-
زكريا محمد
اكتشف نقش جذيمة، أو نقش أمّ الجمال النبطي، أو نقش أمّ الجمال الأول لتفريقه عن نقش أمّ الجمال العربي، على يد ليتمان سنة 1909 في «أمّ الجمال» التي تقع الآن في الأردن قرب مدينة المفرق. والنقش مكتوب بالخط النبطي. وقد قُدر تاريخ كتابته، وبناءً على القراءة السائدة له، بفترة تقع بين عامَي 250- 260 ميلادية. وأهمية النقش تتأتّى من أمرين اثنين:
الأول: أنه أول تأكيد مكتوب لوجود تاريخي لجذيمة ملك الحيرة الشهير جداً في المصادر العربية.
الثاني: أنه نقش يمثل المرحلة الانتقالية الأولى من الخط النبطي إلى الخط العربي. فبعض حروفه شبيه بالحروف العربية التي تطوّرت لاحقاً.
وقد قرأ ليتمان النقش على الوجه المبين أدناه، وهي قراءة توافق عليها الأغلبية الساحقة:
«دنه نفسو فهرو بر سلي ربو جذيمت ملك تنوخ» وبالعربية: «هذا شاهد قبر فهر بن سليّ مربي جذيمة ملك تنوخ».
صورة النقش وتحته رسم حديث لحروفه من ليلي نحمي
وقد افترض أن جذيمة النقش هو جذيمة المصادر العربية. وهناك خلاف حول كلمة «نفسو». فهناك من يرى أنها تعني «قبر». لكن الاتجاه الأكثر أنها تعني: شاهد قبر. لكن الكلمة الغامضة في النقش هي كلمة «ربو». وقد افترض أنها تعني: المربي، الكفيل. ذلك أن الراب في العربية يعني زوج الأم، أو الكفيل: «وفي الحديث: الرَّابُّ كافِل؛ وهو زَوْجُ أُمِّ اليَتيم، وهو اسم فاعل، مِن رَبَّه يَرُبُّه أَي إِنه يَكْفُل بأَمْرِه. وفي حديث مجاهد: كان يكره أَن يتزوَّج الرجلُ امرأَةَ رابِّه، يعني امرأَة زَوْج أُمـِّه، لأنه كان يُرَبِّيه. غيره: والرَّبيبُ والرَّابُّ زوجُ الأُم» (لسان العرب). أما الواو في كلمة «ربو» فهي الواو التي تلحق بالأسماء في الكتابة النبطية. وقد افترض أن سلي كان زوج أم جذيمة، مع أنه لم يصلنا أنه كان لجذيمة زوج باسم سلي أو باسم غيره.
■ ■ ■
ولم يجر تحدي قراءة ليتمان للنقش جدياً حتى الآن. هذا إذا استثنينا أن الباحث العراقي- الأميركي سعيد أبو الحب اقترح أن يقرأ اسم صاحب النقش على أنه «فرء» بدلاً من «فهر»، وأن تقرأ كلمة «ملك» على أنها «مملّك»، أي الذي كان أساس تملك ملوك تنوخ حسب ما فهمت. ولست مقتنعاً بذلك. لكن الحب لم يقدم فهماً مختلفاً لكلمة «ربو» التي هي مركز النص. بذا فقد ظل «راب جذيمة» لاصقاً بنا إلى حين.
والمشكلة التي يثيرها السائد للنقش أن جذيمة كان ملكاً للحيرة في جنوب وسط العراق، ولم نسمع أبداً بأنه مدّ ملكه إلى الشام. بذا، فما الذي جعل رابه، أي مربيه وكفيله، يدفن في الشام على الحدود السورية الأردنية؟ وليس هناك من إجابة معقولة على هذا السؤال.
الحليف والمعاهد
لديّ مقترح يمكن أن يحل هذه المعضلة في ما أظن. وهو يقوم على فهم مختلف لكلمة «ربو». وبناءً على هذا المقترح، فالكلمة على علاقة بكلمة «رِبّ» العربية التي تعني: الحليف والمعاهد: «الرِّبابة والرِّباب: العهد والميثاق؛ قال علقمَة بن عَبَدةَ: وكنتُ امْرَأً أَفْضَتْ إِليكَ رِبابَتِـي/ وقَبْلَكَ رَبَّتْني، فَضِعْتُ، رُبُوبُ. ومنه قيل للعُشُور: رِبابٌ. والرَّبِـيب الـمُعاهَد؛ وبه فسر قَوْل امرِئِ القيس: فما قاتَلوا عن رَبِّهِم ورَبِيبِهِمْ. وقال ابن بري: قال أَبو علي الفارسي: أَرِبَّةٌ جمع رِبابٍ، وهو العَهْدُ… والرِّبابُ العَهْدُ الذي يأْخُذه صاحِـبُها من الناس لإِجارتِها. وجَمْعُ الرَّبِّ رِبابٌ» (لسان العرب).
اكتُشف نقش جذيمة على يد ليتمان سنة 1909 في «أمّ الجمال» التي تقع الآن في الأردن
إذن، فالرب هو الحليف والمعاهد. بذا فأنا أقترح أن الكلمة في النقش يجب أن تقرأ على أنها «رَبّ» وليس «راب»، ثم أضيفت إليها الواو النبطية فصارت «ربّو»، وهي تعني «الربيب»، أي الحليف والمعاهد. عليه، ففهر بن سُلي كان «رَبّاً» لجذيمة ملك تنوخ، أي كان حليفاً له ومعاهداً.
وهذه قراءة تجعل وجود جذيمة في النقش مفهوماً جداً في ما أظن. فهي تشير إلى أن نفوذ جذيمة وصل إلى بعض مناطق الشام، لكن ملكه لم يصل إلى هناك. وقد تبدّى نفوذه عبر التحالفات والمعاهدات مع شيوخ القبائل على أطراف الشام، كما هو الحال مع حلفه مع فهر بن سلي صاحب النقش. وهذا أمر معقول جداً. فأمّ الجمال تقع بالقرب من المفرق. بذا فهي أقرب المدن القديمة في الأردن إلى الحدود العراقية.
■ ■ ■
أمّ الجمال في الطريق إلى العراق
إذا صحّ هذا، فيجب أن نشير إلى ضرورة التفريق بين جذيمة ملك تنوخ في الحيرة وبين جذيمة الأبرش الشهير في المصادر العربية، اللذين يجري الخلط بينهما. فالأبرش كائن إلهي وليس ملكاً بشرياً. لهذا لقّب بـ «نديم الفرقدين». والفرقدان نجمان في بنات نعش في شمال السماء. ولا يمكن لملك بشري أن يكون موجوداً في شمال السماء. يؤيد هذا أن صفته «الأبرش» تشير إلى أنه كائن سماوي إلهي. فالبرش هو البرص. والبرص، كمرض أبيض جاف وغير سيال، مرتبط بشمال السماء. أما جنوب السماء، فمرتبط بالأمراض السيالة كالحميات. ويبدو أن ملوك الحيره سّموا أبناءهم جذيمة على اسم هذا الكائن الإلهي لأنه كان رباً معبوداً عندهم.
* شاعر فلسطيني
- عن جريدة الأخبار اللبنانية