الألفاظ السوقية في النصوص الأدبية !ضرورة فنية أم جريمة أخلاقية ؟

*فادية البمبي

 
هل التوغل في الوحل يمكن أن نعتبره تحليقاً في سماء البراعة والاقتدار؟ وهل يعد الانغماس في الانحطاط نجاحاً في التعبير عن خلجات النفوس وطبيعة الواقع المغموس في البذاءة والابتذال؟ وهل نحسب أن الإسراف في استعمال الألفاظ السوقية دليلاً على براعة الكاتب وقدرته على الغوص في واقعه أم انه على العكس عجز عن السمو إلى جلال الأدب وجماله؟. فقد كثرت للأسف الألفاظ السوقية التي نصطدم بها في النصوص الأدبية من قص وسرد روائي وشعر.. عاميا كان أم فصيحا والأسئلة السالفة تفرض نفسها مضافا إليها السؤال الأبرز هل يعد استخدام هذه الألفاظ المبتذلة واللغة الساقطة ضرورة فنية أم جريمة أخلاقية؟

 

يرى الناقد الكبير د. محمد عبد المطلب أن لغة الأدب يجب أن تكون ذات مستوى خاص ولا تنزل إلى الألفاظ المبتذلة والعبارات القبيحة والأنحدار إلى مقولات لاتناسب الخلق ولاتناسب الدين ولا تناسب العادات والتقاليد، والشيء المؤسف أن بعض الأدباء الشبان يسعون إلى الانتشار بمثل هذه العبارات التي يتبادلها بعض الشباب بينهم على سبيل التفكه، ولم يدرك هؤلاء أنه منذ وجود الأدب في العالم ومنذ وجدت اللغة في الأرض وهناك مستويان للغة مستوى اللغة الأدبية بكل مواصفاتها في اختيار الكلمات وبناء الجمل والفقرات، وهناك مستوى الحياة اليومية العادية التي يتبادلها الناس بينهم دون قصد الأدب أو الإبداع والخلط بين هذين المستويين أساء للأدب إساءة بالغة وأستطيع أن أقول أنني قرأت نصوصا قصصية وروائية وصل أصحابها بعبارات إلى العدوان على كل المبادئ الدينية والأخلاقية ظنا منهم أن هذه هي الواقعية بينما الواقعية التي أعرفها هي واقعية الفن لا واقعية اللغة واقعية الإبداع لا واقعية الإبتذال، وقد أكثر الأدباء من هذه العبارات بعد أن شاهدوا أن المسلسلات التليفزيونية والأفلام السينمائية استخدمت هذه الألفاظ البذيئة وأكثرت فيها طلبا للرواج والانتشار.. لم يعرف هؤلاء أن نجيب محفوظ وصل إلى العالمية دون أن ينزل إلى هذا الأسلوب المنحط في التعبير والصياغة حتى أنني أستطيع أن أذكر لك كثيرا من الجمل التي استخدمها هؤلاء في نصوصهم الأدبية.
ويواصل عبد المطلب حديثة قائلاً: ترجع هذه الظاهرة إلى القراء ودور النشر فيجب أن يكون لدور النشر رقابة فنية وأدبية على النصوص التي تنشرها لأنه من المؤسف الآن أن النشر أصبح لمن يدفع دون النظر إلى مستوي هذا العمل.. كما أن من المؤسف أيضا أن بعض كبار النقاد يمتدحون هذه الأعمال ويروجون لها طلبا للشهرة أيضا وليتجمع الأدباء حولهم بينما الفئة الثالثة التي يجب أن تشارك في هذه العملية هم القراء أنفسهم يجب أن ينصرفوا عن هذه الأعمال.
أما الناقد الكبير د.يوسف نوفل فيؤكد على أن لغة الأدب تتسم بسمات فنية وجمالية تساعد العمل الأدبي على الوصول إلى عقل المتلقي ووجدانه وتسهم في توصيل رسالة المبدع إلى قارئه وتجعل العمل الأدبي ناجحا في تصوير مجتمعه.
أي أن الإبداع الأدبي لابد أن يكون لغة رفيعة المستوى تقوم على بلاغة التعبير والتصوير والتخييل والرمز والايحاء وعدم المباشرة أو التقريرية أو الخطابية.
ومعنى هذا أن لغة الفنون الأدبية تختلف عن اللغة التداولية في حياتنا العامة والعلمية والاجتماعية فإذا جاز لرجل الشارع أن يخاطب زميله في الشارع خطاباً مباشراً متدنياً صريحاً فإنه لايجوز للمبدع أن يكون تعبيره صريحاً مباشراً مبتذلاً لأن الله سبحانه وتعالى منح المبدع قدرات وملكات فنية تجعله يختبئ خلف الرمز والإيحاء فيؤدي المعنى المؤلم في ثوب حريري وينتقد ويتهكم ويهجو دون سقوط أخلاقي.
ومعنى هذا أن الآداب العالمية منذ أقدم عصورها التاريخية لجأت إلى كل الطرق وصورت كل الصور والمعاني دون ابتذال أو سوقية أو خدش للحياء او استخفاف بالقيم وبذلك فإن المقاييس الجمالية للإبداع الأدبي تسقط من حسابها أي لغو او ابتذال او اصطدام بالمبادئ والقيم فيما يمكن ان يتفوه به رجل الشارع لزميله من ألفاظ أو عبارات تخدش الحياء وترفضها المبادئ والقيم وحين يسقط الأدب في مستنقع الألفاظ البذيئة فإنه يكون أدباً ساقطاً.
وتقول الروائية د.رشا سمير: احترف نجيب محفوظ الحديث بلغة الحارة، وكتب قصص الفتوات بتقنية تبوح بأسرار الأزقة، وعلى الرغم من عاميتها إلا أن نصوصه كانت مكتوبة بلغة مُتحفظة لا تمت بصلة للابتذال..
الأدب ليس سوي حالة تُعبر عن واقع يستمد منه الحكي المصداقية، إلا أنني لا أستسيغ فكرة إضافة كلمات أو جُمل مبتذلة في النصوص الأدبية كالتي يصفها الكتاب بأنها نقل حقيقي للمشهد الحالي والوصول إلى القارئ باللغة الدارجة التي يفهمها.
ببساطة لأن الأدب قادر علي تغيير الواقع والعكس ليس صحيحاً، فالأدب يجب أن يُغير في المشهد ليُجمله ولا يزيده قبحا.
اللغة المبتذلة زادت الواقع سوءا وأفرزت أجيالا سكنها العنف والقبح باسم الواقعية..
أتمنى أن يُقدم الروائيون الأدب بشكل أكثر رقيا وأن يبتعدوا عن اللُغة الفجة المُبتذلة، وليعلموا أنهم قادرون بأقلامهم على صبغ المجتمع بصبغة أخلاقية تبني ولا تهدم.
فاجعة لغوية
وفي الختام يقول الناقد الكبير د. محمد حسن عبد الله: اللغة أداة تواصل لا بديل عنها، وهي التي تحول «التجمع» إلى «مجتمع»، ومستويات استخدامها تختلف حسب الطبقة والثقافة ومزاج الشخص أو طبيعته، وفي الحكم بالقبول أو الرفض لبعض العبارات أو المفردات يتدخل الذوق العام، وهو لا يمكن إهماله، ولعل الكتابة الأدبية تخضع لظروف أخرى، تلائم بين طبيعة المشهد والمتكلم، وتفاوت مستويات التلقي، بحيث يظل التعبير الأدبي صادرا عن الصدق وقادرا على توصيله في حدود اللغة الجميلة «ولا أعني: المصنوعة»، فحين كتب محمد شكري رواية “الخبز الحافي” كانت “فاجعة لغوية” بقدر ما هي “بذاءة” عند قوم، وكانت تجربة خاصة وشجاعة عند آخرين!!
في الكتاب الموسوعي الأشهر «كتاب الحيوان» للجاحظ، وهو مفكر وأديب طبيعي وطليعي في زمنه، وإلى اليوم، روي عن الإمام عليّ «كرم الله وجهه» ألفاظا وعبارات لا أستطيع كتابتها، وكان تعليق الإمام علي هذا الاستخدام «الفاجع بالنسبة لزماننا» أن هذه الألفاظ قد وجدت، وهي ما وجدت إلاّ لنقولها، ولكن ليس علي الإطلاق، فليس كل ما يُعلم يُقال، وليس كل ما يُقال جاء أوانه، وليس كل ما جاء أوانه حضر أهله، وهذه من حكم الإمام رضي الله عنه.
أخبار اليوم

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

تعليق واحد

  1. فوزية بن حورية

    للاسف في هذه الايام اصحاب الجوائز هم اصحاب الكتابات الاباحية ان صح التعبير كتابات تحمل مشاهد مبتذلة الى اقصى حد يتصوره الانسان حتى اىك حين تشرع في قراءة صفحة تخال نفسك في ماخور. هذه جريمة اخلاقية ممنهجة لان المتهافتون على هذه الروايات هم المراهقون والشباب عماد المستقبل..والكاتب يحمل رسالة نبيلة، سامية يقوم بها الاعوجاج الأخلاقي و السلوكي فهو منير الدرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *