تيسير السبول …… الباحث عن الحقيقة !!!

( ثقافات )

  • زياد أحمد سلامة

 ـــــ   1   ــــــ

غربة مبكرة

  

    يتحدث عارفوه ودرسوه عن شخصية قوية مؤثرة جذابة كان يتحلى بها تيسير سبول : مثقف ، حساس، وفيّ ، صادق ، مرح ، منطلق ، وفي نفس الوقت يقولون بأنه ذو مزاج حزين ، عصبي حاد ” أنه لا ينفرد مع نفسه إلاّ حينما يكتب ، وعدا ذلك فتراه دائماً وسط الأصدقاء ، إنه يحب الناس كثيراً ” كما قالت زوجته عنه [1].

      ابتدأ تيسير محاولاته الشعرية الأولى وهو لم يزل طالباً في المرحلة الثانوية في كلية الحسين في حدود عام 1955 فيذكر لنا صديق دراسته آنذاك د . منذر حدادين قصيدة مبكرة لتيسير بعنوان” إلى هاجرة ” نشرها حدادين في جريدة ” الهلال الأردنية”[2]  ، وكان قد فاز بجائزة إذاعية عن قصيدة فقدت فيما بعد عنوانها بيت الشعر المشهور ” أضاعوني وأي فتى أضاعوا “[3] وهو البيت الذي ردده فيما بعد في روايته ” أنت منذ اليوم” [4] والذي يشير إشارة مبكرة إلى اعتداده بنفسه .

     عندما  نشر قصيدته ” بلا أمل” في مجلة الأديب عام  1959[5] كانت بداية موفقة تشير إلى ولادة شاعر موهوب ، وتعرف الناس عليه  عندما نشر قصيدته الشهيرة : ” أحزان صحراوية”  في مجلة الأفق الجديد ،[6]  وكذلك  عندما نشر في  الآداب البيروتية ، إلى جانب أسماء لامعة مثل السياب وحسن النجمي وخليل حاوي ومحمد عفيفي مطر ، ولهذا لا نستغرب ما قاله نزار قباني فيما بعد  في حديث له عن الحركة الأدبية الأردنية  ” يعجبني تيسير سبول .. ولا أقرأ لغيره من كتاب الأردن [7]

   كان شعره  إجمالاً قليلاً و كذلك نشره ، ومع ذلك  لفت الانتباه إليه بعد أن نشر ديوانه الوحيد ” أحزان صحراوية” عام 1968 ، وكانت غالبية قصائده  وجدانية ذات مسحة حزينة ، وهي قصائد  تتحدث في غالبها عن مشاعره وهمومه الخاصة مثل غربته  وغرامه ، يقول د . سليمان الأزرعي  عن ديوان أحزان صحراوية: ” لا نستطيع خلال هذا الديوان أن نعثر على مواقف ثورية صدامية  حارة من قبل الشاعر إلا ما ندر، ومثال ذلك قصيدته << رعب>>[8] وقال الناقد إبراهيم خليل :” وتيسير سبول أفرغ حزنه المأساوي في قصائد أحزان صحراوية ، ولم يطرق في ديوانه أي موضوع اجتماعي “[9] ومع هذا نقرأ في الديوان قصائد ذات بعد فلسفي ، لقد انشغل سبول طيلة مرحلة الستينات  بالدراسة ، وبالجو الأدبي الدمشقي ، إذ كان يدرس الحقوق  في جامعة دمشق ،  حيث غدا اسماً معروفاً هناك ، وانشغل بالهم القومي حيث انضم لحزب البعث وعايش مرحلة انفصال الوحدة المصرية السورية ، وقد شعر بالخيبة السياسية أثناء هذه الفترة التي كان يبحث له فيها عن مرجع فكري من خلال بحثه عن خلاص لقضايا الأمة العربية الفكرية والسياسية وعلى رأسها قضية فلسطين ، تجلت خيبة أمله في الحزب إذ وجده حزبا تنظيرياً في الدرجة الأولى ، وفي واقع الأمر لقد” طُرد من حزب البعث بسرعة حينما قدَّم دراسة نقدية حول ” ماهية الحزب” انتقد فيها الديمقراطية المركزية داخل الحزب واجتماعاته”[10] ففي روايته ” أنت منذ اليوم ” التي قال عنها الكثير من النقاد بأنها تكاد تكون سيرته الذاتية[11] الكثير من المواقف التي نلمح استياءه من حزبه وكيف أن شاعراً قد توعد أعداء الحزب بأنه سيصنع من جماجمهم منافض للسجائر[12] وبعد مواقف سلبية كثيرة لحزبه ، استقبل قرار حزبه بطرده بمزيج من الحسرة على هذا الحزب لخيبة ظنه فيه ،  والارتياح لخروجه من صف جماعة لم يجدها تلبي طموحاته الحزبية  ، وعند إعلان انفصال الوحدة عام  1961  وكما يقول صديقه رشاد أبو شاور سعى تيسير للحصول على سلاح لمقاومة الانفصاليين [13] .وقد زاد هذا من ألمه الداخلي تجاه أمته ، وزاد الأمر سوءاً هزيمة حزيران ،الكارثة المريرة، التي ترجم شعوره تجاهها المليء بالإحباط والقرف في روايته أنت منذ اليوم ، وفيها يقول : “شعب نحن أم حشية قش يتدرب عليها هواة الملاكمة منذ هولاكو حتى هذا الجنرال الأخير. “[14] ! لقد رأى الفساد في كل مؤسسات المجتمع ، فقال عن روايته تلك فيما بعد : ” لقد حملت على الفساد في مناح عديدة من حياة المواطن العربي ، ومن ضمن ذلك : الفساد السياسي . ذلك كاف بحد ذاته ،   ويتضمن بديلاً هو ( الصدق والإخلاص) ، نعم ما زلت مؤمناً بأن الحياة العربية فاسدة وأن استمرار الهزيمة لهو عنوان  باهر للفساد “[15] وكان قد حاول ( في الرواية على الأقل ) الانتحار في هذه الفترة ، استمر تيسير قي قلقه وعدم استقراره طيلة فترة الستينيات ،[ أثناء دراسته في دمشق وبعد قصة غرام فاشلة حاول الانتحار ، لكنه خرج سليماً وتزوج السيدة الدكتورة مي يتيم [16]” وبعد تخرجه  تنقل من وظيفة إلى أخرى ومن مكان إلى مكان ، وكان لا يستمر في عمل فترة كبيرة ، إلى أن استقر به المقام في الإذاعة الأردنية في القسم الثقافي.

ــــ 2  ـــــ

الهدوء الذي يسبق العاصفة

     لم يَطْفُ على السطح  في فترة الستينات قلق واضطراب ، ولم تبلغ الأمور في هذه الفترة وحتى عام انتحاره مرحلة اليأس من الحياة واتخاذ قرار المغادرة والرحيل الأبدي ، فقد كان إنسانا ذا أصدقاء كثر من وسطه الأدبي ،وخارجه  ، يلتقي بهم ويستمع إليهم ( ذكر عز الدين المناصرة وأسامة فوزي الكثير منهم)[17] وعندما سافر عام 1969 إلى مصر كوَّن صداقات مع أدباء لامعين هناك منهم  أمل دنقل ، صلاح عبد الصبور ، ادوارد خراط، أحمد عبد المعطي حجازي [18]  ومن قبلُ كان له في دمشق أصدقاء من الوسط الأدبي منهم هاني الراهب وعلي الجندي وخليل الخوري ،[19]  وكان مرحاً صاحب نكتة يدبر المقالب لزملائه وأصدقائه [20] ويذهب لحضور الأفلام السينمائية العالمية ، ويختلط بالناس ويزورهم ويزورونه، فكانت حياته الشخصية عادية مستقرة لا توحي بالكآبة والانفصام عن الناس . حتى أنه  شجب إقدام صديقه فايز محمود  على الانتحار ودعاه إلى الحياة[21] ومع هذا لم يفقد الأمل في انتصار العرب في الصراع مع الصهيونية واعتبر ما حدث من هزيمة في حزيران مجرد خسارة ، يقول في المخطوط الذي كتبه ( ومزقه وبقي جزء منه ) وعنوانه : على طريق الثقافة العربية المتجددة : “إن الإيمان بجوهر العروبة الحي يجعلنا ننظر إلى هزيمة 1967 أو سلسلة الهزائم التي سوف تتبع نظرة  هادئة تنبعث من شعاع شخصية محمد الذي كان يقول قبل ”  صن يان صن ”  بثلاثة عشر قرناً” هذه مجرد الهزيمة رقم 1 ــ 2 ــ 3 ــ … الخ”[22]  بل إن مجمل ما نُشر من هذا المخطوط الذي كتبه عام  1973 ينظر لمستقبل عروبي مشرق بعيد عن اليأس والقنوط والسوداوية مما يدل على أنه لم يكن يعاني أزمة قومية نفسية ستقوده للانتحار . وقد حاول كثير من الدارسين عزو سبب انتحار سبول لوقع الهزيمة { الحزيرانية ومن ثم تنائج حرب رمضان/ تشرين 73 وما أعقبها من مفاوضات الكيلو 101} على نفسه ، وهذا ما أشار إليه بعض أفراد أسرته فزوجته مي يتيم قالت في تقديمها الأعمال الكاملة لزوجها في طبعة 2005 : ”  كانت حرب تشرين 1973 انتصارا في البداية  ، أعقبه تراجع وهزيمة في الدفرسوار، ثم استسلام وصلح مجحف ، ولقد خانته رؤياه ، فالعربي استسلم لهزائمه الماضية ، واستراح خارجاً عن نطاق الزمن  ، وما كان لصوت شاعر واثق أن يحرك الهمم ، في ذلك الحين لم يعد تيسير يحلم بالمستقبل إذ بدا له غاية في السواد والغموض، انطفأت شعلة الحياة في أعماقه ، أحس أن الهزيمة هزيمة شخصية له وما كان له أن يقف موقف المتفرج الصامت في معمعة الحياة ، وما طابت له الحياة المعاشة العادية ، ولعله في لحظة خاطفة ، وفجأة ، قرر الانسحاب من الحياة ، معلناً تمرده ورفعته لمنطلق الصمت والهزيمة ، وزعقت رصاصة جانية بصرخة مدوية ، فلم يبق شيء يمكن أن يقال بعد الآن ، وهكذا رحل تيسير في اليوم الخامس من تشرين عام 73″[23] وفي مقابلة تلفزيونية  أقسم شقيقه جودت أن أخاه تيسراً لم ينتحر لأسباب خاصة ، بل لأنه لم يحتمل هزيمتين ، وردَ على من قال بأن أسباب انتحاره كانت بسبب مرض في عينيه[24] وتقول زوجته بأنه خرج عن أطواره بعد خيمة  ( 101 )[25]  وأنه لم يعد قادراً على إخفاء رعبه وجنونه [26]

     كان تيسير يعاني من بعض المشاكل الصحية ، مثل ” اللطخة الصفراء أو الصفراء الراجعة” وهو مرض يصيب العيون وبلغ الأمر وكما قال عيسى الناعوري  أنه كان مصيبة العمر لدى تيسير ، كان ينغص عليه حياته ويحرمه الراحة ، ويمنع عنه لذة العمل ، ولذة الاستمتاع بالحياة ، وأنه كان يحمل حبوب الدواء المسكن في جيبه دائماً ، وما أن يفتح عينيه في الصباح حتى يشرع في التهام الحبوب ، ويمضي كذلك بين الفينة والفينة طوال اليوم ، ويقول الناعوري وقد كان رفيقَه في غرفة في الفندق أثناء حضورهما مؤتمر الأدباء العرب في بغداد عام 1969:” مرات صحوت عليه في الليل ينهض ليبتلع حبة أو أكثر من حبة دواء”[27] ولكن الأطباء كانوا يؤكدون شفاء حالته[28] وهذا ما أكدته زوجته فقالت : ” قبل عام على وفاته أصيبت عينه باللطخة الصفراء ، ولم يكن الأمر مقلقاً  إلى هذا الحد ، فهذا المرض يصيب الناس الأذكياء والعصبيين ، وقد طمأنه الأطباء كثيراً[29] وقال لصديقه سليمان عرار مرةً بأنه لا يأبه حتى لذهاب بصره ، لو كانت الدنيا أو كان عالمنا جميلاً لاكتفى بحاسة السمع لسماعه العصافير والموسيقى والشعر والقراءات.[30]

     وتحدث بعضهم بأن هاجس الانتحار كان يطوف في خياله مبكرأ و يقول صديقه رسمي أبو علي : ” إن فكرة الانتحار وبالشكل الذي تمت به كانت مختمرة في أعماق نفس تيسير في وقت مبكر جداً ، وقال :   وأذكر جيداً أنني عندما التقيت به للمرة الأولى في مطار عمان القديم ( مطار ماركا) عام 1958 وعن طريق صديق ثالث هو صادق عبد الحق  أذكر أنه حدثني عن رغبته في الانتحار وأذكر أنه قام بتمثيل فعل الانتحار مصوباً شاهد يده اليمنى إلى صدغه الأيمن وهو يصرخ ” تك .. ( ضاغطا على زناد وهمي ) وينتهي الأمر، وأخذ يشرح لي أن إطلاق النار على الصدغ هو أسهل وأفضل طريقة للانتحار إذ أنها تتم بدون ألم جسدي تقريباً وكان تيسير لا يطيق الألم الجسدي بأي شكل .. ومعنى هذا أن الفكرة وأسلوب تنفيذها الدقيق والمدروس كانت مختمرة في ذهنه قبل أكثر من خمسة عشر عاماً من وقوعها الفعلي الأمر الذي يدل على أن المسألة كانت مسألة وقت ، أما فعل الانتحار فكان ناضجاً في أعماقه في وقت مبكر جداً[31] يقول صديقه الأستاذ فواز عيد إن تيسيراً قد فرح لانتحار همنغواي ” الروائي الأمريكي ذائع الصيت ”  قال عيد : ” الموت الفاتن .. مفتاح بطولة .. كان قد اكتشفه تيسير سراً ذات  صيف من عام اثنين وستين .. أذكر الآن .. أنه مر بي ذات صباح على درج كافتيريا الجامعة .. وبشرني من بعيد صائحاً بفرح : همنغواي انتحر.. ألم تسمع؟! يضيف عيد : قطبت وجهي .. ونحرته جانباً : وماذا يعني ؟! تزلزل للحظة .. قاسني بنظرة حانقة .. ومضى إلى الداخل ليشتم من لا يفهم المعنى “[32] وقال لعز الدين المناصرة يوماً : ” أجمل أنواع الانتحارات هو الانتحار الجماعي لخمسة أو ستة من المثقفين مثلاً: ثلاثة روائيين وثلاثة شعراء ، نشوي ثلاثة خراف على جمر حطب في غابة ربيعية . رذاذ مطر ربيعي ينساب على ضفائر الشجر . نشرب حتى الفقدان . ثم وفي قمة النشوة وعلى بساط من العشب الأخضر يمسك كل واحد بمسدسه، نطلق النار من مسدساتنا على الرؤوس دفعة واحدة . ويبقى الشواء والدخان والنبيذ ونرحل . ما رأيك  ؟!!!”[33]  وأكد آخرون هذا الأمر بأنه كان كثير الحديث عن الانتحار من خلال كتاباته وأحاديثه الإذاعية ، وأشار البعض إلى علاقة غير جيدة  في حياته الزوجية ، هذا ما أشار إليه خالد الساكت ، وأشارت إليه د. مي عجارمة عندما تحدثت غي ندوة عن حياة سبول في كلية العلوم التربوية في جامعة الطفيلة حيث قالت ” إنه لم يكن للحياة الزوجية لدى الشاعر أية انعكاسات إيجابية ، بل على العكس من ذلك فطغيان التفكير المادي على شخصية الزوجة ، وعدم التفاتها لرقة الشاعر وحسه الرومانسي  العالي ، شكل مصدراً آخر من مصادر حالة الغربة الذاتية التي عاشها”  على أية حال فإن السيدة مي يتيم زوجة الشاعر تؤكد عكس ذلك فقالت  : ” إن علاقتها بتيسير تتعدى حدود العلاقة الزوجية والأسرة لتشمل عالماً كاملاً بنته مع زميلها الشاعر منذ عام 1963 حجراً وكتاباً كتاباً “[34] وتقول أيضاً : ” كانت له حريته الشخصية والفردية داخل إطار العائلة ، وقال لي : الشاعر لا يُمْسَكْ . قلت له : أنا مستعدة لأن أفتح يدي ، لقد أدركتُ طيلة حياتي معه أن المسؤولية تؤرقه وتتعبه وهو ككاتب يحتاج إلى فضاء من الحرية “[35]  [ تحدث بعض الدارسين عن أسباب كثيرة لانتحاره ؛ انظر مقال : مرآة تيسير سبول /خالد الساكت في كتاب دم على رغيف الجنوبي ص 35 ومقال المناصرة في الكتاب المذكور ص77]على أية حال كان الحديث عن الانتحار هنا عابراً ، وهل ينوي يائس معذب السير نحو إزهاق روحه في جو شاعري فيه الشواء والخراف والشراب؟! لقد غالى أولئك الذين استنبطوا قرار الرحيل في استنباطاتهم ، إنه أشبه بليِّ أعناق النصوص .

ـــــ  3  ـــــ

 البحث عن المستحيل … الحلم ، وسر الكون

      مع أن حياة سبول الشخصية  جنحت إلى الاستقرار في سنواته الأربع الأخيرة على نحو ما يصفها زملاؤه وأصدقاؤه الذين تفاجئوا بطريقة رحيله ، [ وتؤكد زوجته استقرار حياته آخر عشر سنوات ، فقالت : في السنوات العشر الممتدة 1963 ــ 1973 كانت ــ حياته ــ هادئة لا يشوبها شيء عدا لحظات القلق وعدم الاستقرار اللذين كانا القاسم المشترك لحياة تيسير ][36] إلا أنه استمر يعاني من أمرين اثنين غذيا فيه القلق والشك والحيرة ، الأول وهو نزوعه نحو الكمال الأدبي  ، ومظهر ذلك إقدامه على تمزيق الكثير مما كان يكتب من روايات وقصائد ودراسات  وقصص قصيرة ومسرحيات ، وتقول زوجته بأنه قد مزق أمامها مجموعة شعرية كاملة لا لشيء إلا أنها لم تكن بالمستوى المطلوب فنياً [37]،  و تقول عنه السيدة توجان فيصل ” كان تيسير أقسى ناقد لنفسه”[38] وقد اقترحتْ ( السيدة توجان ) عليه أن يعطيها ما  ينوي تمزيقه ويتركه عندها فترة ثم يحكم عليه بنفسه بعد ذلك ، وتقول بأن عرْضها جاء متأخراً ، إذ لم يلبث أن غادر الدنيا ، وقيل بأنه مزق أقصوصة كتبها أكثر من عشرين مرة[39]  وقال عز الدين المناصرة بأن تيسيراً أحرق كثيراً من أعماله بحثاً عن حلم ، وهو أن  يكتب رواية خارقة للعادة لهذا كان يكتب ويشطب ثم يعيد الكتابة ثم يمزق ، بحثاً عن هذا النموذج المكتمل الذي قد لا يتحقق ، ولم يقتنع تيسير بما ذكره المناصرة من أن نجيب محفوظ أكد له أن الروائي بل هو شخصياً  لا يعرف مستوى الرواية القادمة ويعترف أن رواياته متفاوتة وأنه يترك الأمر للصدفة ، على أية حال يروي سالم النحاس صديق سبول أن سبولا كان يقول عن نفسه بأنه يتميز عن جميع الفنانين والمثقفين بظاهرة التمزيق[40] هذا الجنوح نحو الكمال  أسلمه إلى شيء من النضوب الفني ، ففي حديث له مع مجلة صوت الجيل قال ” لعلي لن أكتب إطلاقاً إنني لا أملك شيئاً أقوله للقراء ولا أحسن اصطناع الأدب طمعاً في الشهرة ومؤسساتها “[41] وقد عقب صديقه أمين شنار على هذا القول بقوله ” أعجبت كثيراً بذلك الشاعر الذي قال في معرض رده على سؤال : ماذا تكتب الآن؟ إنه لا يكتب شيئاً وربما لن يكتب إطلاقاً  ، وقال : هذا رائع لفرط صدقه ، مؤَثِر لشدة شفافيته، يقظة مرعبة ؟  ليكن.. إنها وحدها بداية الطريق”[42] لقد كانت لحظة صدق فعلاً ولعها كانت بداية البحث العقائدي الفكري عند تيسير سبول أو ما يعرف باتجاهه نحو التصوف ، وهو العامل الثاني الذي شغل هاجسه في هذه الفترة .

     لو عدنا إلى الوراء ، في عام 1961  فنقرأ قصيدته ” العجاج” [ لم تنشر هذه القصيدة ضمن “أحزان صحراوية” بل نشرها السيد محمد داودية في جريدة الأخبار عام 1978 ] ، في هذه القصيدة المبكرة نلمس بذور الشك العقدي عنده فيقول ” مدلجاً أسلم للريبة قلبه / ممعناً خلف يقين مدّعى /ضيع ربه / كنت أمضي …. ” وقال في قصيدة” ملاح ” و هي غير مؤرخة والأرجح أنها تعود لتلك الفترة وفيها يخاطب الكون : “ربما غيري ملاحون طافوا كل بحر / قهروا الأمواج والأنواء ليلاً إثر ليل/ وأذلوا كل هول/ ثم عادوا ملْ أيديهم لألي / ربما /… كنت أدري  رحلة أمعن فيها خلف سر/ هو في أعماق عينيك ولن يصطاد هذا السر غيري”[43] لقد بقي يبحث عن سره هذا ، بحث عنه في الفكر القومي والانتماء الحزبي ، بحث عنه عند شبلنجر في كتابه الضخم ”  تدهور الغرب  “[44] الذي أعجب به أيما إعجاب وبحث في الفكر الوجودي عند سارتر وهيدجر وويلسون وسيمون دي بوفوار والبير كامو وبحث عند نيتشه ، وقرأ للماركسيين ، ولم يكن بعيداً عن الفكر الإسلامي ، إنه يثني كثيراً على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، في مخطوطته عن القومية العربية  يقول : ”  إن العروبة كي تنتصر ، مطالبة بأن تجيب على كامل التحديات وسوف تفعل باسم محمد ( ولا شيء دون اسم محمد).[45] اقترب  من الفكر الإسلامي ، ورأى الفارق بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية التي نعاها شبلنجر وغيره من مفكري الغرب ، وعاب سبول على تلك الحضارة خلوها من الإيمان ، يقول أثناء كلامه عن مسألة الإيمان في شعر ” إليوت ” إن شعر إليوت لا يحمل فرح الإيمان ، ولكنه يمثل الاستسلام للمشيئة التي تسألها النهاية فقط ، لا يوجد إيمان في شعر إليوت ، وذلك ببساطة لأن إليوت يمثل حضارة فقدت الإيمان “

ــــ 4 ـــــ

وجدتها … إنها الصوفية

    في هذه الأثناء قادته قدماه إلى صديقه و زميله  في  الأدب و العمل الأستاذ أمين شنار ، ( حيث عملا معاً في الإذاعة الأردنية) وكان الأستاذ شنار قد بلور له نظرية حول صلة الإنسان بخالقة ، ووجوب أن يتجرد الإنسان من زخرف الحياة الدنيا، وعن الروح والنفس والجسد ، والزهد ، من هنا بدأت صلة سبول بشنار ( الصوفية) اقترب سبول من الفكر الإسلامي  بشكل عام والصوفي بوجه خاص فخاض نقاشات حول مفاهيم الإسلام بالإضافة لشنار مع ليث شبيلات  أحد أقاربه والشيخ محمد عبد الحق[46] وغيرهم، وقرأ لأعلام الصوفية وعنهم مثل : الحلاج والسهروردي وابن عربي وابن الفارض  والنفري ورابعة العدوية وغيرهم ، يقول صديقه سليمان عرار بأن توجهات تيسير الصوفية أخذت تظهر قبل سنة من وفاته[47]  ويقول شقيقه شوكت ” كان يقرأ الكتاب فيحيط بأدق دقائقه، ولكن اهتماماته  الصوفية كانت من قبيل طرح التساؤلات ، ليس إلا..”  وطبيعي ذلك ما دام في مرحلة التعرف ، يذكر لنا بعضُ أصدقائه مثل المناصرة وخليل السواحري أنه كان يكثر من زيارة شنار منفرداً أو بصحبة بعضهم  ،  في فقرة مهمة يقول المناصرة ” اعتذرت لتيسير  بشدة ذات ليلة عن عدم رغبتي في مرافقته لزيارة أمين شنار في جبل الحسين. رغم محبتي لأمين،  لكن تيسير أقسم وألح على مرافقته. وقد استغربت إلحاح تيسير . وشعرت أنه بحاجة ماسة  لهذه الزيارة ، وهكذا رافقته في زيارة أراد تيسير أن تكون أشبه بالسرية ، ولم أكن أعرف لماذا؟ وقد جرى نقاش طويل مع أمين شنار حول تفسير بعض الآيات القرآنية الكريمة ، كنت أناقش ببرود ، بيمنا شعرت أن تيسير يبحث عن تفسير هو بحاجة ماسة له. تيسير يستقصي تفاصيل التفاصيل في حواره مع أمين. كان تيسير قلقاً. وشعرت أنه أصر على صحبتي إلى هذه السهرة  ،كما لو كنت تغطية لشيء في نفسه. وعندما خرجنا من منزل أمين ، قال تيسير: أريد أن أفهم جوهر الروح أولاً. وما يهمني ثانياً هو أن  أتعرف  طبيعة الجنة والنار من خلال تفسير أوضح للقرآن الكريم ، قلت له : هل اقتنعت بتفسيرات أمين لهذه الآيات؟  قال : بالفعل بدأت  أقتنع، لكن أموراً كثيرة لم تتضح أمامي، في اليوم التالي أصر تيسير عليّ أن اذهب معه إلى منزل أمين ، ولكنني رفضت . ثم عرفت فيما بعد أنه كان يذهب باستمرار إلى أمين شنار ، كان هذا في النصف الثاني من عام 1973[48] وهذا ما أشار إليه صديقه وزميله الشاعر حيدر محمود فقال في مداخلة له في ندوة أقامتها رابطة الكتّاب الأردنيين يوم 20/11/1990 فقال ” كان في أيامه الأخيرة صوفياً ، وهو صوفي وكاد أن يصبح مريداً “[49] وسمعتُه يقول في تلك المداخلة : كان تيسير سبول صديقاً لأمين شنار ، وقبل انتحار سبول بمدة ( قرابة العام ) كان كثير الاتصال بشنار ، وكان يزوره بشكل شبه يومي يسأله تفسير آيات معينة ، وكان يشغل ذهنه أحوال القبر وحياة البرزخ[50] التي طالما سأل شناراً عنها . وكانت هذه الزيارات شبه يومية ، لقد كان في ظمأ حقيقي للمعرفة ، مع أن المحيطين به لم يقدروا مقدار عطشه ، ولا طبيعة هذه الزيارات ، فقد ظنها خليل السواحري مجرد زيارات لتحضير الأرواح[51]، وقال شوكت السبول شقيق تيسير: ” كانت من قبيل طرح التساؤلات “[52]وقال سليمان عرار عن توجهات سبول الصوفية :” لم يكن متعمقاً فيها ، لأن الفترة الزمنية تلك لا تكفي ، وأستطيع أن  أقول إن الصوفية عنده كانت في الأشهر القليلة السابقة لوفاته مجموعة قناعات ولم تكن مجرد تساؤلات[53]“وقالت توجان فيصل :” كان لتيسير مطالعات واسعة في الصوفية في الفترة الأخيرة خاصة ، وكان على صلة ببعض المؤمنين بها بحكم الصداقة من جهة وبهدف دراسي من جهة أخرى ، ولكنه لم يكن واحداً منهم ، هذا ما قاله لي بنفسه ، ويبدو لي أنه كان يشعر بالتعاطف معهم لكونه شاعراً  حقيقياً وحالات الشعر هي نوع من الصوفية ، وتقول : وحسب معرفتي بتيسير أستطيع أن أؤكد أن بعده الروحي كان أكثر عمقاً وتفرداً من أن يصب في طريقة بعينها أو أن يطابق مذهباً جماعياً”[54] .

       لقد كان يريد أن يشرب حتى الارتواء ، ولكنه  وفيما يبدو قد وضع العربة قبل الحصان ، فعالم الصوفية يجب أن يبنى على قاعدة فكرية تُمَتِّن بناء العقيدة في العقل والقلب أولاً ، كان بحاجة إلى الخطوة الأولى ؛ بناء عقدي متين ، خلفية فكرية ، مقرونة برغبة في التجرد من زخرف الحياة الدنيا ( استعداد للزهد : أن يستوي لديه امتلاك أي شيء وفقده)  وتجربة سبول الصوفية سيمر بها  بصورة مشابهةٍ مبدع آخر هو مؤنس الرزاز الذي حدثنا عن أزمة روحية مر بها ، وأثناءها قاده صديقه ليث شبيلات إلى عالم التصوف وحضور حلقات الذكر ، والانفعال ، والبكاء ، ولكن البناء الفكري الهش حول منظومة الإسلام وأنه فكر حيوي وقناعة أكيدة داخلية بالدرجة الأولى جعلته يصف تجربته تلك بقوله : ” إلا أن كياني المركب منذ زمن بعيد من عناصر برهانية ويسارية عاد فردني عن هذه التجربة التي لا تنسى . فما هي إلا سنة كاملة حتى غادرت دار القرآن ( إحدى الزوايا الصوفية في عمان ) وخرجت من أجواء التصوف [55].”   لم يقرن تيسير رغبته في الإشباع الروحي ؛ بالعمل (الديني) فيقول أصدقاؤه بأنه حتى تلك الفترة لم يُعرَف عنه التزام ديني  كما قال سالم النحاس و الذي قال أيضاً بأنه  “وصلت به الأمور إلى الإدمان على الخمرة [56] ” وقال عنه  صادق عبد الحق  “كان يشرب ويدخن ، لم يكن متديناً ، كان محباً للنساء…”[57] وأشار المناصرة إلى مثل هذا[58] ويعلل سالم النحاس سبب إخفاق تجربة سبول الصوفية بأنه كان يسعى للخلاص له ولأمته ومن هنا جاء اهتمامه البالغ بالإسلام  ، لم يكن الباب المناسب لذلك إلا الصوفية لأنها تتفق مع روحه الشاعرة الصرفة ومع الأبعاد الحقيقية عن علاقة الإنسان الفنان المتأمل بالله من وجهة نظر دينية. هذا علماً بأن تيسير لم يكن متديناً على الإطلاق ، وذلك انطلاقًاً من رفضه للمؤسسات بأشكالها كافة. وقال : بعد أن قرأ تيسير شبنغلر عكف على دراسة القرآن ، وأذكر أن معظم الآيات القابلة للتفسير والتأويل قد طرح لها تيسير تفسيرات مبتكرة تتفق وشخصيته المتفردة. ولكنه لم يستطع طرحها للناس.. لأنه كان يحس بأعماقه بأنه لا فائدة ترجى من ذلك .. كان يكتفي باللذة الخاصة . وحين كنت أناقشه بالأمر كان دفاعه أنه سيخلق مؤسسة عندئذ[59] ” إننا نلمح هنا صراعاً نفسياً فهل كل هذه الزيارات السرية والعلنية لأمين شنار والأسئلة المتلهفة والقراءات المتعمقة عن الصوفية كانت ( للذة الخاصة) أم  أن هذا فهماً خاصاً لموقف سبول من الصوفية فهمه النحاس؟

ـــ 5 ـــ

وكان مساء

    في أعوامه الأخيرة بدأ اليأس من كل شيء يتطرق إلى وجدانه : الجوع الروحي ، النضوب الفني والإبداعي ، الألم المرضي ، اليأس من نهضة الأمة وتقدمها وانتصارها على أعدائها  ، اختلط الخاص بالعام فتفاقمت الأزمة ، يقول صديقه فايز محمود بأن تيسيرا كان يخطط لرحيله بهذه الطريقة  منذ عام سبق ذلك الرحيل وأن الفكرة عنَّت على خاطره عبر الثلاثة أعوام الأخيرة  مابين عامي 70 ــ 73 .[60]

          لقد ظلت حالة التيه والضياع ، ولن أبالغ إذا ما قلت ” الخواء الروحي ” تزداد يوماً بعد يوم ، لم يكن جاداً أن يكون رحيله هكذا في بداية الأمر بدليل ما حدثنا عنه عز الدين المناصرة حيث قال : ”  ذات يوم من عام 1972 ذهبنا مجموعة من الأصدقاء إلى جرش، حيث شوينا خاروفاً قرب سيل صغير وعدنا مساء بعد نهار مجنون في أحضان الطبيعة. كان تيسير يقود سيارته بنا في ” ثغرة عصفور” عندكما مال بسيارته نحو حافة الطريق المطلة على الوادي السحيق. فصحنا به : احذر!!!لكن تيسير واصل مزاحه الثقيل حتى نشف الدم في عروقنا. لأن أي خطأ بسيط سيؤدي إلى كارثة حقيقية. أما تيسير فقال وهو يقهقه ضاحكاً : ” غدا ستنشر الصحافة الأردنية على صدر صفحاتها خبر الانتحار الجماعي لخمسة من مثقفي الأردن” فقال المناصرة له : انتحر وحدك [61].  فهل من كان يفكر في الانتحار ويكون في حالة كآبة وضيق وضنك  يقضي ( نهاراً مجنوناً في أحضان الطبيعة) ويمازح أصدقاءه مزاحاً كله روح المغامرة .

     في شهوره الأخيرة  تأزمت الرؤية في عيينيه  ،  ويقول النحاس بأن تيسيرا وفي السنة الأخيرة من حياته سقط في شرك الكآبة المزمنة و أن ذلك يعني عدم الاعتراف بالواقع ، ويكون هذا الموقف مَرَضيا في بعض الأحيان ينطوي على شعور بالعجز واليأس التامين ، بمعنى عدم القدرة على التعامل بنجاح مع الأوضاع التي تحيط بالفرد[62] . ومع هذا فقد فكر في العودة إلى بلدته الطفيلة ( وقيل دمشق) والعمل في الفلاحة ،  تقول زوجته بأن حرب 1973 قد زادت الأحداث و الهزيمة والتمزق من شدة قلقه وانكساره ، كان يفكر أن يرحل إلى الشام أو يترك عمان ويذهب إلى الطفيلة ، عرضوا عليه أن يعمل في إذاعة لندن ، لكنه رفض .[63]   

     لعل ذهاب سبول للتصوف  كانت محاولة للهروب إلى الأمام ومقدمة لاعتزال الناس على طريقةٍ قريبةٍ من طريقة صديقه أمين شنار( الذي اعتزل الناس والحياة الأدبية ولكن لأسباب أخرى تماماً ).

    شعور تيسير بنضوب  مخزونه الفني وأنه غير قادر على ( الإبداع ) وليس مجرد العطاء ( كتب في عامه الأخير بعض المقالات وشرع في كتابه عن العروبة والذي كان يأمل أن يكون بحجم كتاب شبلنجر[64] ولكنه في هذه الفترة كان كثير التمزيق لما يكتب) هو الذي أوصله إلى لحظة تفجر الأزمة واتخاذ القرار القاتل ، قال لصديقه فايز محمود قبل رحيله بيومين وهو يخاطبه ” بأنني سأشتاق إليه قريباً”[65]  و قال لصديقه سالم النحاس  في اليوم الذي سبق انتحاره ” لقد فقدت الاهتمام بكل شيء”.  حاول النحاس إقناعه ” بأن هذه الحالة عادية جداً وأنه كما يعرف تمر بكل الذين يكتبون .. إنها أزمة وتمر[66] ” ولكن مجموع الأزمات التي تجمعت  عند تيسير السبول جعلته قلقاً تلك الليلة ، ساهماً ، وربما كتب في تلك الليلة  قصيدته الأخيرة :  ” أنا يا صديقي / أسير مع الوهم ــ أدري/ أيمم نحو تخوم النهاية / نبياً غريب الملامح أمضي/ إلى غير غاية/ سأسقط ، لا بد، يملأ جوفي الظلام / نبياً ، قتيلاً وما فاه بعد بأية ….” وليكتب أيضاً   ” هو لا يذكر شيئاً عن عذابات الليالي الماضية / تمت الرحلة / والوعد على القمة / والقمة لاحت دانية / لحظة / طرفة عين / هي ذي القمة تبدو / ويرى/لم يكن ثمة شيء ليراه / لم يكن ثمة شيء ليمسه / فإذا القمة جداً خاوية .[67] حتى إذا ما الفجر لاح  كان منتبهاً ومشتتاً ، فكر، و ربما قرر ألا يذهب إلى العمل   ولكنه ذهب متأخراً ، وصل الإذاعة في العاشرة ، ويقول أيضاً المناصرة عن لقائه به في ذلك اليوم الأخير “تيسير يبدو متعباً وقلقاُ وشارد الذهن . لكنه فاجأني بحركة أدهشتني. حيث صافحني وقبلني وانطلق مسرعاً ، كأنه يهرب من شيء أو إلى شيء . ابتسامة غامضة ذابلة . وجه متغضن كأنه سهر الليلة الماضية حتى الصباح”[68] لعله عاد إلى البيت مباشرة  ، تصف زوجته لحظاته الأخيرة ، فتقول : ” جاء إلى البيت صباحاً على غير عادته ــ كان متعباً  ــ أحسستُ ذلك من صوته المتهدج ، وقال لي إنه جاء ليرتاح قليلاً ، ثم طلب  مني أن أذهب إلى الجيران لجلب قنينة غاز، دقائق قليلة كانت هي الحد الفاصل بيننا ، وبين حياته وموته ،وعندما رجعت من عند الجيران وجدته ساقطاً على الأرض ، مضرجاً بدمائه ، صرختُ بأعلى صوتي ، وركضت إلى المستشفى وجئت بطبيبين لكنهم عندما فحصوه قالوا بيأس : لقد انتهى كل شيء … أصبتُ بانهيار عصبي ، ولم أرى أو أعي شيئاً ، نقلوني بعدها إلى المستشفى ” [69]

   هل اصطدم بالجدار ووصل إلى الباب المسدود؟ أم إنها لحظة فراغ روحي داخلي هائل ؟ أم أنه تَعِب من الركض وراء سراب الخلاص ومحاولة الوقوف على قدمين ثابتتين؟  عل اختلط الخاص بالعام ؟!  فكانت فاجعة الموت التي تحدث عنها كثيراً والتي هزمته عصر الخامس عشر من تشرين الثاني عام ثلاثة وسبعين وتسعمئة وألف ؟! وهو لم يزل في قمة شباب واعد ! ولماذا استعجل قدره فأطلق على صدغه الأيمن نار مسدسه في ذلك اليوم  الخريفي الجاف !هل تراها هذه الأسباب التي غيبت مبدعاً واعداً ؟ أتراها وحدها ؟ أم هناك أمر مخفي آخر؟!  وهو ما  أشار له صديقه المناصرة عندما قال ” وهناك أسباب أخرى إن شئتم !!!” [70]

الهوامش:

[1]  جريدة آخر خبر / عمان العدد2 ( 13/10/1993 في حديث مع عدنان الصائغ بعنوان أول و أطول حوار مع عائلة تيسير سبول.
[2] جريدة  الهلال 14/11/2000
[3] مجلة الموقف الأدبي / مقال د. حسني محمود ص 60
[4] الأعمال الكاملة / تيسير سبول (1980) ص17 والبت للشاعر ( العَرجي : عبد الله بن عمر القرشي المتوفى 120هـ ) وروت السيدة مي يتيم زوجة  الشاعر أن تيسيراً كان يردد هذا البيت كثيراً خاصة كلما أحس بغبن . انظر مجلة الأردن الجديد  العدد 15/16 خريف 89/شتاء 90 من مقال للسيد بسام هلسة .ص 105.
[5] مجلة الأديب أغسطس /آب 1959 ص37 ( والقصيدة غير منشورة ضمن أعماله الكاملة في طبعاتها الثلاث ).
[6]  مجلة الأفق الجديد ، القدس  العدد الأول أيلول 1961 وهي القصيدة الوحيدة لتيسير في هذه المجلة .
[7] لقاء مع أسامة فوزي /  الرأي 3/4/1976
[8] الدستور 14/11/1980  
[9]   صوت الجيل / العدد الثاني 11/1972
[10]   من مقابلة مع د . مي يتيم  لجريدة آخر خبر( أول وأطول حوار مع عائلة تيسير سبول ) الحلقة الثانية .
[11]  مثال ذلك كتاب “دم على دم الجنوبي من شهادة عز الدين المناصرة والتي يذكر فيها أن تيسيرا أشار إلى شبه  بين والده ووالد بطل الرواية
[12] انظر مثلاً الفصل الثالث ص22  وينسب هذا البيت  للشاعر عبد الوهاب البياتي وكان شيوعياً واستعار سبول بيت شيوعي خصم للبعثيين ليقول بأن جميع الأحزاب سواء .
[13] الدستور15/11/1996من مقال لإبراهيم خليل . 
[14] الأعمال الكاملة ص 58 ويقصد بالجنرال الأخير موشيه دايان وزير الدفاع الصهيوني غداة حرب حزيران .
[15] صوت الجيل /العدد الثاني /تشرين الأول 1972م  .
[16] دم   على رغيف الجنوبي ص 46 من شهادة صادق عبد الحق
[17] دم على رغيف الجنوبي  ص  72و74وآراء نقدية  لإسامة فوزي  يوسف 26 نقلاً عن شوكت سبول شقيق الشاعر
[18]  آخر خبر / الحلقة الرابعة 14/10/1993
[19]  آخر خبر / الحلقة الأولى 12/10-1993.
[20] دم على .. ص 85
[21] آراء ص 38
[22] الأعمال الكاملة 283
[23] تيسير السبول/ الأعمال الكاملة ، منشورات البنك الأهلي الأردني
[24] مقابلة مع المذيعة لانا مامكنج في  برنامج ( دفاتر الأيام ) التلفزيون الأردني 24/1/2000
[25]  بعد انتهاء المعارك في حرب تشرين 1973 اجتمع الطرفان المصري والصهيوني في خيمة تبعد 101 كم عن القاهرة .  
[26] سليمان الأزرعي/ الشاعر القتيل ص72
[27] الدستور 8/9/1978
[28] آراء25 ورد الأزرعي في الدستور 6/10/78 ومقدمة الأعمال الكاملة بقلم الأزرعي ص و ــــ  ط
[29]  جريدة آخر خبر  العدد الرابع 14/15 ــ 10 ــ 1993
[30] دم على … 51
[31]   الدستور 15/11/1996
[32]   مجلة الأردن الجديد خريف 1989/شتاء 1990 ص119.
[33] دم على … ص 76
[34]  آخر خبر / عمان / الحلقة الأولى 13/ 14 ـ10 ـ 1993
[35] آخر خبر / الحلقة الرابعة .
[36]  جريدة آخر خبر/ الحلقة ا الثالثة ، العدد الرابع 14/ 15 ــ 10 ــ 1993.
[37] جريدة آخر خبر  /الحلقة الثانية ، العدد الثالث 13/14 ـ 10 ـ 1993
[38]آراء نقدية 43
[39] آراء نقدية 32
[40] جريدة الأخبار / عمان  16/11/1975
[41] الأعمال الكاملة ( ن) وصوت الجيل العدد 2 (11/1972)
[42]   جريدة عمان المساء / زاوية مشارف  التي كان يكتبها أمين شنار (18/11/)1972
[43] الأعمال الكاملة 124
[44]  ترجمه البعض بسقوط الحضارة الغربية ويقع في 1500 صفحة وترجمه أحمد الشيباني . 
[45] الأعمال الكاملة 297 ومما يؤسف له أن حاشية كتبت تعقيباً على هذا النص  في الصفحة ذاتها  ،تقول” لا بد أن البحث كتب تحت وطأة الاضطراب الفكري والروحي والارتداد الديني ــ المثالي للمؤلف قبيل انتحاره) فهل كانت هناك نقاشات تمت مع سبول عملت على تشويش توجهه الديني آنذاك .
[46] آراء نقدية26و 32
[47] السابق32
[48] دم على …80
[49]    جريدة الرأي / عمان 25/11 /1990
[50]   البرزخ هي الفترة بين الموت والبعث يوم القيامة . 
[51]الدستور 15/11/1996
 [52] آراء 26
[53]   آراء 32
[54]   آراء 45
[55]   جريدة العرب اليوم / عمان ، ملحق مشارف 16/2/2002
[56]   جريدة الأخبار عمان ، 16/11/1975
[57]   دم على …ص 48
 [58]  السابق ص 76
[59]   الأخبار16/ 11/1975
[60]     مجلة صوت الجيل /العدد 19 شباط 1993 ص 73
[61]     دم على … ص76
[62]     16/11/ 1975الأخبار
[63]     آخر خبر / الحلقة الرابعة ، 14/ ــ 5/10 ــ 1993 .
[64]     يقع كتاب شبلنجر في جزأين ( 1500 صفحة ) .
[65]     صوت الجيلـ    (ع 19)
[66]     الأخبار 16/11/75
[67]     الأعمال الكاملة ص180و181
[68]     دم على رغيف الجنوبي  ص 68
[69]     آخر خبر / الحلقة الرابعة 16/17 ـ 10 ـ 1993 .
[70]    دم على …ص95

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *