رائدة زقوت *
( ثقافات )
ضجيج النسوة يملأ أرجاء المدخل المؤدي إلى تلك البيوت المتلاصقة في الحارة القديمة،الأطفال يتجمعون فرحين في الخارج وقد تأهب كلّ واحد منهم لحمل بعض الأحمال، كلّ حسب حجمه وعمره.
روائح الهيل والبخور تنطلق لتعطر أجواء الحارة، كلمات التوحيد والتهليل والتسبيح تختلط مع بعض الضحكات النسائية المنطلقة من جوف البيت القابع في صدر المدخل، حركات الخطوات تقترب من الباب الخارجي للمنزل، الأطفال تركض باتجاه النسوة لحمل الأحمال عنهن، كل من في تلك الحارة الشعبية على أهبة الاستعداد وجاهز للانطلاق، وحدي لم أفهم ما الذي يجري، فقد انتقلنا للسكن في هذه الحارة منذ زمن قصير ، ذهبت مسرعة لأمي التي كانت كباقي النسوة في حركة دؤوبة كما لو كنَ خلية نحل وسألتها بكل فضول عن سر هذه الحركة..؟؟
– سوف نذهب لزيارة قبر الشيخ محمد، فقد سرق مصاغ إحدى النسوة من الحي وسوف نذهب لقبر الشيخ نضيء الشموع ونضع الحناء على القبر ونقوم بالدّعاء حتى ينكشف السارق ويعود المصاغ لصاحبته.
– وهل يعمل هذا الشيخ مع قوات الأمن؟؟.. أو أن عنده مخبرين يبحثون عن اللص؟؟
نظرت لي الوالدة نظرة فيها صرامة، وتحمل لي بعض الخوف من ضمن ما تحمل أن أخرس وأتوقف عن توجيه الأسئلة.
سرت مع الجموع السائرة صوب قبر الشيخ في حارة متهالكة كل ما فيها من بيوت آيلة للسقوط في أية لحظة ودخلناها وأنا أجرجر نفسي خوفا ورعباً مما قد أراه في قبر الشيخ، وصلنا أخيراً لبيت هدمت أكثر أجزائه ودخلنا غرفة ترابية ضيقة نوعا ما، تفوح منها روائح البخور، ويغطي الضريح في منتصفها سجاد أخضر علته الأتربة، سقف الغرفة كان على وشك السقوط فوق الضريح
– المزعومة مباركته- الجدران التي تشققت عن حفر صغيرة وبان الطوب الترابي كثير الفتحات وغرست في كل تلك الفتحات ” أعواد البخور” أو ما يسمى “أعواد الند” تزاحمت النسوة على التقرب أكثر وأكثر من الضريح، وبدأن بقراءة الفاتحة والدعاء ومناجاة الله تعالى عبر التوسل بالشيخ محمد .
كنت أراقب المشهد عن كثب صامتة، واتخذت قراراً لا أعرف سببه بأنني لن أكرر الزيارة مهما كان الدافع حتى لو سرق اللصوص أخي أو أختي لأن المصاغ الذهبي للأسف لا يتوفر في بيتنا كما سائر بيوت البلدة تلك الأيام، حيث كانت النسوة يتباهين بكثرة المصاغ الذهبي ويتفنن في لبسه دفعة واحدة في المناسبات مهما كانت كميته وعدد قطعه، أذكر بأنني مرة بكيت حزناً على إحداهن وهي تجرجر نفسها تحت كمية كبيرة من المصاغ الذهبي وكأنها محكوم بالإعدام يساق مكبلاً لتنفيذ الحكم، الفرق الوحيد أنها كانت تصطنع الفرح، وترسم ضحكة غبية استعراضية على وجهها بينما المحكوم يغلبه الحزن وألم مفارقة الحياة، فيظهر إما حزيناً مرتعباً، أو يظهر بوجه ميت خالٍ من الحياة كونه استعد مسبقا للمغادرة.
عند الضريح بدأت نوبات عصر الدمع من المآقي بكل قوة ، وبدأت بعض الدعوات تتخذ طابع السرية حيث تلجأ بعض النسوة لوشوشة “الشيخ الوسيلة” بطلبها، دفعتني شقاوة طفلة للتقرب من النسوة أكثر فأكثر، حتى أتبين كيف لهذه الدعوات أن تكشف السّارق وتعيد المصاغ المفقود، تقربت من داعية كانت تهمس باتجاه الضريح ودموعها تسفك بغزارة مع أنها ليست صاحبة المصاغ المسروق ولا تمت لها بصلة قرابة، ولا تربطها بها أيضا علاقة ودية، ما أغرب مجتمع النساء …!! تسللت خلفها بهدوء وساعدتني الضجة حول الضريح، تلك الضجة التي تشبه طنين النحل في يوم عمل شاق لاستخلاص العسل، تقربت منها أسترق السمع جيداً، كانت تتوسل الشيخ أن ينتقم من حماتها وزوجها وأهل زوجها بطريقة جنونية، وتفتح يديها متوجهة صوب الضريح، وتتمسح بالضريح وتعيد الدعاء مرات ومرات ، ثم تمتمت محدثة الضريح والله يا سيدي الشيخ الدعاء ليس انتقاما، ولكنها مرارة الحياة معهم هل تقبل أن يزوّجوه بأخرى، ولم يمضِ على زواجي منه خمس سنوات ..؟؟!! … في الحقيقة لم أسمع إجابة الشيخ لتساؤلها ..!! إلا إذا كان يجيب كل واحدة على حده أو أنه يسرّ لهن الإجابة بطريقة الوحي أو ليس هو من هو من القداسة بالنسبة لهن ؟؟!!
وهكذا تقربت بداعي الفضول من باقي الداعيات باستبسال وتذلل وللحق باستثناء أمي، وصاحبة المصاغ، وأربعة نسوة أخريات، لم تقمْ أي واحدة من الباكيات المتوسلات بالدعاء بعودة المصاغ أو كشف السارق وربما هذا السبب الذي جعل ضياع المصاغ هو الأمر البديهي ولم يكشف عن السارق أبداً ..!!
تم ترك الطعام من معجنات وفطائر، وكافة أنواع الكعك والخبز بجوار الضريح وتمسحت النسوة بالضريح بقوة حتى أن الأيدي كانت تنتقل بسرعة من فوق السجادة الخضراء المغبرة للأجساد بدءاً من قمة الرأس وانتهاءً بأسفل القدم، حاولت أمي أن تقوم بمسح يدي بذلك التراب الذي يلتصق باليد فور ملامستها للضريح، ولكني هربت مرعوبة خوفا من أن يكون للشيخ محمد عيون داخل ذرات التراب وتلتصق بي ولا أعود وحيدة كما كنت بل مراقبة من قبل عيون الشيخ التي استقرت على جسدي بهذا التبرك ..!! أو ليس الشيخ محمد بخارق للعادة وصاحب معجزات ؟؟!! وإلا ما تفسير ما يحدث إذاً ؟!!
عاد الجميع للحارة وعلامات الراحة والقناعة بأن كل الطلبات والتوسلات للشيخ محمد قد تمت الإجابة عنها، وماهي إلا مسألة وقت حتى يقوم الشيخ بفرز الأدعية حسب الأهمية ويجيب الداعيات، قد يجيب مثلا الداعية بالانتقام من حماتها وأهل زوجها قبل صاحبة المصاغ لضرورة وقف الزواج من أخرى والذي كان على وشك أن يتم، أو قد يتم زواج تلك الفتاة التي تجاوزت الخامسة والعشرين وحصلت على لقب عانس حتى تتخلص من اللقب ..!!
بعد مرور عدة أيام وليالٍ لم أذق فيها طعما للنوم، وأنا أحاسب نفسي لمَ لم أقمْ بالدعاء على مدرسة الرياضيات التي كانت تضع لي علامة متدنية، أو على مدرسة اللغة العربية التي وصمتني بالغريبة عبر مثل ما زال يرن في أذني لغاية الآن ” ما بيجيك من الغرب غير اللي بغم القلب ” ، لا أعرف لمّ كانت تشعر بأنني من أسباب الغمة التي تعتريها، غلى الرغم من أنّها كانت مغمومة الظاهر والباطن، ولكن أظن بأن واحدة أخرى من الزائرات للضريح قد قامت بالمهمة حيث أن المدرسة عاشت آنسة طوال حياتها، أي لم تتزوج أو ليس هذا بعقابٍ كافٍ ؟؟!!
مرت الآن بضعة أشهر على زيارة الضريح، ولم يحدث شيء ولم يتم استجابة أي دعاء من تلك الأدعية، أظن بأن الشيخ محمد كان في إجازة أو غضب من إحداهن وقرر رفض مساعدة أي داعية، لم يرجع المصاغ ولم يعرف السارق، لم تتزوج تلك الفتاة التي انهمرت دموعها ودموع والدتها كما شلال فوق الضريح، وتزوج زوج الداعية بالانتقام من أهل الزوج والزوج وأمه.
بررت النسوة هذا الأمر بتقصيرهن في الدعاء، وبالذهاب في يوم غير مناسب، لذلك تم اتخاذ قرار بالإجماع هذه المرة على أن تكون الزيارة القادمة يوم الجمعة وأن يجزلن العطاء، ويضاعفن كمية الطعام والبخور، والقرار الأهم كان هو عدم اصطحابي معهن للضريح حيث وجدن بعد البحث والتقصي بأنني فأل نحس على فوج الزائرات …….!!
* قاصّة من الأردن .