إدوارد سعيد: مسؤولية المسافر خارج المكان



منى شكري *




“يعزف لحناً لموتسارت 
يركض في ملعب التنس الجامعي 
يفكّر في رحلة الفكر عبر الحدود وفوق الحواجز…
يلعن مستشرقاً يرشد الجنرالَ إلى نقطة الضعف
يقول: أنا من هناك. أنا من هنا
ولست هناك ولست هنا
لِيَ اسمان يلتقيان ويفترقان
ولي لغتان، نسيتُ بأيِّهما كنت أحلمُ،
لي لغة إنكليزية للكتابة
ولي لغة من حوار السماء
مع القدس، فضيةُ النَبْرِ
لكنها لا تُطيع مخيلتي”
بهذه الأبيات من قصيدة “طباق” يرسم الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش معالم صديقه الأثير إدوارد سعيد المفكك الصارم للبناء الاستشراقي ورائد دراسات ما بعد الكولونيالية، والناقد الموسيقيّ وعازف البيانو المرهف.
على وقع رنين أجراس كنيسة القيامة وصوت أذان المسجد الأقصى في القدس، فتح إدوارد وديع سعيد عينيه عام 1935، ورغم أن ارتباطه المكاني كان حائراً اثني عشر عاماً بين القاهرة ومسقط رأسه حتى العام 1947 بسبب طبيعة عمل والده، إلا أن هذه المرحلة كانت أكثر من كافية لخلق “أكثر صوت فعّال في الدفاع عن القضية الفلسطينية”، كما وصفه روبرت فيسك.
وكان والده قد فرّ من التجنيد العثماني مهاجراً إلى الولايات المتحدة، ليتجند في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الأولى، ويعود رجل أعمال متنقلاً بين مصر وفلسطين قبل ولادة إدوارد بعشرة أعوام.
كان العام 1951 مفصلياً في حياة سعيد، عندما ضاقت كلية فكتوريا البريطانية في الإسكندرية ذرعاً بذلك الفتى المقدسي “المشاغب” وطردته بسبب استخدامه اللغة العربية في أول صدمة “استشراقية” تواجهه، ليجد نفسه كما يقول “خارج المكان”؛ التعبير الذي اختاره، ليكون عنواناً لمذكراته فيما بعد.
ظهرت بوادر نبوغه عندما أرسله والده إلى مدرسة داخلية نخبوية في الولايات المتحدة، ليحرز الترتيب الأول بين أقرانه، ويتابع دراسة الفن في جامعة برنستون عام 1957 ، ويحصل في 1960 على الماجستير بهذا التخصص، ثم نال من جامعة هارفارد في 1964 شهادة الدكتوراه باللغة الإنكليزية والأدب المقارن، المجال الذي تابع فيه مسيرته أستاذاً جامعياً.
جال إدوارد سعيد بمحاضراته في أكثر من مئة جامعة، لكنه قضى معظم حياته الأكاديمية بجامعة كولمبيا التي منحته عام 1992 لقب “أستاذ الأساتذة” أعلى درجة علمية أكاديمية لديها ضمن خمسة أساتذة فقط، خلّف سعيد 18 كتاباً أشهرها “الاستشراق” عام 1978، ومسألة فلسطين (1979)، وبعد السماء الأخيرة (1986) وكلاهما عن الصراع العربي الإسرائيلي، والثقافة والإمبريالية عام 1993 الذي يعد استكمالاً لـ “الاستشراق”. كما نشر مقالات ودراسات في أهم الصحف العالمية لعل أطرفها مقاله الشهير بالإنجليزية عن تحية كاريوكا “قصيدة إلى راقصة شرقية” عام 1999 بعد أن فوجئ بعد وفاتها بأنه لا توجد كتب عن حياتها.
يعد “الاستشراق”، الذي ترجم للعربية مرتين؛ أولاهما بلغة معجمية معقدة، الكتاب الذي أطلق به سعيد دراسات ما بعد الكولونيالية، والمدخل الإلزامي لكل من يروم فهم العلاقة الإشكالية تاريخياً وثقافياً بين الشرق والغرب الاستعماري، فلا مناص من المرور عبر مدرسة الأكاديمي الفلسطيني الأبرز في القرن العشرين الذي نذر حياته لتأسيس وتعزيز خطاب منحاز ثقافياً للعرب والقضية الفلسطينية في عقر دار المتلقي الغربي باللغة التي يفهمها، من خلال طرح علمي مغرق بالأكاديمية الرصينة، وبعيد عن روح الاتهامية والتشنج والأحكام المسبقة التي وقع فيها غيره.
تمكن إدوارد سعيد عبر تحليل عميق لتراث المستشرقين الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين من سبر غور “مؤسسة الاستشراق” وعلاقتها بالمآرب السياسية للإمبراطوريات الغربية الاستعمارية الكبرى آنذاك، ودورها “الممنهج” في رسم الصورة النمطية السائدة عن “الشرق” في العقل الجمعي الغربي. ولَكَم ساءه أن يفسَّر كتابه تفسيراً حماسياً ضيقاً في سياق الدفاع عن الإسلام والعرب ومعاداة الغرب، في حين أنه كان يهدف إلى تخطي هذه الهوة من خلال إثارة قضية التعددية الثقافية التي طالما آمن بها.

وفي سياق تواصله مع جذوره الفلسطينية، انضم إدوارد سعيد عضواً مستقلاً للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1977، ورغم أنه كان من أشد المؤمنين بالحل المبني على قيام دولة ثنائية القومية، إلا أن توقيع اتفاق أوسلو دفعه للاستقالة عام 1991 والصدام مع السلطة الفلسطينية التي ردت عليه بمنع تداول كتبه بعد أن أصدر “غزة أريحا: سلام أمريكي” (1995) و”أوسلو سلام بلا أرض” (1995)، ثم كتابه “نهاية عملية السلام” في 2000.
إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يؤسس عام 2002 مع حيدر عبد الشافي ومصطفى البرغوثي وإبراهيم القاق المبادرة الوطنية الفلسطينية التي تدعو إلى التصدي للضغوط الإسرائيلية، والعمل على استمرار الكفاح الوطني من أجل إنهاء الاحتلال والاستيطان والنهوض بالشخصية الفلسطينية.
ارتباط اسمه بكتاب الاستشراق جارَ على إنتاجه الأكاديمي الآخر في هذا المجال، كما أسهم في حجب الأضواء عن تميزه العالمي في النقد الموسيقي الذي ألّف فيه ثلاثة كتب مهمة، وهي: “متتاليات موسيقية” (1991) و”النموذج الأخير: الموسيقى والأدب ضد التيار”، و”المتشابهات والمتناقضات: استكشافات في الموسيقى والمجتمع” بالاشتراك مع دانييل بارينبويم الذي أسس معه أوركيسترا الديوان الغربي الشرقي عام 1999 من أطفال فلسطينيين وإسرائيليين وعرب. كما كان عضواً في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم ونادي القلم الدولي والأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب والجمعية الملكية للأدب، والجمعية الأمريكية للفلسفة.
بعد صراع مرير مع مرض اللوكيميا، رحل إدوارد سعيد عام 2003، ونقل رماده إلى مقبرة برمانا الإنجيلية في جبل لبنان، بناء على وصيته بأن ينثر رماده في دولة عربية اختار أن تكون لبنان التي كان قد زارها صيف 2000 بعد تحرير الجنوب، ليرمي حجراً عبر “بوابة فاطمة” باتجاه محتل أرضه، ما أثار عليه الدوائر الإسرائيلية في العالم التي طالما دعت مفكريها لتجنب مناظرته، وجاء الرد على اتهامه بـ “التعاطف مع الإرهاب” ببيان مطول من رئيس جامعة كولومبيا نفسه الذي وصف ما قام به بأنه حرية تعبير مشروعة.
كان صاحب “خارج المكان” يرى أن طريقة التفكير الشاملة، خاصةً فيما يتعلق بالسياسة، تبقي الإنسان في حالة حركة مستمرة، لأن “المسافر يرتحل مخلفاً وراءه الحدود الإقليمية ويتخلى بالتالي عن المواقف الجامدة المرة بعد المرة”، كما يصفه محمود درويش:
“يحبُّ الرحيل إلى أيِّ شيء
ففي السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشري
مقاعد كافيةً للجميع…”.


– عن موقع ذوات
* إعلامية من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *