طُوبَى للمُفَرِّدين

*أحـمـد الـشَّـهـاوي

أحبُّ الانفرادَ بي ، في البيتِ ، في المكتب ، وفي السيارة ، حتى وأنا في الطائرة أفرحُ إذا اعتذر أحدٌ عن الجلوس بجانبي ، واختارَ لهُ مقعدًا آخر ، خُصُوصًا إذا كانت الطَّائرةُ غير مزدحمةٍ بالمسافرين من كلِّ لونٍ وجنسٍ ، وكان السَّفرُ سيستغرقُ فوق السَّاعاتِ العشر ، خُصوصًا إلى بلدان أمريكا اللاتينية ( الوسطى والجنوبية ) ، وأمريكا الشمالية ، وأنا كثيرُ السَّفر إليها منذ رحلتي الأولى إلى كولومبيا سنة 2005 ميلادية ، وقبلها رحلاتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي ابتدأتْ سنة 1988 ميلادية ، ففي رحلاتٍ كهذه تكونُ فُرصتي مُتاحةٌ للقراءةِ والكتابةِ والتأمُّل والاستغراقِ في النَّوم .
كُنتُ في الزمنِ القديمِ أذهبُ وحدي إلى الغيطِ مُتحجِّجًا برعايةِ ما زرعتُ من أشجارٍ على جُسُورِ أرضِنا ، لكنَّ الحقيقةَ هي الانفرادُ بي ، والتكلُّم إلى نفسِي بصوتٍ مسمُوعٍ ، علَّني أصل إلى الكنزِ العظيم .
الانفرادُ يعني القراءة المتأنيَّة وغير المقطُوعة من أحدٍ ، التأمُّل العميق ، يعني الكتابة ، ورُؤية ذاتي في أحوالها وكشُوفاتها .
الانفرادُ بالذات أو بالمكان نعمةٌ لا يدركُها غير المُتبصِّر ، ولا يعرفُها سوى الرَّائي .
وهذا لا يعني أنَّني كائنٌ مُعتزلٌ أو مُنزوٍ أو غير اجتماعيٍّ .
نعم أنا أحبُّ العُزلةَ ، وأيضًا أحبُّ الناسَ ، لكنَّني أسعى طَوال الوقت إلى أن أكُونَ نفسي ، وهذا لا يتحقَّق إلا بالانفرادِ والتطلُّعِ والشَّطح .
وإذا كُنتُ أنفردُ بنفسِي ، فأنا لا أنفردُ برأيي أو أستبدُّ أو لا أشركُ معِي أحدًا ، عندما يخصُّ آخرين غيري ، لكن أحتفظُ برأيي وأجهَرُ به ؛ لأنه يُمثِّلني ، وعمُومًا أنا لا أستحوذُ على الرَّأْيِ والسُّلْطَةِ في ذَلِكَ ، فمثلي لا يرفضُ الْمُساعَدَةَ وَالْمُشاوَرَةَ .
والحديثُ يقول : ” طُوبَى للمفرِّدين ” الذين يعتزلُون الناسَ ، وفي المعاجم المُنفرِد عن جميع الأشياء، هو المُمتنِعُ عن الاختلاط بها ، المُستغنِي عنها .
والمُعْتَزِل ليس بالضَّرُورة أن يكُونَ مُخالفًا لجماعتِهِ وناسهِ ، ولكن لديه رُؤى مُغايرة ، ويحتاج إلى مساحةٍ وفُسحةٍ ومكانٍ ؛ كي يرى نفسَه ويجُولُ في بواطنه .
وليس المقصُود أن يعتزلَ العالَمَ ، ويعيشَ وحيدًا في عُزلَةٍ عن الآخرين المُحيطين به ، لكنَّنا اعتدنا سلوكَ القطيعِ حتَّى في الكتابةِ والتفكير ، ومن ينفرد أو يغادر يتهم بأنه المُنشَقُّ والمُعتزلُ .
وفي العُزلةِ فرْزٌ وتصفيةٌ وتنقيةٌ وغربلةٌ وحذْفٌ لا بد من إجرائهِ كل فترةٍ من حياةِ المرْء .
وقديمًا قال الأولون : ” العُزْلَةُ عبادةٌ ” .
وأنا صرتُ أعتزلُ في البيتِ ، وفي السَّفر ، وحتَّى عندما أكونُ مع كثيرين ، ففي حقيقةِ الأمرِ ، أنا وحدي مع نفسي ، وفي بعض المهرجانات العالمية للشِّعْر التي عادةً ما أشارك فيها أكثر من مرَّةٍ في العام الواحد ، يتطلبُ الأمرُ أن يسكُنَ شاعران أو أكثر من شاعرٍ في غرفةٍ واحدةٍ ، حدث لي ذلك مرَّاتٍ كثيرةً ، أذكرُ منها ما وقع في : جواتيمالا ، والسَّلفادور ، وكوستاريكا ، لكنَّني رفضتُ بشدَّةٍ ، كأنَّ عقربًا لدغتني عندما علمتُ بالأمر ، وأصررتُ على أن أكونَ منفردًا ، حتى لو سكنتُ في الفندق على نفقتي ، ما دامت إدارةُ المهرجان غير قادرةٍ على التكفُّل بنفقات حجزِ غرفةٍ لشاعرٍ آتٍ من بلادٍ بعيدةٍ .
ومثلي يسمُّونه في اللغة : ” المِعْزَالُ من ينزلُ وحدَه في السَّفَر يعتزل رفقتَهُ. والجمع : معازيلُ “.
ولأنَّنا لسنا في زمن نُوح الذي دعا قومه 950 سنة :
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ) ، والذي هو
، أوَّلُ الرسلِ ، وكان الأب الثاني للبشريةِ بعد نجاتهِ ومن معهُ من الطوفان ، و ” أوَّل فلاحٍ في البشريةِ ، وكان أول صانع للنبيذ ” كما جاء في التوراة .
وكان الحفيد التاسع أو العاشر لآدم ، ولا أدري ما ترتيبي أنا بوصفي حفيدًا لآدم .
وأنا لستُ ابنه ، فلن أركبَ مع الناس قطارَهُم الملآن بالطَّازج والمعطُوب معًا : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا } [ سورة هود ].
وابنه هو كنعان بن نوح ، أو يام بن نوح ، هو الابن الرابع لنوح وزوجته واغلة ، وأخو سام ، وحام ، ويافث ، وأتى ذكرُهُ في الإسلام فقط ، وحسب الديانةِ الإسلاميةِ فإنَّه كافرٌ ، وقد مات غرَقًا في الطُّوفان ؛ لأنَّهُ رفض ركُوبَ السَّفينة مع أبيه نُوح ، ولكن لم يذكر الاسم كنعان في الآية القرآنية .
و كانت أمه واغلة كافرةً أيضًا ، فلاقت المصيرَ نفسه ؛ لأنها لم تركب السفينةَ أيضًا مع نُوح ، أما إخوته الثلاثة وزوجاتهم و امرأته ، فكانوا مؤمنين ، فركبوا جميعًا. ولم يكُن لكنعان مع زوجته أية ذرية مثل إخوته.
وهذه السفينة كان الله قد أمر نوحًا ببنائها ، و لم تعرف الدنيا مثيلًا لها من قبل ، وتذكر المصادرُ أنَّ طولها قد بلغ ثمانينَ ذراعًا ، وفي مصدرٍ ثانٍ ألفًا ، وفي ثالثٍ ألفيْ ذراعٍ ، وقيل غير ذلك ، وكان خشبُها من شجر الصنوبر الذي نستخدمه حاليا في صناعة الأثاث ، والآلات الموسيقية ، وأعمدة الهاتف والكهرباء ، كما أنهُ مُقاومٌ للجراثيم ، وهو شجرٌ معمِّرٌ يعيشُ حتى مئتيْ وخمسين سنةً ، وارتفاع الشَّجرة يصلُ إلى أربعين مترًا ، وكان نوح يزرعُ الشَّجر ، فهو سهل الزراعة ، ولا يحتاجُ إلى متطلباتٍ بيئيةٍ كثيرةٍ ، وينتظرُ نموه مئة سنة ، ثم ينشرُه في مئةٍ أخرى أو أربعين سنة ، وقد أمر أن يُطْلَى باطنُها وظاهرُها بالقار، وجعل منها ثلاثة طوابق ، فالطابق الأرضي من السفينة خُصِّصَ للحيوانات والوحُوش، وثانيها لبني الإنسان ، والثالث للطيور، و لها سقف مطبق عليها.

* عن نصف الدنيا

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *