في رحيل فايز صيّاغ… عالم الاجتماع بين الأدب والترجمة

  • د. إبراهيم خليل

عن عمر يقارب الثامنة والسبعين من العمر غيب الموت الشاعر الكاتب المترجم الباحث الاجتماعي الأردني فايز صياغ في 17 الجاري. وكان الراحل قد ولد في الكرك في جنوب الأردن سنة 1942 ودرس في مدارس المدينة والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، متخصصا في علم الاجتماع، غير أنه ظل يتردد لمحاضرات في الأدب العربي ومن أساتذته في تلك المرحلة إحسان عباس ومحمد يوسف نجم. وبعد تخرجه عمل في التدريس في بلدة تابعة لمحافظة القدس، وتزوج من الفلسطينية ليلى الأطرش التي كانت في حينه قد شقت طريقها نحو الإعلام والكتابة في الصحافة. وفي الأثناء دأب على نشر شعره في مجلات «الآداب»، و»المعرفة»، ومجلة «حوار»، ومجلة «شعر» اللبنانية، ومجلة «الأفق الجديد» المقدسية، وأخيرا «أفكار»، التي كان له فضل الإشراف على تأسيسها.
وبعد حرب يونيو/ حزيران تراجع اهتمامه بالشعر، وغادر إلى الدوحة مع عائلته، لكنه في الوقت ذاته تابع دراسته العليا في الجامعات الكندية في تورنتو، وحظي بدرجة الدكتوراه في علم الاجتماع الاقتصادي. وعمل في الجامعة التي درس فيها إلى جانب عمله في وظائف شتى في الدوحة، التي أسس فيها مجلة «الدوحة» الأدبية الثقافية وترأس تحريرها، وأشرف طويلا على إذاعة الدوحة بالإنكليزية، قبل أن يعود إلى الأردن ليعمل في عدد من المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة.


عرف صياغ في السنوات الأخيرة بترجماته المتعددة التي أهلته للفوز بجائزة الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني في الترجمة 2008، وبجائزة خادم الحرمين الشريفين عام 2009، ولم يعد كثير من معارفه يذكرون أنه بدأ حياته شاعرا. وقد صدر له ديوان «كلمات على الرمل» عام 1975 عن دار عويدات في بيروت. ولم يثر هذا الديوان اهتمام الدارسين، وتبعه ديوان صدر عام 1988 بعنوان «الحب مثلا»، وفيه عدد من القصائد اختارها مما نشره سابقا في المجلات المذكورة. ويغالب المرء عند قراءته هذا الديوان شعور بأن ما كانت تنشره الدوريات من شعر في أوائل الستينيات، إذا قورن بما ينشر في هذه الأيام أكثر جودة وأقرب إلى حقيقة الشعر من هذا الهزال الذي يملأ الصحف والدواوين. فالقصيدة في ديوانه الحب مثلا تفاجئ القارئ، لأنها قصيدة تحاوره، وتراوده عن نفسها، فهي أشبه بأغنية تشنف الآذان، ولا تخلو مع ذلك من قضية جارحة تفصح عن ذاتها بشفافية وعمق. فالوعي الطبقي، والبحث عن الصدق في عالم زائف لا خير فيه، مقولتان كانتا متداولتين في شعر الستينيات.. بيد أن لفايز قصيدته الخاصة، ورؤياه التي تفصح عن هذين المفهومين في لغة لا يشاركه فيها إلا القليل، مؤكدا على أن الشعر لا يكون شعرا إلا إذا كتب بلغة تسمو على ما هو شائع ومتداول، وتحلق بعيدا عن تلك اللغة التي مضغتها الألسنة ولاكتها الأفواه، لغة تقوم على الإشارة والإيماءة، التي تتضمن المعنى العظيم في اللفظ القليل الفخيم، ولعل قصيدته «الحصى والماء» من القصائد التي تعتمد الإيماء، والإيحاء، ومع أن العنوان يذكرنا بحكاية ليست موجودة في النص، ولكن الفقر والجوع والأمير والأشباح والمساء والتفاصيل الصغيرة جميعًا، تشي بهذا المعنى، وتفصح عن مرامي النص الغائب، وهو أن الجوع هو وحده القاسم المشترك في حياة الطبقات الفقيرة:

بالأمس أفرغنا حكايانا العتيقة
ثم أدمينا حناجرنا
فأغفينا على باب الأمير
ولسيفه البتار غنينا
لبسطة كفه
لسيور أحذية الأمير
لبريق أحذية الأمير
فالتداخل بين حديث الشاعر عن السلطة متمثلة بالأمير، وبأحذيته، والحديث عن الجوع الذي يدفع بالجماعات المسحوقة للاكتفاء بالماء والملح طعاما، أوضح من أن يخفى:
سنظل ما دامت تقول الهامة اسقوني
نلوك الماء
ماء الملح
في دعة ٍ
ونلتمس العزاء
فالجوع مستمر، والضحايا يهدر دمها ولا يأخذ بثأرها أحد، والجوع المتواصل يدفع بالفقراء لطهو الحصى، والتلهي بأي شيء يمكن أن يتناول، فيما يواصل الجلاد إشباع شهوته للقتل، والتسلي بتعذيب الضحيّة. ويكرر الشاعر الصياغ هذه الحكاية ـ الجوع- في قصيدة له أخرى بعنوان «الصغار والمطر»، فهم في هذه القصيدة على وعد يُذهب عنهم غائلة الجوع والسغب، وتظل عيونهم تومض ببريق الأمل الخلب، فكلما رأوا سحابة عالقة بأهداب الريح، وتفاءلوا خيرا، تبين أن هذا الخير- على رأي شاعر آخر- هو الشيء الذي يأتي ولا يأتي، وحتى لو هطل المطر، ودغدغت أحلام البيادر مواسم الحصاد، فإن شفاه المتعبين لن تجد ما تبتل به، وأفواههم لن تجد ما تسد به جوعا:
قال الكبار
لو أنها جاءت
ودون مجيئها مدُّ المسافة والفراغ
ولا معاد
وقفوا وأيديهم مشنجة العروق
وأرضهم نهبٌ لأرجال الجراد
والوارثون الأرض ما ورثوا سوى الغضب المدمدم
والمجاعة والرماد
ينطلق الشاعر صياغ إذن من رؤية «سيابيّة» لعلاقة الإنسان بالمطر وبمواسم العطاء والخصب، فأمثال هؤلاء المتعبين الحالمين لن تتحقق وعودهم بالآمال، ولا بما تجود به عليهم سحائب ليس تنتظم البلادا، على رأي شيخ المعرة، وإنما هم في حاجة لعصر جديد، ودنيا جديدة، يختفي فيها السلب والنهب، ويختفي فيها القتل والاعتقال والتعذيب والتهجير، والتعفيش، ومثل هذه الدنيا الجديدة لا تتأتى إلا بصراعٍ لا يعبّر عنه شيء إلا أن يناطح الظامئُ الصخور الصلدة:
قال جدي ـ طيب الله ثراه-
عندما جمَّعنا ليلُ السمر
صخرةٌ يا ولدي هذي الحياة
فإذا أظمئت لا تشكُ القدر
واضْرب الصخر َ
فتنهل المياه
ومع أن الشاعر صياغ يتبنى في شعره هذا ما يمكن وصفه بأيديولوجيا الطبقة الفقيرة، إلا أنه لا يعلن ذلك مباشرة حتى لا توصم قصيدته، وترمى، بالمباشرة، والوقوع في فخ التقرير الخطابي، فتصبح بيانًا لا يختلف عن بيانات السياسيين، والحزبيين، ففي «مصرع عروة بن الورد»، تنتهي القصيدة بمصرع الشهيد في خطوة ضرورية للتعبير عما بعدها، يقول الشاعر على لسان ابن الورد:
سأمسح عن ذي البيد كلَّ ظلامةٍ
ولو نهشت قلبي الرماحُ الحواقد
فقد تجنب المباشرة باستخدامه هذا النموذج التاريخي، الذي عُرف بما ميز صعلكته عن غيره من الصعاليك، فكان يقوم بالغزو، وبالنهب، ويوزع ما ينهبه من فضول أموال الأغنياء على الفقراء، والمُعوزين، وهو الذي أثر عنه قوله:
وإني امرؤ عافي إنائي شِرْكة
وأنت امرؤ عافي إنائك واحدُ
فهو بهذه الروح كأنه اشتراكي من ذلك الزمان. وفي قصيدة أخرى بعنوان «الفارس»، يقدم البطل المتكلم في القصيدة روحه فداءً للآخرين، من غير أن يتراجع أو يتذمَّر، فهو يستشهد في الثورة مع اعتقاده بأن الشهادة ليست نهاية المطاف، بل هي بداية من نوع آخر:
صامدًا
تحت لظى الشمس
وأسواط المطر
واقفا مرّ به الليلُ.. النهارُ
السالف.. الآتي.. الفصول الأربعة
يتمنى اللحظة الكبرى
وقد ضمد بالسلوان جرحه
إذ يرى التنين ذا العينين يرمي بالشرر
ولدُنْ حانت.. عدا.. ارتدَّ.. انثنى.. حادَ
ارتمى كالزوبعة
ورمى في جبهة اللاشيء رمحه
واللافت للنظر، الجاذب للانتباه، أن صياغ، على الرغم من توجهاته المبكرة نحو الحداثة الشعرية، إلا أن في قصائد هذا الديوان «الحبّ مثلا» شعرًا يتبع فيه التقاليد القديمة، جاعلا من البحر العروضي الكلاسيكي ميزانا لشعره، ضابطا لإيقاعه، وجرسه، وقد برع في هذا براعة تقود إلى مقارنته بالفحول من الشعراء المتقدّمين، تشهد على ذلك قصيته «الحبّ مثلا»، التي لو وُضعت أبيات منها في معلقة لبيد بن ربيعة العامري، لخفيت على القارئ، وظنها من شعر ذلك الشاعر المخضرم:
لابت خطاه، وما اهتدى لـــطريدةٍ
ضلت طرائقها وضاع مرامُـــــها
والشمس تلهث في طريّ جروحه
فيظلُّ في عمق الجـروح ضرامها
يأتيك مجرورًا يطــامِنُ غُصَّــــــة
في القلب أنتِ شفــاؤُها وسقامُــها
يُذكر أن لفايز صياغ عددًا من الكتب المؤلفة في الاقتصاد والتنمية الاجتماعية، وأما في الترجمة فقد ترجم كتاب «عصر الثورة، وكتاب علم الاجتماع، وهو كتاب أكاديمي، وكتاب عصر رأس المال، وكتاب عصر الإمبراطورية، وعصر التطرفات»، وترجم كتابا عن بيكاسو ونجاحاته وإخفاقاته لجون بيرجر، وهذه الترجمات صدرت جميعا بين عامي 2005 و2010. وترجماته هذه تندرج في مشروع شخصي أراد أن يفتح أمام الدراسين والباحثين العرب به أفاقا معرفية جيدة، وجديدة، من خلال الاطلاع على الأصول، التي هي أولى بالقبول من الملحقات والملخَّصات والذيول .
_________
ناقد وأكاديمي من الأردن

عن القدس العربي – لندن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *