* د. يوسف رحايمي
إذا لم يوجد الشغف بين الكاتب وقصته، فالغالب لن يوجد شغف بين القارئ والقصة، فالعلاقة تبادلية)، من هذا القول للكاتبة (إليف شافاق) (Elif Schfak)، والذي يُدرج في خانة (11) نصيحة في الكتابة، نبدأ فلسفة هذا المقال الذي يعاين أحدث روايات للكاتبة، والتي اختارت لها عنوان (10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب) تحت أفق (علاقة تبادلية) بين قارئ لنص متلهف للنقد، وكاتبة تحاول باستمرار بناء نسق روائي خاص بها، بدءاً من روايتها (قواعد العشق الأربعون)، وصولاً إلى هذا المنجز الروائي الذي فتح عوالم أخرى أثبتت فيه (شافاق) دور الكتابة في تغيير الواقع وقدرتها على التجول في مناطق محرمة إن صح التوصيف.
صدرت رواية (10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب) في نسختها الإنجليزية سنة (2019)، والتي رُشحت للقائمة القصيرة للمان بوكر البريطانية العام الماضي، وقد ترجمت إلى العربية في سنة (2020) عن دار الآداب ترجمة محمد درويش. تحكي فيها الكاتبة حياة بطلتها (ليلى تيكيلا) المرأة التي دفعتها الحياة إلى أن تكون غازية في مدينة إسطنبول، والتي قُتلت وأُلقي بجثتها في مصب قمامة لتبدأ من ذلك المكان سرد حياة كاملة بكل تفاصيلها. وكما عهدنا شافاق؛ تنتقل عدسة القص عندها إلى ما هو غير متوقع بالنسبة إلى القارئ، حيث نتفطن إلى أن عقل ليلى مايزال يشتغل بعد توقف قلبها، وهي غمزة أدبية بنتها شافاق على فرضية علمية تقول بأن المخّ يستمر في العمل لبضع دقائق بعد الوفاة، وتصل هذه المدة كأقصى تقدير إلى ما يقارب (12) دقيقة. في تلك الدقائق تبدأ بطلة الرواية (ليلى تيكيلا) باسترجاع لحظات حياتها من البدء، وصولاً إلى ما هي عليه، ومعها يبدأ قلم (شافاق) يمرر القضايا والتصورات، التي تتعلق بالواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، وإظهار الوجه الآخر لتركيا، أو نصف القمر المظلم كما أسمته، حيث تنكشف لنا عذابات الناس واللاجئين هناك، وتبث أمامنا مشاهد حية لليل إسطنبول الظالم.
حيث يُقال في محافل النقد الأدبي، إن العنوان علوانٌ يعلو النص، ويكشف عن ماهيته، إذ يُلقي بظلاله عما سيقال في المتن، فهو لم يعد مجرد زخرف من اللغة يزين به الكاتب مداخل معماره الكتابي، وإنما بات فلسفةً تشد ذائقة القارئ، وتُحدِث فيه نوعاً من الرجة النفسية التي تدعوه بالقوة إلى القراءة، ولهذا اعتنت به مدارس السرد والسيميوطيقا، وأعطاه الباحثون قيمة كبرى بوصفه طريقة من طرائق التأثير بالقول، وعتبة أولية تُهدي القارئ مفاتيح التفكيك والتأويل. ولعل الكاتبة (شافاق) إحدى هؤلاء الكتاب الذين اعتنوا بالعناوين في رواياتهم أو كتبهم. ويكفي أن نشير إلى عنوان هذه الرواية، التي هي مدار حديثنا في هذا المقال.
تبدأ غواية السرد من لعبة العنوان، الذي يظل في اعتقادي عربون وفاء، تقدمه الكاتبة للقارئ قبل أن يقرأ الرواية، فعنوان من قبيل (10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب) مستفز كعتبة أولية، أضف أنه يُقحمك منذ البداية في مسارح التأويل. وإن أنت اخترت الذهاب بعيداً مع الكاتبة، التي بنت عنوان روايتها وفق فرضية علمية، كما أشرنا في العنوان، فإنك ستجد نفسك أمام مفارقة عجيبة، فكيف لرواية تمتد على مساحة (1000) كلمة، أن تُسرد في لحظات معدودة اختزلتها الكاتبة في 10 دقائق و38 ثانية؟ ولعل هذه المفارقة العجيبة هي التي تجعل العنوان، وعلى خلاف بنائه العلمي، يشد ذائقة القارئ، لا سيما حين يكتشف تباعاً أنه يسيطر على هندسة الرواية، حيث ستجدها موزعة وفق الدقائق في عد تنازلي، تتسارع في الأحداث وتختزل فيه حياة امرأة بأكملها.
وبناءً على ذلك، فإن العنوان في هذه الرواية فتنة تهم بالقارئ، وتقفل عليه أبوابها، وهو لايزال يلامس ورقاتها الأولى، وهو كذلك يكشف عن الوجه الإبداعي للكاتبة، فهي التي تمتلك حساً عميقاً في نسج عوالم روايتها، وقد ألفنا منها ذلك في (قواعد العشق الأربعون)، وهذا في نظري مهم جداً في مسائل النقد الأدبي، فكلما كانت العناية بالعنوان شديدة، كانت نسبة نجاحها كبيرة. ففي مقالة لها، نُشرت في صحيفة (تليغراف) البريطانية، كتبت إليف شافاق (11) جملة من النصائح في طرائق الكتابة، ولعل من بين ما شدني في هذه النصائح قولها (الطريقة الوحيدة لتعلم الكتابة هي أن تكتب)، وأظن أن شافاق لديها موهبة عالية في اقتناص المسائل وبناء نسق روائي، على فكرة طريفة.
أما إن عرجنا إلى معمار الرواية، فنقول إنه لا شك في أن أولى المسائل التي يُوليها القارئ عناية بعد العنوان، هي هندستها وكيفية توزيع المسائل فيها عبر فصول تحكي الوقائع والأحداث. أما عن روايتنا هذه؛ فنحن أمام معمار طريف هندسته الكاتبة وفق أقسام ثلاثة تقريباً (العقل، الجسد، الروح) وهو توزيع في المسائل يخفي وراءه عقلاً ذا بعد فلسفي في قراءة المسائل.
داخل قسم العقل، يحدث أن يبدأ سرد الرواية من مكب قمامة، ويحدث أن يكون السارد جثة هامدة توقف قلبها عن الخفقان، ويحدث أن يتموقع العقل نائبَ فاعلٍ في فعل الحكي، فيقصي القلب للحظات بعد أن سيطر على أبجديات الإبداع الأدبي لفترات. هنا ستتجه عدسة القص إلى حياة البطلة (ليلى تيكيلا) عن بدايات ولعها الأولى طفلة ابنة لهارون من زوجة ثانية، التي ترفض تقريباً الاعتناء بها لتربيها امرأة ثانية، وفي ذلك الجو تهرب إلى إسطنبول لتجد نفسها هناك أمام معاناة أخرى، حيث يقع بيعها وتتعرف إلى أصدقاء جُدد هم (سنان) (نالان نوستالجيا)، (زينب 122)، (جميلة)، (هيميرا)، وهؤلاء هم من سيبحثون عن جثمان ليلى في مقبرة المنسيين ودفنها بشكل يليق بها. هذا القسم احتوى كل الدقائق التي كانت تتعلق بليلى، والطريف هنا أن عقلها الذي يشتغل في دقائقه الأخيرة نشطٌ يستحضر كل التفاصيل. أما القسم الثاني من الرواية؛ فهو بعنوان الجسد، الذي اعتنت به شافاق بما بذله أصدقاء ليلى في سبيل دفنها، وهنا طرحت الكاتبة فكرة الصداقة الحقيقية، في حين يبقى قسم الروح امتحاناً للقارئ الذي لا بد له أن يتم الورقات الأخيرة، حتى يعثر على مبتغى القص الذي لا نريد إعدامه في هذا السياق.
لقد عرّت (شافاق) في هذه الرواية الوجه الآخر لتركيا، حيث رسمت لنا اجتماع أصدقاء جمعتهم المأساة الواحدة، مأساة المجتمع القاسي. وقد كشفت لنا حياة الأقليات المضطهدة، وسلطت الضوء على الناس الفارين من أوطانهم، مثل صديقتها الإفريقية، طمعاً في حياة آمنة في إسطنبول، التي لم تكن إلا جهنم على الأرض بالنسبة إليها. في الرواية ستجد نصيباً من الأحداث السياسية بعيدة الزمن، تعود إلى فترة الستينيات، فضلاً عن قضايا تتعلق بالمرأة، يضيق بها المقام لسردها كلها، وتبقى في الأخير الكتابة وحدها التي تستطيع تسليط الضوء على هذه الأشياء.
-
عن الشارقة الثقافية