على الرغم من أن خليل رعد (1854 ـ 1957) يوصف بأنه المصور الفوتوغرافي العربي الأول في فلسطين، إلا أن أيًا من المؤسسات الفلسطينية، أو العربية، التي تحتفظ بأعماله الفوتوغرافية لم تبادر إلى جمع أعماله في كتاب حتى اليوم. وهكذا، فإن التعرف على إرث رعد الفوتوغرافي يتطلب العودة إلى مصادر عدة، لعل أبرزها كتاب وليد الخالدي “قبل الشتات”، وكتاب إلياس صنبر “الفلسطينيون، صورة الأرض والشعب منذ 1830 إلى يومنا هذا”.
على أن المفاجأة أن الالتفاتة الأهم إلى أعمال خليل رعد الفوتوغرافية جاءت من جانب رونا سيلع، الباحثة ومنظمة المعارض الإسرائيلية، التي أقامت معرضًا استعاديًا لأعماله في متحف غوتمان للفنون في تل أبيب في عام 2010، وهي الأعمال التي أُستخلصت من عدة ألبومات لخليل رعد كانت قد حصلت عليها، كما يبدو، من أسرة المصور، حسبما توحي عبارات الشكر التي وجهتها إليها. ومن المرجح أن كتالوج الصور الذي كان رعد قد أصدره في عام 1933، والذي تضمن نسخًا عن صور وشرائح ضوئية التقطها لأماكن مختلفة من فلسطين وبلاد الشام وسيناء ومصر شكل المصدر الرئيسي لصور المعرض والكتاب الذي نحن في صدده(1).
ويلزم أن نشير هنا إلى أن سيلع كانت قد عملت مديرة متحف حيفا، وأعدَّت كثيرًا من المعارض، إضافة إلى نشرها مجموعة كبيرة من المقالات والكتب حول النكبة والتاريخ الفلسطيني. وهي محاضرة في جامعة تل أبيب، وباحثة في التاريخ البصري، وناقدة للسرديات الصهيونية. ويمكن مقارنة مساهماتها المكتوبة، والمعارض التي نظمتها في مجال التصوير الفوتوغرافي، بجهود المؤرخين الإسرائيليين الجدد، حتى أنها فصلت من عملها من إدارة متحف حيفا، جراء مواقفها المستقلة والمناقضة للرواية الصهيونية(2).
يذكر هنا أن خليل رعد هو من مواليد بحمدون، في شمال بيروت، في عام 1854. انتقل وهو طفل، مع والدته وشقيقته سارة، إلى القدس، بعد وفاة والده أنيس رعد، حيث التحق
بمدرسة الأسقف جوبات في المدينة نفسها. يقال إن خليل رعد تعلم مهنة التصوير الفوتوغرافي عن طريق الصدفة، قبل أن يلتحق باستوديو جارابيد كريكوريان (Garabed Kikorian)، الذي كان واحدًا من أوائل المصورين المحليين. وكان قد افتتح أول استوديو للتصوير في القدس، في عام 1885. تدرب الأخير في المحترف الأرمني للتصوير، الذي كان قد أسسه البطريرك (والمصور الأرمني) غارابيديان (Yessai Garabedian) في مجمع كنيسة القديس يعقوب في الحي الأرمني في القدس.
في عام 1890، انفصل خليل رعد عن كريكوريان، ولم يلبث أن أنشأ استوديو خاصا به، بعد خمس سنوات، في شارع حيفا، بالقرب من باب الخليل، وكان يقع في الجهة المقابلة لمحترف كريكوريان.
عشية الحرب العالمية الأولى، سافر رعد إلى سويسرا، حيث تلقى دروسًا في التصوير الفوتوغرافي في مدينة بازل، على يد المصور السويسري كيلر، وهناك تزوج رعد من مساعدة كيلر، آن مولير، ليعودا إلى فلسطين، ويستقرا في حي الطالبية في القدس.
خلال وقت قصير من مسيرته كمصور فوتوغرافي مستقل، حقّق خليل رعد نجاحًا كبيرًا، خاصة مع اختياره مصورًا رسميًا للسلطات العثمانية، حيث كان مقربًا من محمد جمال باشا، الحاكم العسكري في ولاية سورية، وهو ما مكّنه من التنقل بحرية وسهولة ما بين مصر وسورية ولبنان وفلسطين، خاصة إبان استعدادات العثمانييّن لخوض الحرب على الجبهة المصرية ـ الفلسطينية.
ومع أن خليل رعد بقي، من خلال الاستوديو الخاص به، واحدًا من أشهر مصوري الصور الشخصية (البورتريهات)، والصور العائلية، على امتداد عهد الانتداب البريطاني، إلا أنه كان شديد التنوع في موضوعاته، فهو من ناحية تابع تقليد المصورين الغربيين في تعاملهم مع البلاد المقدسة، من حيث التركيز على الأماكن الدينية، والمناطق المذكورة في التوراة، والموضوعات الجذّابة للسياح والحجّاج المسيحيين، وقد يعود ذلك إلى أسباب تجارية بحتة.
لكن رعد وثق، من ناحية أخرى، حياة البلاد اليومية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وترك صورًا خالدة لمعالم القدس القديمة وللطبيعة الفلسطينية.
“فتاة بالزي الفلسطيني”، و”بائع البرتقال الصغير”.. صورتان لخليل رعد |
تعرض استوديو خليل رعد للهدم خلال القتال في مدينة القدس، عام 1948، ولحسن الحظ فقد أمكن إنقاذ أرشيفه الخاص من الصور التي كانت محفوظة في الغرفة المظلمة، وذلك بمساعدة صديق إيطالي للعائلة، تمكّن خلال محطات وقف إطلاق النار من نقل الأرشيف إلى منزل ابنته روز. وكان رعد قد غادر في مطلع أيار/ مايو 1948 مع زوجته من القدس إلى أريحا، ثم إلى الخليل، وبعد ذلك إلى مسقط رأسه في لبنان. وقامت ابنته روز رعد مشبك بالتبرع بأرشيف يتألف من 3000 صورة سالبة (نيجاتيف) إلى مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
وإلى جانب هذه المجموعة الكبيرة، هنالك مجموعة تصل إلى ألف صورة تعود لخليل رعد لا تزال محتجزة في الأراشيف العسكرية الإسرائيلية، حسب رونا سيلع، وفضلًا عن ذلك فإن جامعة أكسفورد، في بريطانيا، تحتفظ بدورها بمجموعة من أوراق وصور فوتوغرافية تعود لرعد. وبهذا المعنى، فإن رعد كان أوفر حظًا من غالبية المصورين المحليين في فلسطين، الذين اختفت أراشيفهم، أو نهبت، أو احتجزت من قبل الجيش الإسرائيلي في حربي 1948 و1967(3).
وبالعودة إلى معرض صور خليل رعد الذي نظمته رونا سيلع، وكذلك الكتاب الذي أصدرته عنه، نجد أن اهتمامها بإرث هذا المصور العربي ما هو “إلا انعكاس للأهمية التي احتلها خليل رعد في تاريخ التصوير الفلسطيني”. فهو، كما تقول سيلع، مارس التصوير الفوتوغرافي لأكثر من ستة عقود من الزمن، كما أنتج “حجمًا من الأعمال المصورة الشاملة والمثيرة للإعجاب، والتي تروي قصة الإقليم من زاوية نظر فريدة”(4).
خليل رعد، صور فوتوغرافية
يقع كتاب خليل رعد، صور فوتوغرافية (1891 ـ 1948) في 256 صفحة، وقد توزعت محتوياته على ثلاثة أقسام رئيسية:
ـ أولها: النصوص التي جاءت بمثابة تقديم للمعرض والكتاب، وهي تعرض سيرة خليل رعد الذاتية بشيء من التفصيل، كما يتضمن أيضًا قراءة تقييمية مسهبة لأعماله وإرثه المصور، ولقد احتل هذا القسم 47 صفحة، أو نحو خمس حجم الكتاب.
ـ القسم الثاني والأكبر من الكتاب احتوى على صور معرض خليل رعد، التي قامت رونا سيلع باختيارها من ألبومات المصور رعد، وقد شغلت 173 صفحة، أو ما يزيد على ثلثي حجم الكتاب.
ـ أما القسم الثالث والأخير من الكتاب، فقد شغلت صفحاته قائمة محتويات كتالوج صور كان رعد قد أصدره باللغة الإنكليزية، عام 1933. وتكتسي هذه القائمة أهميتها من كونها تصف مجموعة كبيرة من الصور التي كان قد التقطها حتى ذلك التاريخ، وتعبر عن التنوع الشديد
|
استوديو خليل رعد في شارع حيفا في القدس |
للموضوعات والاهتمامات التي ميزت مسيرته كمصور محلي. ويعتقد أن القائمة التي نشرت على شكل مطوية لكتالوج صوره حتى عام 1933 هي الوحيدة التي نشرها رعد عن أعماله في حياته(5).
توزعت صور خليل رعد في الكتاب (كما في المعرض) على ثمانية عناوين رئيسية أولها “المجتمع الفلسطيني”، وقد تضمن 48 صورة فوتوغرافية، وهي بذلك أكبر مجموعة صور تحت عنوان واحد. أما “القدس والأرض المقدسة” فحظيت كل منهما بخمس عشرة صورة، فيما حظيت التجمعات اليهودية في فلسطين باثنتي عشرة صورة. وتحت عناوين “حفريات ومواقع أثرية وأنماط معمارية” أدرجت رونا سيلع نحو 35 صورة فوتوغرافية. أما بقية الصور التي حملت عنوانًا عامًا هو “الشرق الأدنى” فقد التقطت لمدن ومواقع أثرية في بلاد الشام، أبرزها دمشق، بيروت، صور، عمان، أو لمواقع تاريخية وأثرية هامة مثل بعلبك والبتراء، هذا إضافة إلى صورة وحيدة من مصر، لأبو الهول والأهرامات.
في عرضها لسيرة حياة خليل رعد، تتطرق سيلع إلى تعدد النشاطات التصويرية المحلية التي انخرط فيها منذ شبابه المبكر. فمن ناحية أولى قدم الاستوديو الذي أقامه في القدس خدمات فوتوغرافية للمصورين الأجانب الذين قدموا إلى البلاد المقدسة، وللعديد من الأركيولوجيين الغربيين والمستكشفين الأجانب الذين عملوا في البلاد. وخلال الفترة التي كان فيها ناشطًا، فإن صور رعد كانت تنشر في العديد من الكتب، وقد حظيت بالتقدير عبر العالم. وتضيف سيلع: إن القيمة الجوهرية لأعمال رعد هو أنها كانت مكرسة لوصف غنى حياة المجتمع الفلسطيني، ففي الوقت الذي وثق فيه ملامح حياة المجتمعات المحلية والشرقية في البلاد، بمن في ذلك السكان اليهود القدماء والقادمون الجدد منهم، فقد منح الفلسطينيين بصورة خاصة حضورًا مرئيًا قلما نجده في التصوير الأجنبي للبلاد (أي فلسطين) خلال القرن التاسع عشر، أو في التصوير اليهودي الصهيوني في مطالع القرن العشرين، حيث تم إخفاء الفلسطينيين واستبعادهم بصورة مغرضة عن المكان(6).
وفي ما يخص مكانة المجتمع الفلسطيني في أعمال رعد الفوتوغرافية، تقول سيلع بأنها وفرت وصفًا شاملًا لحياة الفلسطينيين في البلاد، بكل مظاهر الغنى التي حظيت بها، سواء على الصعيد الحضري، أو الثقافي، أو الاقتصادي والسياسي. وبكلماتها فقد “أحب رعد البلاد، وتاريخها وماضيها المشع ومناظرها الطبيعية ومشاهدها البرية، بنقاط قوتها وغناها الروحي، أحب جغرافية فلسطين وتاريخها الثقافي والاجتماعي”، وقد عبر عن كل هذا الحب من خلال أعماله الفوتوغرافية.
خليل رعد بين التأثيرات الكولونيالية والتوراتية وقوة الحضور الفلسطيني المحلي:
تعيد سيلع إلى الأذهان البيئة التي باشر فيها رعد مهنته كمصور، فقد شرع في العمل في فلسطين والإقليم، حينما كانا غارقين تحت التأثير الكولونيالي الغربي عمومًا، والتصوير الفوتوغرافي الكولونيالي بشكل خاص. فالمصورون الأجانب جنحوا في أعمالهم إلى توثيق الأماكن التوراتية، وكذلك المشاهد المقدسة والمناظر الطبيعية للبلاد من خلال النظرة المركزية الأوروبية. وهم بذلك كانوا يقدمون ما يمكن تسميته “بالبرهان البصري” على العالم التوراتي المتجمد في الزمان، والذي يجسد الأرض المقدسة التي لم تتطور بعد، بانتظار الغزو الغربي لها(7).
لكن من ناحية أخرى، لا تتردد سيلع في التنويه إلى تأثر خليل رعد بالتصوير الاستشراقي الأوروبي المبكر للبلاد المقدسة، و”بالنظرة التوراتية للعالم”. وتقول: “إن خليل رعد، الذي حصل على تعليمه المبكر في مدرسة أسقفية في القدس، كان إلى درجة معينة، متأثرًا بالنظرة التوراتية للعالم، حيث أدخل بعض ملامحها في أعماله التصويرية، بانيًا أعمالًا ذات طبيعة
|
صورة “قرويون أمام صندوق الفرجة” لخليل رعد (1933) |
مزدوجة، أو هي أعمالًا هجينة. فهو من ناحية أولى، قام كمصور محلي بإعطاء تمثيل خاص للسكان الفلسطينيين، ما جعله يؤسس بديلًا عن النموذج الكولونيالي، لكنه، في الوقت نفسه، تبنى مفاهيم مختلفة من هذا النموذج. وهو الأمر الذي سبق أن وصفه كل من ألبرت ميمي Albert Memmi، وفرانس فانون Frantz Fanon، في نقدهما للكولونيالية”. وتستخلص سيلع أن أعمال رعد تؤشر على الكيفية التي أظهرها السكان المحليون في استجابتهم واختباراتهم لوجهة النظر الغربية التي فرضت على الإقليم، ولاحقًا عبرت هذه الأعمال عن التعقيدات والازدواجية في العلاقة التي نشأت إبان الصحوة على الوضع الكولونيالي، والتي وجد السكان المحليون أنفسهم فيه. أكثر من ذلك، فإن رعد أعطى الفلسطينيين، الذين طالما كانت حياتهم وهويتهم راسخة في البلاد، حضورًا مميزًا في صوره. وهو الأمر الذي جعل الباحثين العرب والفلسطينيين يرون في ذلك علامة على معارضته للأوضاع الكولونيالية.
تقول سيلع إن المعرض الذي أقامته لأعمال خليل رعد، كما هي الحال في الكتاب أيضًا، يسعى إلى إبراز أمثلة وشواهد على هذين البعدين. إضافة إلى ذلك، فإن المعرض أعطى حيزًا منه للشرق الأدنى، أي للأعمال الطبوغرافية، مثل اللقطات المقربة من البقايا الأثرية في فلسطين والشرق الأدنى، التفاصيل الداخلية والخارجية للفضاءات المعمارية؛ اللقطات المقربة للزخارف والزهور. هذا، إضافة إلى صوره عن القدس، المدينة التي أظهر حبه لها، من دون أن يستثني من ذلك سكان القدس من اليهود(8)، حسب تعبير سيلع.
لقد عاش رعد في فلسطين سبعة عقود متصلة، وارتبط مصيره الشخصي بمصير البلد نفسه، ولذلك فقد نظر إليه باعتباره المصور الفلسطيني الأول الذي نشط في الإقليم. وفي أيار/ مايو 1948، قبل أيام قليلة من نهاية الانتداب البريطاني، غادر خليل رعد مع زوجته القدس إلى أريحا. وقد منع من العودة إلى منزله في القدس، حاله كحال الفلسطينيين الآخرين، وهكذا ظل منفيًا في لبنان حتى وفاته عام 1957.
***
في قراءتها لأعمال خليل رعد، تتوقف سيلع أمام ثلاثة مستويات رئيسية فيها، أولها الحضور المميز للمجتمع الفلسطيني في صوره، وثانيها خلفيته الدينية كمسيحي، وتأثر أعماله بمعتقداته الشخصية في رؤيته للبلاد المقدسة، أو لفلسطين ومحيطها، وثالثها مساهماته اللافتة كمصور أركيولوجي ريادي في توثيق العديد من عمليات الاستكشاف.
المجتمع الفلسطيني في صور خليل رعد
على النقيض من الصور التي تظهر فلسطين مكانًا غير متطور، معزولًا ومتخلفًا، يغط في سباته، كما يبدو في التصوير الفوتوغرافي الكولونيالي، ولاحقًا في التصوير الصهيوني، فإن خليل رعد كرس حصة كبيرة من أعماله ليصف غنى وتطور حياة الفلسطينيين في بلداتهم وقراهم.
هكذا تكتب رونا سيلع، وتستطرد: لقد صور فلسطين بطولها وعرضها، ووثق لها بالصور، مرحلة بعد أخرى، ودائمًا من منظور ورؤية فلسطينية وعربية. يظهر ذلك من خلال موضوعات صوره: الوجوه والصور الشخصية، والحياة اليومية، والتطورات الحضرية والريفية، والاحتفالات الدينية، والأحداث الوطنية، وأعمال التجارة، والصيد البحري والفلاحة، التعليم، والثقافة، والمواكب والعادات والتقاليد، وما شابه. إن العديد من صوره أظهرت إحساسه الوطني المتأجج، ووصفت حال الشعب الفلسطيني حتى حرب 1948. هذه الصور التي مسحت من المعجم البصري للدوائر الصهيونية، إنما تفتح نافذة على عالم الفلسطينيين الذين كانوا يشغلون مكانتهم في البلاد حتى عام 1948، وهو عالم نادرًا ما تمت معاينته من قبل المجتمع الإسرائيلي.
وتستخلص سيلع بأن الحضور المميز لحياة الفلسطينيين وهويتهم في أعمال رعد، يمكن تحديدها باعتبارها واحدة من مظاهر مقاومته للأوضاع الكولونيالية التي كان شاهدًا عليها(9).
البلاد المقدسة في أعمال خليل رعد
ترى سيلع أن رعد كان، من ناحية أخرى، منقادًا إلى الهالة والسحر الذي يشع من القصص القديمة المتضمنة في الكتاب المقدس، فقد نشأ كمواطن مسيحي، وترعرع على العهد الجديد، والروايات المبثوثة في الكتاب المقدس، وهو ما دفعه إلى وصف تلك المشاهد على نحو متكرر في صوره، كما لو أنه يقوم بإعادة بناء تلك المشاهد المقدسة المستمدة من الإنجيل.
وتجزم سيلع بأن رعد كان متأثرًا إلى درجة معينة بالمشاهد والمحتوى الذي حملته الصور الفوتوغرافية الأوروبية المبكرة، والتي وصفت فلسطين ومحيطها الجغرافي باعتبارهما أرض الإنجيل، أو “الأراضي المقدسة”. ولذلك، فإنه على غرار المصورين الأجانب الذي نشطوا في المنطقة خلال القرن التاسع عشر، منح جزءًا مركزيًا من أعماله المصورة للروايات الواردة في الكتاب المقدس، والتاريخ القديم للبلاد.
وهكذا، فقد بنى عبر سنوات عمله الطويلة ما يمكن تسميته بمجموعة صور البلاد المقدسة. وعلى سبيل المثال، فإن أوراقه الرسمية، أو قرطاسية استوديو رعد، كانت تعرف عنه منذ عام 1914 باعتباره “مصور مواقع تاريخية” (Photographer of historical sites)، ومصور “شخصيات من بلاد التوراة” (Characters from the Land of Bible). وفي عام 1920، عَرَّف رعد عن نفسه في الإعلانات بطريقة مشابهة: “خ. رعد: مصور القدس”… ثم يضيف: “مجموعة كبيرة من السلايدات الجيلاتينية، وصور للمواقع التاريخية المذكورة في الإنجيل في فلسطين وسورية”. وكما هي حال زملائه الغربيين الذين صوروا البلاد المقدسة خلال القرن التاسع عشر، فإن رعد صور الأماكن التي ذكرت في العهد الجديد، والتي كانت مميزة بالنسبة للمسيحيين من أتباع العهد الجديد.
إن مجموعة فيا دولوروسا Via dolorosa تصف المحطات والممر الذي مشى فيه السيد المسيح، وذلك على غرار سلسلة الصور التي جسدت محطات مرور المسيح، والتي كانت قد صورتها عائلة بنوفيس في سبعينيات القرن التاسع عشر. متشبهًا بالمصورين الأجانب، كان رعد يضيف، عادة، عبارة مأخوذة من العهد الجديد إلى صوره ذات الموضوعات الدينية، مؤكدًا الصلة بين هذه الصور ومصادرها الدينية – التاريخية. وعندما لا تظهر هذه الصلة مباشرة على صوره، فإنه يردف تلك الصور بعبارة تؤكد صلتها بالعهد الجديد(10).
خليل رعد وتوثيق الاستكشافات الأثرية في فلسطين
أخيرًا تسلط سيلع الضوء على أهمية أعمال خليل رعد في مجال تصوير وتوثيق عمليات الاستكشاف الأثرية في فلسطين. وهي تقول بهذا الصدد، بالقدر الذي نعرفه، فإن خليل رعد كان أول مصور أركيولوجي في الإقليم، رافق العديد من البعثات الاستكشافية الغربية، سواء بصورة رسمية، أو بصفة شخصية. هذا إضافة إلى أنه وفر لهذه البعثات نسخًا من صوره الخاصة، منها على سبيل المثال عمليات الاستكشاف في بيت جبرين، وبيت شمس، وفي جبال الخليل، وبيت شاهين السامرية، ومتزب، وعسقلان، فضلًا عن مناطق أخرى في القدس، وغيرها(11).مما لا شك فيه أن المعرض الذي نظمته رونا سيلع لأعمال خليل رعد في متحف غوتمان للفنون في تل أبيب، عام 2010، والذي انتقل بعده إلى مدينة الناصرة، وكذلك الكتاب ـ الكتالوج الذي ضم صور المعرض، وقراءات في إرث خليل رعد، قد شكلا مساهمة كبيرة، ليس فقط في لفت النظر إلى أبرز الرواد الأوائل للتصوير المحلي الفلسطيني، وإنما في تقديم قراءة تاريخية وفنية معمقة لأعماله.
يذكر أن الكتاب ـ الكاتالوج ضم أكثر من 160 من أفضل أعماله الفوتوغرافية، وتنوع اهتماماته.
ومع ذلك، يبقى أن نقول إن هذا الجهد المقدر من رونا سيلع، الباحثة ومنظمة المعارض الإسرائيلية، الصديقة للشعب الفلسطيني، لم ولن يغني عن جهد مؤسسي دائم لجمع وعرض أعمال خليل رعد والتعريف بها، داخل فلسطين وخارجها، بل والعمل على إعادة إنتاجها وترويجها، باعتبارها واحدة من أهم كنوز الإرث البصري الفلسطيني.
حفريات بشارع يافا القدس حيث يقع إستوديو رعد |
هوامش:
(1) انظر الكتاب الصادر عن المعرض المذكور، والمقام في أواخر عام 2010 في متحف جوتمان للفنون، تل أبيب، وقد تولى المتحف نفسه مسؤولية نشر كتاب رونا سيلع. وحسب رسالة للمؤلفة فإن طبعة إنكليزية للكتاب من المفترض أن تكون قد صدرت في العام 2020.(2) انظر السيرة الذاتية لرونا سيلع على موقعها الإلكتروني: www.ronasela.com.
(3) انظر مؤلف رونا سيلع المترجم إلى العربية “لمعاينة الجمهور…” الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، ص163 ـ 164. هذا وما زلنا لا نعرف عن الإرث المصور لكل من الأخوين جميل ألبينا (1898-1963) ونجيب ألبينا (1901 ـ 1983)، اللذين عملا في شبابهما في دائرة التصوير التابعة للأمريكان كولوني، لكن أرشيف صور الاستوديو الخاص بهما والذي أسساه عام 1935، واستمر بالعمل لعام 1948، لم يعرف مصيره بعد. كذلك هي حال معظم إرث حنّا صافية المصور (1910 ـ 1979) الذي ما زال مفقودًا منذ حرب 1967. ويمكن قول الشيء نفسه عن أرشيف صور الأرمني هرنات ناقشيان، الذي اختفى أيضًا، وخاصة صوره ليافا ما بين عامي 1945 و1948.
وكما أُشير سابقًا فإن الجزء الأكبر من ألبومات كريمة عبود ما زال بحوزة مقتن إسرائيلي، ويعد جزءًا من الإرث البصري المنهوب. وتكاد يكون هذه هي حال الجيلين الأول والثاني من المصورين الفلسطينيين.
(4) هذا هو ترجيح رونا سيلع، كما جاء في رسالة منها إليّ بتاريخ 27 شباط/فبراير 2019.
(5) انظر Chahi (Khalil) Raad, Photographs 1891-1948 Gutman Art Museum, Helena Publishing House, 2010.
يتضمن النص بالإنكليزية تعريفا بكتاب رونا سيلع والمعرض الذي حمل اسم خليل رعد، صور فوتوغرافية 1891 ـ 1948. انظر موقع رونا سيلع على الشبكة: http://www.ronasela.com/en/details.asp.?listed=50.
(6) رونا سيلع، النص الإنكليزي لتعريفها بمعرض خليل رعد، صور فوتوغرافية (1891 ـ 1948) المشار إليه آنفًا.
(7) سيلع، المصدر السابق.
(8) المصدر نفسه.
(9) المصدر نفسه.
(10) المصدر نفسه.
(11) المصدر نفسه.
* رسام ومصور فوتوغرافي، باحث في الفنون البصرية
-
عن موقع ضفة ثالثة