*أسامةغالي
(ثقافات)
يقدم إدوارد سعيد دراسته الثالثة (تغطية الاسلام / 1981 ـ ترجمة د. محمد عناني2005 دار رؤية) حول علاقة الغرب بالاسلام بعد أن أنجز دراستين (الاستشراق/ المسألة الفلسطينية) وهو يتجه من خلالها نحو دراسة العلاقة بين الغرب وايران (الدولة المتأسلمة) فيبدأ الدراسة بتنقيب مصطلح الاسلام كمدخل رئيس لإثارة التساؤلات وتحليل العلاقة المعقدة في ضوء التغطية الإعلامية التي قام بها الغرب ازاء ايران ودول اسلامية اخرى وإبراز تداعيات التواصل الغربي الايراني ومدى صدق نوايا الطرفين في التعامل.
يحمل مصطلح الإسلام لدى ادوارد سعيد ـ والذي استعاره عنوانا رئيسا لدراسته ـ دلالة مجانبة للواقع الماثل، فهو يعدّه (بطاقة ايديولوجية لا تتجاوز الحدود الدنيا في الاشارة إلى الدين الاسلامي)، من هنا عمل على محاكمة المواقف الغربية التي جعلت من الإسلام نافذة اعلامية لنشر الأنباء المثيرة المفجعة، خصوصاً منذ أن لفتت احداث ايران أنظار الناس في اوروبا وأمريكا، فهذه التغطية الغربية حسب توصيف ادوارد سعيد تغطية مظللة حتى وإن بدت شاملة، ومصدر ذلك يرجعه إلى أن متلقي الانباء يظنون بأن الغرب قد فهم الاسلام، غافلين عن الدواعي الاساسية لتلك التغطية، حيث ان الانحياز الغربي الى الاسلام تشكل حديثاً جراء وجود (البترول) الذي هو الداعم الرئيس في توجه الانظار نحو المنطقة وليس الانبهار بالاسلام كما يعتقد البعض، لكن هذه التغطية مررت دون أن تكشف نوايا القائمين عليها، وذلك بسب ألاعيب اللغة (الكليشيهات) والتعميم في الخطاب الاعلامي، لذا يقوم ادوارد سعيد في مقدمة دراسته باخذ عينات من الخطاب الاعلامي في الصحف الغربية ليؤكد الفهم لعلاقة الغرب بايران، حيث يستعرض ما جاء في صحيفة (نيويورك تايمز) من شرح وتفسير للمقاومة الايرانية ضد الغزو العراقي، ورفعها لمقولة (للشيعة ولع بالاستشهاد) إذ هذه المقولات لها حظها من القبول من الناحية السطحية على حد وصفه، وتؤثر في سياقات التعامل مع الغرب في الوقت الذي تكون ورقة ضغط من قبل الشعب نفسه ازاء حكومته لتعزيز التواصل تأثرا بهذه الحيادية المدعاة.. ومن الجانب الاخر إن الغرب يرى في الاسلام خطرا يحدق به ويعرقل خطاه نحو الهيمنة المطبقة على العالم، من هذا التركيب الموغل برغبة الهيمنة والنفع التجاري يحدد ادوارد سعيد سياقات الخطاب الاعلامي الغربي، في الوقت الذي لم يكن مدافعا عن الاسلام بقدر ما كان يتجه نحو ابراز الوسمة الواقعية لتلك العلاقة وللاعلان عن ظروف نشأتها الخفية..
يستعرض ادوارد سعيد جذور الرؤية الغربية للاسلام كي يتساءل بعد ذلك عن التحولات السطحية التي رافقت عام 1978، وكيف تغيرت مجريات الاحداث في ظل انتصار الثورة الاسلامية واستيلاء صورة الخميني على أجهزة الاعلام، وما أعقبه من دخول الشاه إلى الولايات المتحدة عام 1979 وما انبرى اليه الشباب الايراني من اقتحام السفارة الاميركية في طهران، ما شكل نزعة انفعالية لدى المؤسسة الغربية فبدأت تصور الاسلام بخلاف ما كان عليه الغرب من رؤية، ويبرز هذا التحول بصورة واضحة عام 1980 (اذ خصصت محطة اذاعة كولموبيا جانبا كبيرا من حلقتين من حلقات برنامجها “ستون دقيقة” للحديث عن التعذيب أيام الشاه وللاحابيل التي قام بها هنري كيسنجر لحساب الشاه)، إلا ان ادوار سعيد يؤكد أن تلك التحولات كانت سطحية وآنية سريعا ما رجعت تستمد مادتها من نفس الرؤية السابقة للاسلام على انه (دين شيطاني)، لكن هذه الممارسة النقدية انتقل فيها ادوارد سعيد الى الجانب الاسلامي على ان المسلمين كانوا جزءاً من عملية تكريس الرؤية الغربية واستعادتها، ولم يسهموا في تعزيز موقفهم ازاء الاعلام الغربي، كل هذا بسبب الانغلاق الذي اتسم به (الخبراء الاكاديميون المتخصصون في الاسلام فقد دأبوا على تناول هذا الدين وشتى ثقافاته في اطار ايديولوجي اخترعوه او حددت الثقافة صورته، فامتلأ بالانفعال، وبالتعصب المعهود في الدفاع النفسي، واحيانا بالنفور، وهذا الاطار هو الذي يجعل تفهم الاسلام مهمة بالغة الصعوبة). بعد ذلك يلفت النظر لسير تعالقات الحدث الايراني بعد انتصار الثورة وتشعب العلاقات مع أطراف متنافرة وإن كانت تنتمي لجهة مقابلة للشرق او للاسلام، فعلاقة موسكو بايران تمت أيضا تحت تغطية مظللة انبرى البعض إلى ابدائها بشكل إيديولوجي سطحي وتحت ثيمات متناقضة الفهم بل متصارعة في الواقع الخارجي، فيستعرض ادوارد سعيد مقالا نشر في صحيفة (نيويورك تايمز) للصحفي (جون كيفنر) بعنوان (لايزال التنافر قائما بين ماركس والمسجد) حيث يكشف المقال حسب ادوارد سعيد عن وسمة خادعة وساذجة في الوقت نفسه حيث يستخدم الكاتب مصطلح الاسلام كرابطة مباشرة ومطلقة تغاير بين الاسلام والأديان الأخرى على أنه (دين جامع لا يفصل بين الكنيسة والدولة)، وهذا ما عملت على بلورته العقلية الغربية، وقد ناقش ادوارد سعيد هذه الفكرة مفصلا في كتابه (الاستشراق).
إن للاعلام الغربي ـ المتمثل بصحفه واذاعاته وحتى قنواته التلفزيونية ـ دوراً كبيراً في اختزال صورة الإسلام واظهارها من زوايا متعارضة، ما أدى إلى تشظي المصطلح وإعادة تركيبه تحت عنوانات ثانوية (الثورة الاسلامية، الاخوان المسلمون) فبرز مصطلح مجانب وهو (الاسلامي) آثر استعماله على المصطلح الأم، وهذا ما أشار إليه ادوار سعيد في خضم حديثه عن سبب ظهور الحركات داخل الكيان الاسلامي وهو يقسم العالم الاسلامي إلى تيارين رئيسين (الأول: يمثل الاراء الصحيحة الرسمية للحياة الإسلامية، والثاني يعارضه ويتخذ أشكالا كثيرة متفاوتة) مطلقا عليه تسمية (إسلام ضد ثقافي)، وهو يرجع نشوء تلك التيارات إلى اختلاف الفهم لكلام الله (القرآن) وتنوع الأساليب التفسيرية والمشارب الفقهية، في السياق نفسه يطرح ادوارد سعيد تساؤلات اخرى ذات أهمية بالغة، (هل يوجد شيء حقا يسمى السلوك السياسي الاسلامي؟، كيف تتكون الطبقات وتتشكل في مجتمعات المسلمين؟ وكيف تختلف هذه عن نظائرها في اوروبا؟، وماهي المفاهيم وأدوات البحث والأطر التنظيمية والوثائق التي نستطيع بها رصد أفضل مؤشرات الحياة اليومية للمسلم بصفة عامة؟، وهل يفيدنا استعمال مصطلح الاسلام في نهاية المطاف باعتباره فكرة، أم تراه يخفي اكثر مما يقول في الواقع أو يشوهه أو يحرفه أو يضفي عليه دلالات ايديولوجية اوسع؟) وما يزيد التساؤلات تعقيدا، من الذي سيجيب عنها؟، العلماء في ايران أم في مصر أم في السعودية؟ فهم مختلفون إلى حد التناقض في رؤاهم وأفكارهم، ثم كيف تتوحد الخطابات والممارسات الاسلامية في خضم هذا الاختلاف، هذا ما يؤكد تأثير العوامل والتجاذبات السياسية على منتجي الخطاب، مما يصفه ادوارد سعيد (ستارا يخفي العديد من العناصر التي تتسم بالتناقض المدمر، عن استعمال مصطلح الاسلام في الغرب) .
من هذا كله، يتبلور جزء من قراءة ادوارد سعيد للعلاقة المعقدة بين الغرب وايران بالخصوص ومدى أهمية الإعلام في تصوير تلك العلاقة بخلاف ماهي كائنة في الواقع، وفي الاطار نفسه يمكن جعل هذه القراءة مدخلاً لاستيضاح ما يجري الآن في سوريا ومدى تأثير الدور الايراني على سير الأحداث في المنطقة العربية ككل، وما هو مقدار التفاعل الغربي مع الربيع العربي، وهل ثمة اختلاف في مقدار التفاعل من منطقة إلى أخرى باختلاف طبيعة المجتمع الثقافية والاقتصادية وانتمائه الايديولوجي، وهل تغيرت استراتيجية الغرب في تغطية الثورات بوصفها الشرقي أو الاسلامي؟ كل هذا يمكن الاجابة عنه استنادا إلى ما قام به ادوارد سعيد ـ عبر دراساته ـ من تفكيك للمبادئ الأساسية في تعامل الغرب مع الشرق أو الإسلام.
_________
*نشر في جريدة(العالم)