صَرَاةُ[i] عَجَاج
* د. موسى رحوم عبَّاس
نعم، سيِّدي، هذه القطعة من الأرض لن تجدَ مثلها، إطلالةٌ على الأوتوستراد وقربٌ من قلب المدينة والخدمات الرَّاقية، ويجاورك الدكتور شكيب، والدكتور فلاح والفنان سومر…، وصار يتلو قائمة الأسماء كأنَّه في صلاة، ولكن! حاولتُ أن أقاطعَه، لكنَّه استمرَّ في صلاته وتراتيله، هنا تُجهِّزُ المسبح، وفي الزاوية الحديقة المطلة على مبنى الجمارك… وكنتُ ألاحق بخيالي ما يتفوَّهُ به نيابة عني، هذا هو صاحب المكتب العقاري الذي أوصوني به بعد عودتي إلى مدينتي التي هجرتها عشرات السنين مغتربا، يحفظ الخريطة عن ظهر قلب، التقط أنفاسه لبرهة، قمت باستغلالها عن السؤال عن اسم هذا المكان، فعاجلني بقوله: صَرَاة عَجَاج، واستفاض في شرح سبب التسمية وأنَّها مستنقع تتجمع فيها مياه الفيضان والأمطار، وضحك ضحكة قصيرة ماكرة، وأردف: هذا زمان، زمان، زمن الأول تحوَّل!
تستطيعُ أن تنتقمَ من الماضي، أن تكونَ لك مساحتك الخاصة، أن يكونَ لك سريرك الخاص، أن تبكي، تضحك، تصرخ، لم يعد للغربة سطوة ٌعليك، هأنتَ ذا تعود طاويا سنوات العمر، نعم، تتقدم بالسن، ليس لك أصدقاء،تشعر بالغربة رغم ظنك أنك خلفتها وراءك! لكنْ لا بأسَ.
يسألني سائقُ الأجرة عن المكان الذي أقصده، يبدو أنَّه سألني قبل ذلك عدة مرات، رفع صوته بصورة مبالغ فيها، أعادني فيها إليه، ” صَرَاة عَجَاج” ضحك كثيرا، وقال: هذه الآن ” حارة الحرامية” وأصرَّ أن يأخذ الأجرة مضاعفة، في المقهى كانت الأنظار تلاحقني، وفي المطعم لم يستطعِ العمالُ إخفاء ابتسامتهم وربما امتعاضهم، ودفعت الفاتورةَ بسرعةٍ رغم المبالغة الكبيرة بها، ضحكتُ، وأنا أردد: لا بأس فأنا حرامي، صرتُ أركضُ في الشَّوارع والسَّاحات، ولا شك لدي أنَّني حرامي، ظننتُ أني أحملُ لوحةً كبيرة على ظهري تحذِّر النَّاس مني، ترددتُ كثيرا على مقهى الحرامية ونادِيهم، أدمنتُ القمارَ معهم، أتقنتُ لغتهم، وبحثتُ عنهم في قاعِ المدينة، صرنا واحدا، في المرة الأخيرة لغزواتنا- هكذا نسمِّيها – كانت وجهتنا بنك ” هُونُور أنترناشيونال” دخلنا من الباب الخلفي، كانت اللوحة تقول: ” البناء مراقبٌ بالكاميرات” ونحن” الحرامية” نعرف أنهم يكذبون، مجرد مصابيح عادية بغطاء زجاجي ملون، دلفنا إلى الرُّدهة الداخلية، أفرغنا الخزائن في أكياسنا السَّوداء، صارتْ ثقيلةً فرحنا، توهمنا أنَّنا نسمعُ رنينَ الذَّهب، ونرى بريقَهُ، تركنا اللوحاتِ الفنيةَ المشنوقةَ على الجدران، صورٌ لأطفال فرحين، نساءٌ بصدورٍ عامرةٍ، جُسُورٌ يعبرها مشاةٌ مستعجلون، خيولٌ جامحةٌ، … لا وقتَ لدينا لكلِّ هذا!
عند اقتسام الغنائم وجدنا أكياسا مُغلَّفة جيدا، ربَّما كانتْ دافئةً قليلا، وكُتِبَ عليها بأكثرَ من لغةٍ، أصابعُ فُصِلَت عن أكفِّها بإتقانٍ جراحيٍّ تامٍّ ، تغطيها أحبارٌ زرقاءُ وحمراءُ، بصماتها واضحة، بعضها خشنٌ ربَّما كانتْ لرجالٍ مُتعبين، وأخرى ناعمةٌ، عيون قد سُمِلتْ من مَحَاجِرها، ماتزالُ مفتوحةً كبئرٍ عميقة، ويمكنُ أن ترى في قعرها صورةً معكوسةً لرجالٍ غاضبين يحملون مشارطَ لامعةً، يعتمرون قبعاتٍ غريبةً وعمائمَ مُتقنةً، دموعُها ماتزال نديةً، تراءى لي أنَّها تسيلُ، ولا أثرَ لدماءٍ عليها، بل هي أقرب لكراتٍ زجاجيةٍ، ما يزالُ بريقها طازجا، ألْسِنَةٌ ماتزال تتلوَّى، يبدو أنَّها لم تكملِ الجُملةَ التي أرادتْ نُطْقَها، نعم، ماتزالُ تتحرَّكُ بطريقةٍ تجعلكَ تصمتْ؛ لتلتقطَ بعضًا من بَوْحِها، ولا سبيل لذلك إلا تأويلا، ورزمٌ أخرى من الأكياس تحتوي على ما لايذكر من أعضاء، كنا نقلِّبُ كلا منها، نصنِّفهُ، لتكونَ القسمةُ عادلةً، وكانتْ صحفُ الصَّباح تعلنُ أنَّ مجموعة من اللُّصوصِ قد سَطَتْ على فرع البنك في صَرَاة عَجَاج، وحملتْ معها ثلاثةَ ملايين دولار، بينما يحاولُ المحامي أن يغيِّرَ صفة الدَّعوى والاتهام ِإلى سرقةِ أعضاءٍ بشريةٍ، لا غير!