مهنا الدرة: لا أذكر يوما لم أكن فيه أرسم

* أحمد أبو خليل

هذا المقال ليس نصا في النقد الفني ولا في تقنيات الابداع بالرسم، بقدر ما هو محاولة في تتبع السيرة الاجتماعية الفنية للفنان مهنا الدرة والتي كما سنرى تشكل مقطعا طولياً رئيسيا في سيرة الفن والثقافة في الأردن، لقد أكمل مهنا الدرة عامه الثمانين، منها حوالي 70 عاماً في الرسم الاحترافي.

يتذكر السيد يسار الدرة، شقيق الفنان، أن مهنا الطفل كان يتمتع بنظرة عيون تفحصية حادة، إلى درجة أن بائع اللبن الذي كان يزورهم في منزلهم كل صباح، كان يصيح بمهنا بقلق: “لا تتطلع في”! كان مهنا قد بدأ مبكرا بالنظر لما حوله كأفكار للرسم.

ينتمي مهنا إلى أسرة متعلمة، فوالده المرحوم سعيد الدرة عُرف في الأردن كتربوي مميز، وأصبح مفتشاً لوزارة المعارف (منصب يعادل أمين عام وزارة التربية حالياً)، ولكن مهنا استثمر ذلك في “الشقاوة” والتشويش على والده، فقد مكنته مهارة الرسم من اتقان تزوير توقيع والده وخطه، وصار يحمل معه رسائل موقعة من الوالد يطلب فيها السماح له بالمغادرة لأمر هام (وهذا الأمر الهام لم يكن في الواقع سوى حضور فيلم سينما)، ويتذكر أنه ذات يوم حمل رسالة موقعة تطلب فيها نقله وأخيه من المدرسة إلى مدرسة أخرى، وتشاء الصدف أن يحضر الأب المفتش إلى المدرسة، ويكتشف الخديعة، التي تكون نهايتها عقوبة بدنية مزدوجة للشقيقين.

غير ان مهنا يتذكر غرابة موقف والده، فالأب الغاضب من شقاوة ابنه، يفاجئه بشراء الألوان وكتب الرسم، لكنه سرعان ما يعود لحرمانه منها، فهو كتربوي يريد مستقبلا “وقورا” لجميع أبنائه، ولم يكن يعجبه أن يصبح ابنه “دهّانا” كما كان يصفه حتى بعد تخرجه من كلية الفنون كأول أردني في هذا الميدان.

يتذكر مهنا ان والده أحضر مدرسا خصوصيا للبيت لمهنا عله يتمكن من إتمام دراسته، ولكن مهنا التلميذ لا ينتبه إلا إلى اختراق الضوء لحطّة رأس المدرس الجميلة وانعكاسات ذلك، ويتحول المشهد إلى مشروع للرسم.

يستثمر الأولاد من زملاء مهنا في المدرسة، مهارة زميلهم فيتحقلون حوله ليرسم لهم معلما لا يحبونه بطريقة فكاهية، وتنقسم التقييمات بين معجب وبين غاضب وخاصة مدرس الدين (من أبخازيا أصلا) الذي كان يخيف مهنا بأنه يوم القيامة سيطلب منه أن يبث الروح في الشخوص التي يرسمها!

كانت عمان حينها في الأربعينات مجرد بلدة صغيرة لا يتجاوز سكانها في منتصف العقد أربعين ألفا وفق التقديرات، وتشاء الصدف أن يتواجد فيها فنان روسي الأصل، جنرال سابق في الجيش، اسمه جورج ألييف، يتعرف عليه مهنا ويصبح هذا الفنان أستاذه الأول، هكذا يعرفه في لوحة رسمه فيها لاحقا عام 1960. يتعلم مهنا من هذا الفنان أساسيات الرسم بالألوان المائية والزيتية، وقد رافقه في تلك الدروس المرحوم الشريف عبدالحميد شرف الذي يقول مهنا إنه كان يجيد رسم الخيول وأنه كان يغار منه. لم يكن مهنا يعرف أنها سيلتقيان بعد ذلك بحوالي عقدين، وسيكون لراسم الخيول موقفاً فروسيا من زميله القديم.

تستمر مقاومة مهنا للدراسة ويواظب على الرسم سرا وعلانية، إلى أن يأتيه الدعم من المرحوم قدري طوقان، عميد مدرسة النجاح في نابلس، الذي كان يحب مهنا ويحب رسومه ويستوعب دوافعه، فيتدخل عند الأب ويقول له: “خلّي واحد من اولادك يطلع “متحضر”! كان لمهنا خمسة إخوة وأخوات توزعوا على جامعات عدة دول.

يصطحب قدري طوقان الولد مهنا إلى السفارة الإيطالية، ويوافقون على سفره إلى روما، ويبدأ بتجهيز نفسه، وينصحه فنان هولندي كان يقيم في عمان لأن والده كان يعمل في مكتب الأمم المتحدة، بأن عليه ان يتقن رسم الأجساد شبه العارية، لأن الامتحان في إيطاليا يتطلب ذلك، فيسرع مهنا إلى واجهات بعض المحلات التجارية المحدودة التي كانت تعرض الملابس على مجسمات لأجساد، كما يحصل على مجلات فيها صور “مناسبة”!

يسافر مهنا إلى المدينة التي لا تزال تشكل مطمحاً ومقصدا للرسامين في شتى انحاء العالم. يقول مهنا: في الأردن لم تكن فكرة اللوحة الفنية حاضرة، في أحسن الأحوال يعلق الناس “براويز” لصورهم، كما انتشرت بين الناس صور ملونة ذات مواضيع دينية إسلامية او مسيحية، أو صور عنتر وعبلة، ولكن بعض الناس كان يضع صورة باكيت شوكلاتة في برواز ويعلقه على جدار بيته!

يتذكر مهنا أنه في إحدى العطل الصيفية أيام دراسته الجامعية في إيطاليا، كان الجيش الأردني قد استقدم فناناً إيطاليا لعمل رسومات جدارية كبيرة في نادي الضباط في الزرقاء.

طُلب من مهنا مرافقة الفنان الإيطالي ليقوم بمهمة الترجمة بينه وبين الضباط الأردنيين المسؤولين، لكن مهنا رأى أن الرسام الإيطالي لا يعمل بجد، فبادر إلى تنفيذ رسومات مماثلة بنفسه سرعان ما تبين أنها أكثر اتقاناً، فواصل العمل وسط إعجاب الضباط وخاصة المرحوم حابس المجالي الذي كان مهتما بتلك الرسوم التي تمثل معارك الثورة العربية الكبرى وتحمل وجوه الجنود والفرسان.

توطدت تلك العلاقة بين القائد العسكري والفنان الشاب، وصار المجالي يوفر للرسام الدرة النماذج المطلوبة من الشخصيات والوجوه للرسم، وذلك بعد أن أولع الطرفان القائد العسكري والفنان بوجوه الجنود وخاصة البدو وهي الوجوه اشتهرت في كثير من لوحات مهنا الدرة.

لم تكن “صنعة الرسم” مفهومة في المجتمع، وهنا يقول مهنا: اهتديت إلى طريقة تجعل الناس “يحسّون” بمعنى الرسم، وبدأت برسم الوجوه البدوية، التي ضربتها أشعة الشمس والتي تتميز بالنظرات والقسمات القاسية والحادة والمغرية للرسام، حينها بدأ كثيرون يتأملون بهذه اللوحات التي تنتمي إليهم، وصاروا يدافعون عنها. تلك كانت نقلة جيدة كما يقول مهنا. وقد أعجب الجميع بتلك الرسوم إلى درجة ان الملك في إحدى زياراته لألمانيا قدم لوحة تحمل صورة بدوي هدية لرئيس بلدية بون عاصمة ألمانيا الغربية آنذاك.

ويتذكر الدرة أن حابس المجالي كان يسميه “الشيطان” تحبباً، وخاصة عندما يراه يتقن تفاصيل لباس الفرسان والهجانة. ثم عرض المجالي على الدرة أن يلتحق بالجيش برتبة ملازم أول ويعمل كرسام فيه، غير أن الدرة لم يكن يرى أن هذا العرض يناسب شخصيته كفنان.

بعد التخرج عام 1958، يعمل مهنا “مديراً” في مطار عمان (ماركا)، فإلى ذلك الحين لم يكن الرسم والفن صنعة! لكن يحصل أن يعود زميله القديم عبدالحميد شرف إلى البلد من منفاه، ويعين في دائرة تشرف على التوجيه والإعلام والثقافة (إلى ذلك الحين لم تكن هناك وزارة خاصة بالإعلام أو الثقافة)، وينتقل مهنا إلى العمل في الدائرة، وتبدأ مرحلة العمل “الرسمي”، غير أن الفنان مهنا لم يكن مستجيبا لمتطلبات “الرسمي”، كانت تلك الفترة من عقد الستينات مرحلة بناء وتأسيس كثير من المشاريع والأفكار الكبيرة نسبيا في شتى المجالات. يتذكر مهنا انهم كانوا يعملون ليلا ونهاراً، ولم يكن هناك تمييز بين وقت الدوام وما بعد الدوام، ولم تكن فكرة العمل الإضافي قد طرحت، فكل الوقت للعمل.

يقول مهنا الدرة إنه كان في حياته محظوظاً، فقد أتيحت له فرصة التجول بين عواصم العالم ضمن مهام دبلوماسية رسمية عديدة، فأقام في روما وباريس وموسكو والقاهرة، قبل أن يستقر في العام 2002 في عمان.

خلال عمله في تلك العواصم، كان للفن حضورا دبلوماسيا كبيراً وحساسا في بعض الأحيان، ففي عام 1964 (وفق ذاكرته) شارك بلوحة في معرض دولي في نيويورك، وكانت اللوحة ذات مضمون سياسي يتعلق بفلسطين والاحتلال الاسرائيلي، فاحتجت اوساط اللوبي الصهيوني في الكونجرس على اللوحة وطلبوا سحبها، ولكن الملك المرحوم الحسين رفض سحب اللوحة وقال ننسحب كليا معها، ولم تكن نيويورك تريد الانسحاب وبقيت اللوحة.

وفي مشاركة أردنية في معرض دولي في ايطاليا، زُودت سفارتنا هناك ببعض المنتجات غير ذات القيمة، فأخذ مهنا على عاتقه تصميم الجناح، وعمل لعدة أيام متواصلة على رسم جدارية كبرى تمثل الكثير من عناصر حياة الأدرن الاجتماعية والثقافية، وكانت الفكرة فريدة في ذلك المعرض، وهو ما مكّن الجناح الأردني من الفوز بجائزة المهرجان.

لإعداد هذه المادة، جلست امام مهنا لساعات، منها أكثر من ساعتين، عرض أمامي مئات اللوحات على شاشة كمبيوتر، كان مندفعا في التذكر والشرح، ليتوقف عن أشهر لوحاته على المستوى الشعبي، وهي لوحة السيدة السلطية، التي انتشرت صورها داخليا ودولياً، لكن قصتها حين رسمها أكثر طرافة، يقول مهنا:

أعطاني صديق من عائلة العايد في السلط صورة أمه، لكن الصورة كانت ضعيفة، وورسمتها بطريقتي مركزا على الابتسامة والرأس وغطائه، وبعد انتشار الصورة أخذ كثيرون يدعون أنها أمهم او قريبتهم!

أدرك مهنا ان عليه أن يجعل اللوحة قريبة ومفهومة من الجمهور، فأصبح الجمهور يدافع عن اللوحات باعتبارها تخصه، وكانت هذه خطوة ضرورية لكي يتمكن من الاسهام مع زملائه في تثبيت حضور فن الرسم والتصوير باللون والأحبار في مجمل الحياة الثقافية، وقد أسس لذلك معهدا صار الآن يحمل اسمه.

في كلام مهنا الدرة يجتمع الفن والذكاء والدفء والثقافة وخفة الروح واللغة التي تشبه الشعر إلى أن يفاجئك بمفردات شعبية (شوارعية) فتدرك أن الطفل المشاكس لا يزال حيا في داخله.

  • كاتب وإعلامي أردني

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *