة كُلها استغراب.

“حسنًا أن شخصٌ متشائم، وأريدكِ أن تنتبهي رجاءً أن تشاؤمي هذا ليس تشاؤمًا نَكَدًّا، بل على العكس أرى أن على المرء الاستمتاع والتحضير للأفضل، لكن البَشر في عصرنا هذا تائهون، وأنا لا ألومهم بشكلٍ كُلّي، كل حياتهم عبارة عن إملاءات. خصوصًا من الشركات والحكومات، الإعلانات تعطيهم وعود لإشباع الرغبات، لكن هيهات، هذه الرغبات لن يتم إشباعُها حيث أن إشباعها لا يؤدي الغرض، من الضروري أن يبقى المرء في حالة ركضٍ دائمة نحو الإشباع لكن لا يجب أن يصل إليه أبدًا، الوصول للإشباع يعني انتهاء الرحلة وانتهاء الرحلة يعني خيبة أمل وشعورٌ بالقلق، ومن هذه النُقطَة يا سيدتي سوف ترين كيف أن ذهاب هذا الرَجُل إلى تلك الجزيرة لقضاء إجازة غالبًا يكون نتيجة الضغط الذي كان تحته بسبب الإعلانات وربما العائلة وزوجته وكل ذلك، الإعلانات قالت له أن ذهابه هُناك يعني حلًا لكل مشاكله، ورُبَّما استخدمت الإعلانات نبرة الحِرمان، حيث تُصوّر لنا الشركات أن عدم شرائنا لذلك المُنتج وعدم اشتراكنا في تلك الخدمة خطأٌ جسيم! وسوف تفوتنا جنات عدن! وبالطبع يمكن استخدام كِلا الأسلوبين، الخُلاصة أن هذا الرجل في الغالب قد ذهب إلى ووجد أن الوعود لا تتساوى مع توقعاته العالية التي رسمتها له الإعلانات التي هي نفسها قدمت له تِلك الوعود!” قلت ذلك ناظرًا لها وللساقي الذي كان يستمع لنا باهتمامٍ واضح.

“لا أنكر أن هذا تحليلٌ ممتاز، ولكنه واسعٌ جِدًّا، وأنا أتفق معك في هذا، فأنا امرأة، وأنا أدرك تمامًا ماذا يعني أن تكون هدفًا للتسويق والإعلانات، في الحقيقة النساء يعشن في تعاسة حقيقية نتيجة ذلك، هُناك المئات من كريمات البشرة ومساحيق التجميل، ناهيك عن الحقائب والملابس بشتى أنواعها، والأمر لا يتوقف هُنا، بل أيضًا يُشارك الإعلام في هذا فيرسم معايير الجمال ويضعها في إطارٍ عالمي ويتم فرضها علينا على الإنترنت والإعلانات من خلال المشاهير، أما المرأة التي لا تستطيع متابعة الركض على “تريدمِل” العالم الحديث وتلحق بقية الركب في الحصول على هذه المنتجات فيه ستدخل في سجن الحِرمان والبشاعة، فهمها كانت جميلة فهي لن ترى جمالها هذا، طالما أنها لم تشتري تلك “المسكارا” أو ذاك الفستان فهي خارج اللعبة، وشيئًا فشيئًا ستفقد الثقة في نفسها دون أسبابٍ واضحة” قالت وهي تحدق في اللاشيء.

“تمامًا، أنظري من حولك، يكفي أن تشاهدِ بعض الإعلانات لتعرفي كيف أصبح القلق هو الديكتاتور الذي يحكم حياتنا، مثلًا هُناك شركة تُدعى “ديتول””

“نعم أعرفها!!” قالت مقاطعةً إياي بحماس ثم تَابعتُ الحديث: “نعم الجميع يعرفها! نحن نعرفها رغمًا عنا، نستطيع تمييز شعارها ومنتجاتها بسهولة، المُنتجات التي تقضي على 99.9% من الجراثيم إما الــ 00.1% من الجراثيم تذهب هاربةً من أرض المعركة لتخبر الجراثيم في مستعمرة أخرى عن جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات منتجات شركة ديتول!!” قلتها ثم ضحكت مع الساقي والفتاة لبُهرة. ثم عمّ صمتٌ خفيف الإطلالة، صمتٌ مريح لا نشعر بالإلحاح لملئه بأي هُراء.

“أتعلم أيضًا ما الثمن الذي دفعناه نتيجة هذا التقدم؟” سألتني دونَ أن تنتظر جوابًا ثم أردفت قائلة: “أخلاقنا…”

تنهدنا سويًا ثم قُلت لها: “هذه كارثتنا الأكبر، أشتهي قراءة الصحيفة يومًا دون خبرٍ عن جريمة قتل، أو أن أفتح التلفاز من دون أخبارٍ عاجلة عن تفجير انتحاري أو غارة جويّة. يبدو أنه لسببٍ ما؛ ننسَلِخُ عما أن أي مُثلٍ عُليا نرتكز عليهاـ سابقًا كانت أظن أن الشر هو الاستثناء، لكن للأسف يبدو أنني مخطئ، حيث بات الخير هو الاستثناء…”

“كانت لدي نفس النظرة، لكن كُلما كبرت وقابلت الناس بدا لي أن كُل ما ظننته مُسبقًا حول البشر وأخلاقهم كان حُسن نية ناشئ عن ذلك الغشاء الرقيق المُسمى براءة، وطبعًا تمزق هذا الغِشاء مرةً واحدة ليكشف لي الصورة الكاملة…” قالت بنوعٍ من الحسرة الواضحة.

“ما زِلتُ مُصِرًا على أن الانسلاخ الأخلاقي هذا نتيجة إخضاع وجودنا للفلسفة المادية، مشكلة الإنسان غروره وفقط لأننا مررنا بالثورات الصناعية وغزونا الفضاء وكل ذلك، شعرنا أننا نملك زِمام الوجود! في الحقيقة؛ ما نعرفه هو لا شيء، لكن الغرور الذي نحمِلُه وثقتنا المُفرطة في وسائل حضارتنا ستكون –ويا للمفارقة-هي أسباب انهيارها.” قلت لها رأي ثم شربت ما تبقى من كأسي.

“لقد افترضنا أن ما هو أمامنا هو الموجود أمامنا فقط، وأنه لا يُوجد شيء في الماوراء… لقد غشيتنا الذنوب” نظرت إلى وجهها ويبدو أنها قد استحضرت الكثير من الذكريات.

“الجميع الآن، يتباهى بفقدانه للإيمان، هكذا ببساطة! أصبح الإيمان هو العَقَبة الأكبر أمام وصولنا للمستقبل الذي يصبح فيها الإنسان سيدَ نفسه! لكن ما فقدناه ليس الإيمان، لقد فقدنا الإيمان بالإيمان، وسيطر علينا الخوف من الموت، كُل ما حولنا يُخفينا من الموت ويجعلنا نتمسك بالحياة، عمليات التجميل وهوس الشباب الدائم هي من أكبر العلامات على هذا، لم نعد نرى الموت على أنه جزءٌ من تجربة الإنسان وحياته على الأرض، بل أصبحنا نراه البعبع الأكبر، يتمسك البعض في الحياة بصورة تُثير الدهشة خصوصًا لو كانوا من ذوي سلطةٍ وجاهٍ ومال، هؤلاء يعتقدون أن العِلم سيجد الحل للخلود ويعقد صفقةً مع الموت فيتركنا ونعيش نحن على هذه للأرض للأبد كمخلوقاتٍ من لحمٍ من ودم، يرفض الإنسان الخلود الميتافيزيقي لكنه يُرحب بالوجود المادي.” قلت لها مُطردًا ورافعًا ذراعي للساقي ليأتيني بالفاتورة.

ثم قالت:” هناك إحساسٌ حارق بالذنب، إحساس أنني أعيش في “العالم الحديث”، نوعٌ من الحنين تجاه إله أعطيناه ظهورنا واستبدلناه بالمادة، آه يا له من إحساس، أشعر وكأن ذنوبي أرطالٌ تنهال على صدري، أشعر وكأنني شريكة في جريمة، أفظع جريمة أرتكبها الإنسان، قتل الإله…” قالتها في حالة بنوع من الهدوء الذي يخفي انفعالًا هائلًا.

“أتعلمين؟ أحسد المتدينين، أتمنى لو أنني قادرٌ على الركوع في هذا الليل حتى أفقد وعي… رباه أن الطعم المعدني للمادة يسبب لي الغثيان… أريد أن أكون طاهرًا، أريد أن أغسل يدي من هذه الجريمة!” قُلت لها وأنا أشعر بحُبيبات القشعريرة تملأ جسدي.

ثم تَابعت: “أريد أن أكون واضحًا كمياه الدير، أربد أن أكون كِرِيسْتَالِيًّا، لكن أنّى لي هذا النقاء في عالمٍ رمادي كهذا، لا أطيق النظر نحو أي شيء، دموعي واقفة على محاجر عيني وتأبى النزول!!! أريد فقط أن أحمل من أحب على جناحي ملاك وأخذهم بعيدًا عن عالم اللامبدأ هذا…”

“شكرًا لك على هذه المحادثة…” قالت بنوعٍ من الامتنان.

غادرت الحانة مُتجهًا إلى سيارتي وعندها سمعت صوتًا عاليًا، نظرت خلفي فشاهدت سيارة تيسلا قد اصطدمت بسيارة هيونداي على الناصية، انطلقت نحوهما بسرعة، كان الحادث مروعًا والسيارتين تحولتا إلى ركام، الزجاج ملأ المكان وكانت هُناك دماء على الأسفلت، وقفت عند كرسي السائق لسيارة التيسلا فتفاجأت أنه ذلك الرجل الثري الذي كان في الحانة، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة وتبدو أصابته بليغة وكان يحاول أن يقول شيئًا لكنه لم يستطيع، وضعت يدي على رقبته فوجدته قد فارق الحياة.

اتصلت بالإسعاف واتجهت لسيارة الهيونداي وكان جسد السائق جد خرج نصفه من الزجاج الأمامي وباقي جسده بقي في الداخلي، نظرت إلى وجه، أنه موظف البنك ويبدو أنه هو الآخر لن يصمد طويلًا.

جاءت سيارة الإسعاف ومعها سيارة الشرطة، نظرت نحو باب الحانة لأجد الساقي والرجل الستيني المتقاعد وفتاة الجامعة واقفين ينظرون إلى الحادث.

دخنت سيجارة اليوم الأخيرة، وقدت سيارتي للمنزل… هُناك الكثير عليّ كتابته اليوم، لهذا اخترت أن أكون كاتبًا، لأكتب عن الحياة والموت.

 

  • كاتب من الجيل الجديد في الأردن

 

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *