* نبيل سليمان
شباب في مثل عمرك (22 سنة)، بل أصغر، بل أكبر، يملؤون شوارع وساحات باريس، يتقدمهم ساحرك جان بول سارتر، وها هو شرطي يضربه وأنت تتهادى في مشوارك المسائي على الجسر العتيق، مُشْهِدًا نهر الفرات على ما فتنك من شعارات شباب 1968: كل السلطة للخيال.
إلى مكتبة الخابور كنت تسعى كل مساء منذ أيامك الأولى في الرقة، تتصفح صحفًا وتقلّب مجلات وكتبًا وتشتري ما يؤنس ليلتك. ومن جريدة إلى جريدة، ترجّك المظاهرات الشبابية في جامعة عين شمس في القاهرة، وفي المظاهرات العمالية في حلوان، ضد من لا تزال تصفق له قائدًا: جمال عبدالناصر. وها هم شباب باريس والقاهرة يرمونك بالسؤال عن مظاهرات شباب سوريا، في دمشق أو حتى هنا في الرقة، فتتكوم على ضفة الفرات، تحت الجسر، خوفًا من أن يكون شباب سوريا قد نسوا المظاهرات بعد ما تقوضت الجمهورية العربية المتحدة، وانفصلت سوريا عن مصر في (28/9/1961م).
من غرفة المدرسين في ثانوية الرشيد إلى المركز الثقافي إلى مكتبة الخابور إلى المقهى إلى المقصف إلى الجسر العتيق، تتقافز وأنت لا تصدق هذا الصمم في الرقة عما يزلزل العالم، كما الصمم الذي سيلاقيك طوال العطلة الصيفية في اللاذقية أو دمشق أو جبلة أو القرية.
رسائل بوعلي ياسين: إلى ملجئك الوحيد إذن: الخيال.
كل شيء للخيال، وليس فقط السلطة. وها هي رسائل بوعلي ياسين تلهب الملجأ واللاجئ. فبعد صمت شهور يكتب بوعلي عن كومونة فرانكفورت، عن صديقته ألفونزا، عن جامعته في ماينتس التي ودعها مؤقتًا ملبّيًا نداء الثورة. ويكتب سطرًا عن يوهانس غوتنبرغ الذي حملت الجامعة اسمه، واخترع المطبعة التي طبعت أول كتاب في التاريخ. ومن النادر أن يكتب بوعلي سطرًا عن الأطروحة التي سينال عنها الماجستير: القطن وظاهرة الإنتاج الأحادي في سوريا. لا للحرب في فيتنام، لا لسيطرة الدولة على الفنون، لا للقيود التي يكبلنا بها المجتمع، كن واقعيًّا واطلب المستحيل، نعم للحب، نعم للحب، نعم للحب: يكتب بوعلي وأنا ببغاء أردد، وأتلعثم، وأردد، وأشوّه، وأردد.
بوعلي إذن واحد من الثوار، عاشق، وباحث. بوعلي: خيال.
نبيل بدر
يبدأ حديث السينما عندي من اسمي، ذلك أن أبي (بدر) كان دركيًّا في صافيتا منذ 1944 سنة حمل أمي بي. وفي نهار أو ليل، كما سيحدثني أبي مرارًا، كان يلبي مع أي من زملائه نداء مدينة طرابلس (لبنان) القريبة، حيث يشاهدان فِلْمًا سينمائيًّا عربيًّا في سينما دنيا، وفي أحيان نادرة يكون الفِلْم أجنبيًّا في سينما أمبير. في نهاية العام عاد أبي من مشاهدة فِلْم «رابحة» نشوانَ يبشر باسم ابنه الذي سيولد بعد أسابيع: نبيل، لماذا؟ لأنه سيكون نبيل بدر، لماذا؟ لأن بطل فِلْم «رابحة» هو الممثل الفلسطيني بدر لاما، وفي الفِلْم اسمه نبيل، وسيكون اسمي إذن قادمًا من السينما. اسمٌ خيالٌ لكائن من خيال. فهل يكون ذلك ما أورثني من أبي عشقَ السينما؟
نجيب محفوظ: خيال
ربما تواتر هربي/ لجوئي إلى السينما؛ لأنني عجزت عن أن أتابع الكتابة بعد ثمانين صفحة في الرواية التي كان عنوانها أولَ ما كتبت منها: «نحو الصيف الآخر». ولا يزال هذا «المشروع» هاجعًا في الدرك الأسفل من المكتبة إلى اليوم.
ثلاث دور للسينما كانت في الرقة 1969م
في بداية شارع تل أبيض كانت سينما الزهراء تتلألأ، وغير بعيد كانت سينما الشرق، وكانت سينما غرناطة التي احترقت العام الماضي وأُغلقت، وقد تردد أنها ملك عبدالسلام العجيلي وأخيه عبدالعظيم. من سينما إلى سينما، ها أنذا أتنقل في العرض المسائي و/ أو الليلي، أستقبل 1969م بفِلْم «اللص والكلاب»: هذا سعيد مهران بقميص شكري سرحان، وهذه نور بقميص شادية، هذه ليلى نظمي تغني: العتبة جزاز والسلم نايلون في نايلون. إنه نجيب محفوظ، ورواياته تسكنني كما أفلامها.
نجيب محفوظ خيال. وهذا فِلْم طازج يطير من القاهرة إلى الرقة: «ميرامار»: به أودع 1969م، مع زهرة بقميص شادية أيضًا، عامر وجدي بقميص عماد حمدي، محمود أبو العباس بقميص عبدالمنعم إبراهيم، صفية بقميص نادية الجندي. من مكتبة الخابور اشتريت «أولاد حارتنا» والثلاثية دفعة واحدة. وفي سينما غرناطة عشيّة احتراقها، شاهدت للمرة الثانية «بين القصرين»، وكانت الأولى في اللاذقية قبل أن أقرأ الرواية، وهذا سي السيد بقميص يحيى شاهين، هذه أمينة بقميص هدى سلطان، هذا فهمي بقميص صلاح قابيل، هذه العالْمة جليلة بقميص ميمي شكيب. وهذه رواية «زقاق المدق»: حميدة بقميص شادية، المعلم زيطة بقميص توفيق الدقن، المعلم كرشة بقميص من؟ لعن الله النسيان. من الرواية إلى الفِلْم، حين قرأت وحين شاهدت «بداية ونهاية»، سحرتني ريري التي ستحيا بقميص نادية لطفي، وأرّقني السؤال عن عاهرات روايات/ أفلام نجيب محفوظ. وفي مجلةٍ ما قرأت أن «بداية ونهاية» تنتقد ثورة 1952م، فزعلت منها، ومن نجيب محفوظ ونادية لطفي وعبدالله غيث ومحمود مرسي وعادل أدهم، وزعلت من حالي لأني لم أكتشف ذلك الانتقاد. ربما كان عبدالناصر لا يزال ضروريًّا لروحي.
أخيولات
كما لو أنك مسرنم تمضي مع مناة الثالثة الأخرى نحو الزواج، مثلما مضيتَ نحوه من حب غرير سرعان ما قوضته، بدعوى أن مناة الأولى أمّية، إلى حبٍّ أكبر غرارةً قوّضه ذوو مناة الثانية، لأنك أسرعت إلى طلب الزواج منها وأنت طالب جامعي في الحادية والعشرين. أما الآن فها هو حب هادئ، عاقل، يمضي بك وبمناة الثالثة الأخرى إلى.. إلى أين؟ لا، ليس ذلك سرنمة، ولا أضغاث أحلام. ليس كل ذلك إلا خيالًا، مثله مثل هذا الذي يعصف بك هذا اليوم، الثاني والعشرون من شباط 1969م، في ذكرى قيام الوحدة السورية المصرية، وفي إعلان قيام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، بعدما تشققت الجبهة الشعبية في الصيف الماضي. وماذا كانت إذن غارة الطيران الإسرائيلي على ميسلون منذ ثمانية عشر يومًا؟
نساءٌ خيال. الوحدة خيال. فلسطين خيال.
الطلاب الأصدقاء
واحد من الطلاب الذين أدرّس لهم هو عبدالله أبو هيف (1948- 2017م)، كان يخطط بخطه الجميل المتقن إعلانات هذه السينما أو تلك عن الفِلْم المعروض والفِلْم القادم، وبالأجر يتغلب على البؤس المادي. وسيغدو عبدالله إلى أن ينال الشهادة الثانوية ويمضي إلى جامعة دمشق، صديق السينما بالنسبة لي؛ إذ كانت له ذائقته السينمائية المميزة، مثلما كانت له ذائقته الشعرية والقصصية، هو وزملاء له، منهم الشاعر إبراهيم الجرادي (1951- 2018م). وكانوا قد أسسوا منذ السنة الماضية جماعة «ثورة الحرف»: إبراهيم الخليل وخليل جاسم الحميدي (1945- 2007م) ووفيق خنسة وآخرون. وثمة من عدّني من المؤسسين لهذه الجماعة التي ما كانت لترضى بأقل من تفجير اللغة وتأسيس أدب جديد. ولكني لم أكن من المؤسسين، وفيما عدا ذلك كنت واحدًا منهم، نتناهب الكتب كما نتناهب الأفلام التي كان يستهويني منها وبخاصة ما جاء من رواية، فيطلق خيالي، مثل قراءة الرواية، إلى يوم أكون فيه كاتبًا من، من… خيال!
روايات/ أفلام
هذا فِلْم «الرجل الذي فقد ظله»، هذه رواية فتحي غانم، هذا صلاح ذو الفقار وماجدة وكمال الشناوي، هذا هو الصحفي الانتهازي الذي ما أكثر ما سأصادفه من بعد في الحياة الثقافية. وهذا فِلْم «قنديل أم هاشم»، هذا يحيى حقي، وهذا فِلْم «أرض النفاق»، هذا يوسف السباعي الذي أسرت مراهقتي رواياته والأفلام المأخوذة عنها (ردّ قلبي، بين الأطلال، اذكريني)، مثله مثل إحسان عبدالقدوس. وهذا فِلْم «دعاء الكروان»، هذا طه حسين، هذه فاتن حمامة، وهذه زهرة العلا، وهذا أحمد مظهر.
أخيولات
البلاد تتلاطم منذ الهزيمة– حرب 1967م؛ لذلك عليك أن تصدق أن العقيد عبدالكريم الجندي انتحر بخمس رصاصات. وما راءٍ كمن سمعا. كان المنتحر مدير المخابرات العامة، أي أمن الدولة، ومدير مكتب الأمن القومي الذي يشرف على أجهزة الأمن جميعًا – ويتبع قيادة الحزب الحاكم: حزب البعث العربي الاشتراكي – ما عدا المخابرات العسكرية؛ إذ فرض استقلاليتها وزير الدفاع اللواء حافظ الأسد. وكانت أصداء الصراع بينه وبين القائد الحزبي صلاح جديد، تتردد من دمشق إلى الرقة، منذ السنة الماضية. أطبقت المخابرات العسكرية على الإذاعة والتليفزيون، وعلى جريدة الثورة التي هاجمت وزير الدفاع. واستقال رئيس الدولة نور الدين الأتاسي، وعاد إلى بيته في حمص حتى عقد الحزب مؤتمرًا استثنائيًّا، وعاد رئيسًا.
حاشية: سُجن صلاح جديد منذ 1970م حتى وفاته 1993م، وسجن نور الدين الأتاسي من 1970 حتى قبيل وفاته 1992م.
وهذا كتاب «حرب العصابات» الذي يعلمك كيف تهزم العدو الصهيوني، ألّفه المقدم مصطفى طلاس، القيادي المناصر لحافظ الأسد. وها هو القائد الحزبي في الرقة المحامي الفلسطيني أحمد الشيخ قاسم يهزّ الكتاب في وجهك ووجوه من جمعهم من مثقفي المدينة في مكتبه، ويهدر وإصبعه تخترق اسم المؤلف: «هذا ليس كاتبًا، هذا جاسوس». وفجأة، في منتصف ليلة ليلاء، تزفّ إذاعة دمشق خبر انتخاب الرفيقين المحامي والمقدم في القيادة القطرية للحزب، أي في قيادة البلاد، فتقفز من السرير مكذبًا أذنيك، وتنسى أنك عريس، وتنظر إلى العروس مكذبًا عينيك.
الزواج خيال. السياسة خيال. وأنت، ما أنت ومن أنت؟
بارقة المسرح
هنا أفتح قوسين للمسرح، فأسارع إلى ما كانت تنعم عليّ به المجلة المصرية «المسرح»، وهي التي كانت قبل سنة «المسرح والسينما». كانت تلك المجلة لا تقرّب القاهرة وحدها إلى عيني وقلبي، بل كانت تجعلني أجالس، بفضل ما كتب صلاح عبدالصبور عن العنف والجنس في مسرح أرابال، نعم أجالس أرابال، وأجالس وول سوينكا بفضل ترجمة فريدة النقاش لمسرحيته «الطريق»، وأجالس بريخت بفضل من كتب عن مفهوم التغريب عنده، وبفضل من ترجم «الخطايا السبع للبورجوازي الصغير»: لعن الله النسيان.
وهذه هي التغطية الصحفية لمهرجان المسرح العربي في دمشق، كما كتبها بهاء طاهر، ومنها ما خص به من وصفه بـ:«الكاتب الموهوب المسرحي الشاب»، وهو سعد الله ونوس الذي عُرضت له في المهرجان مسرحيتان: «بائع الدبس الفقير» بإخراج رفيق الصبان، و«الفيل يا ملك الزمان» بإخراج علاء الدين كوكش، وكنت قد طرت من الرقة إلى دمشق لأشاهد هذه المسرحية التي كتب بهاء طاهر أنها، وشقيقتها، أعنف وأصرح احتجاج ضد السلطة وضد الجماهير معًا.
أخيولات
في غرفة الضيوف الصغيرة انتصبت الرفوف أطول منك، في هيئة خزانة، وامتلأت بالكتب، تتصدرها هدية صديقات العروس لكما في عرسكما: كتاب إلياس مرقص «الماركسية والشرق».
في الرف الأعلى بجوار ذلك الكتاب الضخم الذي علّمك الكثير، أوقفتَ ما اجتمع لك من كتب إلياس مرقص: «الماركسية في عصرنا» و«نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري»، وما زلت تزداد عُجبًا بالكاتب الشاب الذي لم تجرؤ على اللقاء به، مع أن اللاذقية لا تفتأ تجمعكما. وإذا كانت كتب إلياس مرقص تنفخ في روحك بالفكر النقدي ضد عبادة الفرد، فماذا فعل بك إذن كتاب صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني»؟ وماذا فعلت بك هذه الكتب التي تتراصف رفًّا فوق رف/ تحت رفّ: سارتر: الأيدي القذرة، دروس الحرية، الحزن العميق، وقف التنفيذ، كامو: الطاعون، سيمون دي بوفوار: قوة الأشياء…؟
الكتب خيال، المكتبة خيال، الماركسية خيال، الوجودية خيال، وأنت؟
نجماتي
كانت هديتك الأولى للعروس هي فِلْم «رجل وامرأة» الذي ستعود إلى مشاهدته وحدك، لعلك ترتوي، ولن ترتوي، من الأغنية (A man and woman). بفضل مجلتي «الكوكب» و«المسرح والسينما» ثانيًا، وبفضل دور السينما في الرقة أولًا، تجدد وتعمق تولّهي بنجمات السينما الإيطالية، وكان هذا التَّوَلُّهُ بالنجمات عامة قد بدأ في اللاذقية ولكن بفاتن حمامة. ومع بقائها في سويداء القلب منذ رأيتها أول مرة عام 1958م في سينما المشبكة في طرطوس، في فِلْم «طريق الأمل»، ها هي الرقة تبرق بجينا لولوبريجيدا في قميص إزميرالدا، من الفِلْم القديم «أحدب نوتردام»، وبقميص أدريانا من الفِلْم الجديد «امرأة من روما». أما ما زاد الفتنة افتتانًا فهو أن إزميرالدا قادمة من رواية فيكتور هوغو، وأدريانا قادمة من رواية ألبرتو مورافيا الذي ستحضر صوفيا لورين من روايته «امرأتان» بقميص سيزيرا.
هكذا ستظل روايات وأفلامٌ ننفخ من روحها في هذا الذي يتحول، أسرع فأسرع، من كائن من لحم ودم إلى كائن من خيال، مرة مع مارغريت ميتشيل في «ذهب مع الريح»، أي مع فيفيان لي في قميص سكارليت أوهارا، ومرة مع ليو تولستوي في «آنّا كارنينا»، أي مع غريتا غاربو في قميص آنا، ومرة مع تينسي وليامز في مسرحية «قطة على سقف من صفيح ساخن» أي مع قطة هوليود المدللة إليزابيث تايلور التي ما كان لي أن أبرأ من سحرها منذ حلّت في قميص كليوباترا. وهذه ريتا هيوارث تطيشني في فِلْم سالومي حين حلت في قميص سالومي، ورقصت الرقصة التي جعلتني أجزم أنّ ما من راقصة مثل ريتا هيوارث. لكني تهت بين الحزن عليها والشماتة بها حين شتمت الشعب المصري في باريس، فضربتها تحية كاريوكا بالشبشب على المنصّة، ونتفت شعرها.
في هذا الخضم خوّضت أيضًا مع رواية ألبرتو مورافيا «الاحتقار» وفتنة بريجيت باردو، وبلعت خوفي من أن يأتي يوم يكون لي فيه من عروسي الاحتقار الذي رمت به إميلي زوجها في الرواية/ الفِلْم. وخوّضت في رواية فرانسواز ساغان «هل تحبين برامز» وفتنة إنجريد برغمان. وما أكثرَ ما نغص عليَّ الحسد والعُجْب، فهذه فرانسواز ساغان تشرع سيجارتها، ولا أذكر أني رأيت من قبل امرأة تدخّن إلا عمتي نجاح، وأين؟ في القرية (البودي)! أما الأهم فهو أن هذه الكاتبة التي تكبرني بعشرة أعوام فقط، كانت قد أطاشت الألباب وهي في التاسعة عشرة بروايتها «صباح الخير أيها الحزن»، ولا يفتأ السؤال يسوطني كلما طاب له: ها أنت في الرابعة والعشرين، فماذا كتبت؟
بعد ساغان، ها هو روسيلليني، لا يكفيه أنه مخرج وشاعر ورسام وصحافي ومسرحي، كما تقول مجلة «المسرح والسينما»، بل هو أيضًا زوج إنجريد برغمان التي بدأ افتتاني بها بفِلْم «روما مدينة مفتوحة».
بهذا الزواج، وبتعدد مواهبه، كان روسيلليني يلهب غيرتي، ويستفزّ وعودي للمستقبل القريب. ومثل ذلك أيضًا كان يفعل بي ما علمت من أن بازوليني مفكر ومخرج وروائي ورسام ومسرحي وصحافي، ولم أكن قد رأيت له فِلْمًا. من الروايات العالمية التي أنجبت أفلامًا عالمية، ما أنجبت أيضًا أفلامًا عربية. ومن هذه ما كنت قد شاهدت الأجنبي من قبل، والعربي في الرقة 1969م. ولا أذكر أنني صادفت الحالتين معًا. وما أكثرَ ما ترجّحت بين السخط والإعجاب للمآل السينمائي العربي لرواية ما، كما في فِلْم «نهر الحب» المأخوذ من رواية «آنّا كارنينا»، على الرغم من تولّهي بفاتن حمامة، أو كما في فِلْم «الجريمة والعقاب» المأخوذ من رواية دوستويفسكي الشهيرة، على الرغم من تولّهي بماجدة منذ فِلْمها عن جميلة بوحيرد والثورة الجزائرية. وأظن أنه كان من النادر أنْ تفرّد الإعجاب بفِلْم من هذه الأرومة، كما في فِلْم «شهداء الغرام» المأخوذ من «روميو وجولييت»، ومن يسأل عن هذا الميل بالهوى، أشير عليه بأغنية ما لليلى مراد في هذا الفِلْم: يكفي بكا يا دموع العين. أو مين اللي يعطف على حالي.
نجومي
كيلا يبدو أن السينما كانت لي فقط روايةً ونجمة، ثمة أفلام لن أنساها لنجومٍ لن أنساهم، مثل: «أبي فوق الشجرة» وعبدالحليم حافظ الذي سميت باسمه شقيقًا لي سنة 1960م، وفِلْم «انتصار الشباب» للشقيقين أسمهان وفريد الأطرش، أو فِلْم «الزوجة الثانية» – من ينسى سعاد حسني؟ أو فِلْم «لورنس العرب»، وبالأخير أبدأ بالسلام على نجومي: عمر الشريف الذي شقّ له هذا الفِلْم دروب العالمية، أنطوني كوين، كلارك غيبل، غريغوري بيك.. أما الحسرة التي ستلازمني طويلًا فكانت على فِلْم «تشي» الذي قرأت أنه أُنجز للتو، وقام فيه عمر الشريف بدور تشي غيفارا، وكنت قد علّقت في زاوية مكتبي صورة صغيرة ملونة له، قصصتها من مجلة «آخر ساعة» من بين صور الشباب في مظاهرات السنة الماضية. وليس يخفى في تلك الذكريات جهلي بما يعنيه الإخراج أو السيناريو، على الرغم من أن اسم المخرج والسيناريست يظهران دومًا في أفيشات وفي تاترات الفِلْم.
أخيولات
من العازب إلى الزوج إلى الأب الذي ستكونه عما قريب، إلى الحكم بالإعدام على صلاح البيطار، تنطوي 1969م. قبل ست سنوات حملت شهادتيك الثانوية الصناعية والثانوية العامة (الفرع العلمي) وطرت إلى دمشق طمعًا بوظيفة. كان المحكوم عليه بالإعدام رئيسًا لمجلس الوزراء، فطرقتَ بابه، لكن الباب ظل مغلقًا حتى نصحك البواب مشفقًا عليك: اذهب إلى بيته بعد صلاة العشاء، وأرشدك إلى البيت القريب. لكن الشرطي الوحيد الذي يحرس الباب نصحك، مشفقًا عليك، بالعودة إلى اللاذقية، فالمحكوم عليه بالإعدام سافر إلى باريس.
الآن أنت تعلم أنه درس الفيزياء في باريس، وفيها التقى ميشيل عفلق. ولما عادا عملا مدرسَيْن كما تعمل الآن، ثم خطفتهما السياسة. وها هو الحزب الذي أسساه وحكم البلاد منذ ست سنوات ينفيهما، ثم يحكم على صلاح البيطار بالإعدام. ولأن الحكم غيابي، سيؤجَّل التنفيذ إلى أن يجري اغتياله في (21/7/1980م).
ختامًا
هذه رواية تنسيك فجأة السينما، والقراءة، والعروس التي تركتها تعد وحدها ما تبقى على ولادتها من أيام أو أسابيع. وكما يسرع إليك اسم ابنتك القادمة: مائسة –ادع كيلا تكون ذكرًا– يسرع إليك عنوان روايتك الأولى القادمة: ينداح الطوفان.
مائسة خيال، ينداح الطوفان خيال، وأنت كائن من خيال في عالم من خيال.
- عن الفيصل