إدوارد سعيد: رواية فكرية

* جمال شحيد

كان يطيب لإدوارد سعيد ودومينيك إدّه أن يتجولا كعاشقين في حدائق بعض المدن الأوربية والأميركية، وكانا يتناقشان في كثير من الأمور السياسية والأدبية والموسيقية. وبعد 14 سنة من وفاة سعيد بسرطان الدم (2003م) استعادت الناقدة والروائية اللبنانية الفرانكوفونية دومينيك إدّه ربع قرن من تعرّفها على سعيد. ودوّنت في كتاب «إدوارد سعيد: رواية فكره» Edward Saïd: Le roman de sa pensée (دار نشر لافابريك، 2017م، 227 صفحة) ذكريات مداولاتها مع سعيد وانطباعاتها عنه.

تقول عنه: إنه كان خطيبًا مفوّهًا يمسرح أقواله، ويتمتع بقوة هائلة على الإقناع. وكان يقدّر عاليًا أوقات الصمت: صمت أمام القمع الذي لا بدّ من كسره، صمت حافز على التفكير. وكان عنده مشروع عملاق: غربلة قرون من الأفكار الجاهزة والاستيهامات والتنميطات التي طرحها الغرب حول الشرق. وهذا المشروع هو الذي طوّره سعيد مع مجموعة من مثقفي العالم الثالث، وبخاصة: إيميه سيزير، بول نيسان، فرانز فانون، هومي بابا، غاياتري سبيفاك… وأُطلق عليه في النقد الأدبي والفكري تسمية «النقد ما بعد الكولونيالي» الذي استرشد كثيرًا بنظريات ميشيل فوكو وجاك لاكان وجاك ديريدا وأنطونيو غرامشي.

وبدأ سعيد هذا المشروع بكتابه الصاعق «الاستشراق» (1978م، ترجمة كمال أبو ديب)، ثم ألحقه بمجموعة من الدراسات الأدبية: «الثقافة والإمبريالية» (1993م، ترجمة كمال أبو ديب)، وعلى الأخص كتابه «خارج المكان» (1999م) (ترجمة فواز طرابيشي). ولا تعود قيمة إدوارد سعيد إلى عدد كتبه، بل إلى فصاحته وكارزميته، كما تقول د. إدّه التي توقفت عند عبارة بيّن فيها سعيد طريقة تدريسه، قال: «لم أرغب قط في أن يكون لي طلاب مريدون، ما أفضّله، كأستاذ جامعي، هو أن أحرّض طلابي على انتقادي –لا أقول على مهاجمتي، مع أن كثيرين فعلوها– بل على إعلان عدم تبعيّتهم لي». (ص 18).

كيف الدخول إلى أعمال إدوارد سعيد؟ تقول إدّه، مستندة إلى كتابه «بدايات – القصد والنهج» (1975م): «يندرج مشروعه الفكري كله في الذهاب والإياب من مستقبل مصنوع بعين الماضي المتحرك هو أيضًا» (ص 23)؛ وتضيف أن كتابة سعيد مبنية على غرار قالب الفوغا الموسيقيّ fugue، أي إدخال الحاضر وأبعاده السياسية في مسار التوزيع الموسيقيّ ونسج خطوط لحنية متباينة وإنما متساوية. والمعروف عن سعيد أنه كان محلّلًا موسيقيًّا وذوّاقًا متعمقًا في الموسيقا الكلاسيكية، ومؤسس فرقة «الديوان الشرقي الغربي» الموسيقية مع قائد الأوركسترا العالمي دانييل بارينبويم، كما سنرى لاحقًا. والمعروف عنه أيضًا أنه كان يتمتع بثقافتين: غربية وشرقية، وأنه كتب أطروحته عن جوزيف كونراد؛ وقد يكون لسفر كونراد في 21 سبتمبر 1881م إلى آسيا على متن سفينة اسمها «فلسطين» دور في هذا الاختيار.

كان سعيد يساريًّا غير دوغمائي، أُعجب بأنطونيو غرامشي وبجورج لوكاتش، وانتقد تحليلات ماركس وإنغلز، ولا سيما مقولتهما عن الاستبداد الشرقي. وكان بروتستانتيًّا طهرانيًّا صارمًا وإرادويًّا، وعينه على ساعة يده؛ وكان يرفض كل المقولات التي تنتهي بـ isme. وكانت ثقافته فرويدية تحليلية، فيرى أن الفهم هو النأي بالنفس، وهو القبول بالآخر كالقبول بالذات. وكان يطرح كثيرًا من الأسئلة، من دون الإجابة عنها بالضرورة. وبرع في استخدام الـ contrepoint (الطباق) والاستهلال والتناغم والبيمول والتبدلات وأوقات الصمت والـ tempo والـ crescendo واللازمة (ص 140).

تقول زوجته مريم سعيد عنه: كان سعيد يطبق هذه المقولات الموسيقية على الأدب، ولا سيما في كتابه الثقافة والإمبريالية. وكان مهووسًا بالتفاصيل والدقة، كما قال صديقه دانييل بارينبويم. وتصدّى للعنصرية والكولونيالية والتفوق الذي يدعيه شعب ما أو طبقة ما على الآخرين. فاستشهد بقصيدة لفرانز فانون عنوانها: «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»: «لا يحق لي أنا الإنسان الملوّن أن أبحث عما يجعل عِرقي يتفوّق على عرق آخر، لا يحق لي أنا الإنسان الملوّن أن أرسّخ عند الإنسان الأبيض إثمية حول ماضي عرقي، لا يحق لي أنا الإنسان الملوّن أن أهتم بالوسائل التي تمكّنني من دوس كبرياء المعلم السابق بقدميّ، لا يحق لي ولا ينبغي أن أطالب بالتعويض عما فعله المستبدون بأجدادي المستبعَدين، لا يحق لي أن آتي وأن أعلن على الملأ حقدي على الرجل الأبيض، ولا ينبغي عليَّ أن أهمس امتناني للرجل الأبيض؛ يحق لي أن أكتشف الإنسان أينما وُجد، أكان أسود أم أبيض، أتوسل أخيرًا قائلًا لجسدي: اجعل مني رجلًا يطرح الأسئلة». (ص 142)

صداقته مع دانييل بارينبويم

كتب إدوارد سعيد مع بارينبويم كتاب «المتشابهات والمتناقضات: استكشافات في الموسيقا والمجتمع» (2002م)، وكتب وحده «متتاليات موسيقية» (1991م)، و«النموذج الأخير: الموسيقا والأدب ضد التيار» (2006م)، وبعد وفاته نشرت له جامعة كولومبيا عام 2007م «حدود الموسيقا». وعام 1993م أسس سعيد، بالتعاون مع جامعة بيرزيت معهد «إدوارد سعيد الوطني للموسيقا». وكان سعيد معجبًا بالأوبرا الإيطالية «Cosi fan tutte» التي لحّنها موزارت وعرضها عام 1790م، وتعالج مسألة الحب المموّه، لاختبار الإخلاص في الحب. وتنادي الأغنية الأخيرة من الأوبرا بالحبّ والسلام. وأعجب أيضًا بأوبرا «فيديليو» لبيتهوفن، وهي الأوبرا الوحيدة التي ألّفها بيتهوفن واستوحاها من وقائع الثورة الفرنسية. واهتم سعيد بالموسيقيّ الكنديّ المعاصر غلين غولد، المعروف بأدائه مجموعة من الأعمال الموسيقية الباروكية. وكان التناقض بين سعيد 1 (قبل العزف) وسعيد 2 (بعد العزف) يدفعه إلى القول: إن «الموسيقا هي عبارة عن صمت متهلّل» (ص 175)، وإن هناك لقاءً بين غسقين: غسق موزارت في أوبرا Cosi fan tutte التي لحّنها قبل وفاته المبكرة بسنة، وغسق إدوارد سعيد الذي كتب نصًّا جميلًا عن هذه الأوبرا قبيل وفاته.

حل الدولة أو الدولتين

التقى سعيد بارينبويم في لندن (يونيو 1993م). وقال: «إن هذه الصداقة قد غيّرت حياتي»، وحوّلته على الصعيد الموسيقي والسياسي والفكري. لقد ناديا بدولة واحدة تضمّ الإسرائيليين والفلسطينيين، على غرار نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا بعد الأبارتهايد. والتقيا في هذا المجال مع طروحات حنّة آرندت، ومارتان بوبر، وإريك هازان، وإيال سيغان، وشلومو ساند الذين نادوا بمواطَنة إسرائيلية فلسطينية غير مرتبطة بالدين (ص 187). وكان بارينبويم وسعيد على الموجة نفسها: لم يقولا الشيء ذاته دائمًا، ولكنهما كانا يتكلمان اللغة ذاتها. كانا يريدان المساواة بين الشعبين. وبعد وفاة سعيد، كتب بارينبويم (الذي كان يحمل الجنسيات الأرجنتينية والألمانية والإسرائيلية والفلسطينية): «إن الحكومات الإسرائيلية، خلافًا لكل تاريخ اليهودية، وخلافًا لكل الأخلاق التي نادت بها اليهودية، ما زالت تضطهد أقلية، نحن الذين كنا أقلية طيلة ألفَيْ عام، نضطهد اليوم شعبًا ونقهر أقلية أخرى. حان الوقت أن نعي». (ص 196).

في 22 يونيو 1992م زار سعيد فلسطين للمرة الأولى بعد أن عرفها حتى الثانية عشرة من عمره. وزار هو وزوجته مريم وابنه وديع وبنته نجلاء، حيّ «الطالبية»، فوجد أن بيت العائلة تحتله مجموعة من المسيحيين المتشددين الأميركيين المتصهينين. وبعد هذه الزيارة المؤلمة بدأت حملة تخرّصات واسعة قادها جوستوس فينر الذي اتهم سعيدًا بأنه كذّاب ومزوّر للتاريخ، فهو ليس فلسطينيًّا، ولم تسكن عائلته قط في فلسطين (ص 190). وزار سعيد القدس والناصرة وتل أبيب وحيفا وغزة، ولاحظ الفرق الهائل بين الأحياء العربية البائسة المهملة والأحياء اليهودية التي فيها ماء وفير ومسابح وحدائق. وقبيل وفاته زار هو وابنه وديع فلسطين ولاحظ أن شعار «الإسلام هو الحل» مرفوع في أماكن كثيرة، ولاحظ فساد السلطة الفلسطينية والتعصب الديني المتنامي. وانتقد سعيد اتفاقيات أوسلو؛ لأنها لم تنظر في مسألة المستوطنات وإخلائها من المحتلّين. ورأى أن هذه الاتفاقيات ولدت ميتة.

عودة إلى الموسيقا

في أغسطس 1999م اتفق مع بارينبويم على تأسيس أوركسترا مختارة تجمع 78 موسيقيًّا عربيًّا وإسرائيليًّا وأجنبيًّا، في مدينة فيمار الألمانية، تُراوِحُ أعمارهم بين 18 و25 عامًا، كما ذكرت إدّه. ودربهم كلٌّ من بارينبويم ويويوما وموسيقيون آخرون قدموا من شيكاغو وبرلين. وكانت مدة التدريب تصل إلى سبع ساعات يوميًّا، وفي المساء كانت تعقد جلسات مناقشة يديرها سعيد وبارينبويم. وبعد ذلك بأسبوع صار كونشيرتو الفيولونسيل لشومان والسيمفونية السابعة لبيتهوفن جاهزَيْنِ. وأدى عازفا بيانو إسرائيلي وفلسطيني اثنين كونشيرتو للبيانو من تلحين موزارت، في قاعة الهول الكبرى في فيمار.

وقامت الفرقة بعد هذا النجاح بجولات عدة في العالم، بعد أن خلق الرجلان جوًّا من الوُدّ والحوار عن طريق الموسيقا. وفي عام 2016م أنشئت أكاديمية بارينبويم– سعيد وأعطت منحًا لتسعين طالبًا من الشرق الأوسط. وسبق لسعيد أن التقى قبل وفاته الزعيم نيلسون مانديلا الذي قال له «حرّكوا المخيّلات». واتُّبعت النصيحة. وعندما اشتدّ المرض على إدوارد سعيد، وكانوا يقولون له: صديقك دانييل على الهاتف، كان يتهلّل وجهه وينسى آلامه. «كانا قد استمع أحدهما للآخر قبل أن يتفاهما»، كما قالت دومينيك إده (ص 194). وغالبًا ما كان سعيد يكرر عبارة إيميه سيزير: «لا يوجد عرق بشري يحتكر الجمال والذكاء والقوة. هناك مكان رحب للجميع في إحراز النصر» (ص 196). وتقع أجمل الصفحات التي كتبتها إده عن هذين الرجلين في العشرين صفحة الأخيرة من الكتاب. كان بارينبويم يرى وجهين زمنيين في الأعمال الفنية: وجهًا ينطلق من الزمن الذي كُتبت فيه، ووجهًا يتطلّع نحو الأبدية.

 

  • عن الفيصل

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *