نورة بنعلي
تقع (تستور) في منطقة جميلة من ولاية (باجة) التونسية في الشمال الغربي (٦٧) كم عن العاصمة تونس، بين سلسلة من الجبال تسترها وتحيط بها، إضافة إلى وقوعها في منطقة خصبة تعج بالحدائق الغناء والمناطق الخضراء. وتزيدها جمالاً الأنهار الصغيرة ذات المياه العذبة والصالحة للشرب، فهي باختصار مدينة في القرن الحادي والعشرين، تعبق بأريج زمان الوصل في الأندلس.
(تاكيلا) أو (تستور).. توجد على ضفاف واد مجردة، أسّسها اللّوبيون وشيدوها على أطلال مدينة رومانية، هي تاكيلا أو تشيلا ومعناها بالبربرية الأرض الخصبة.
حافظت البلدة على هذا الاسم عقوداً من الزمن، إلى أن انتقل إليها المهاجرون الإسبان للعيش فيها مع الأمازيغ المسلمين والجالية اليهودية. فأطلقوا عليها اسم (تازاتور)، تازا وتعني (الآداء)، و(تور) أي البرج العالي، والذي يعلق عليه جرس ويشبه القلعة، ومعناها الكامل قلعة المعطاء. وازدهرت في العصر الفينيقي أيّما ازدهار، وتعتبر أضخم المدن التي أسّسها الأندلسيون وأشهرها بعد أن استقروا بها في أواخر القرن السادس عشر. فتحت تلك المدينة ذراعيها واحتضنتهم، وفيها حافظوا على تقاليدهم، فعاد بريقها من جديد.
الأندلسيون المورسكيون، هم السكان المسلمون الذين حاولوا البقاء في الأندلس بعد سقوط غرناطة، لكن الملك الإسباني فيليب الثالث قام بطردهم بالقوة، فجاؤوا من قشتالة، وأراغون الواقعة في الشطر المسيحي لبلاد الإيبار وبنوا تستور.
تستور.. ومن تاريخها المورسكي الأندلسي تستمد صيتها، من تاريخها ومعمارها وحضارتها وصناعتها وفنونها وحرفها يفوح عبق الأندلس.. هذا العبق الذي نستنشقه من تجوالنا في ساحة رحيبة في مقاهيها وأسواقها وفي الحارة، حيث استقامت الأنهج وسطحت المنازل بالقرميد المحلي وبيوت عربية منفتحة على صحن تتوسطه شجرة النارنج معبرة عن ذوقهم. لم يغيّر الإسبان من لغتهم إلا بعد نصف قرن، لكنهم ظلوا محافظين على عاداتهم وتقاليدهم، حيث كانت مصارعة الثيران والحفلات الإسبانية التي تلاشت مع الوقت، لكن ترسخت عادات أكلهم أكثر، مثل (الكيسالس) التي تسجل حضورها بشهر رمضان وتتفرد بها المدينة.
تستور أو تاكيلا، نعترف من أوّل وهلة أنها تختلف عن بقية المدن والقرى التونسية، فهي خليط من المنازل المطلية بالجير الأبيض، وتختلط بلون الأسمنت والقرميد، لكن عندما تلج أنهجها تعترف بأن المكان مختلف، وإن كانت الملاحظة الأولى أنّ المدن لا تكتمل.. فالمدينة لم تمسها التطورات الحديثة بحيث حافظت على طابعها الأندلسي، فمآذن المساجد تشبه الأبراج المسيحية، وسقوف مبانيها مغطاة بالقرميد الأخضر الإسباني، وطرقها على نمط قطعة الشطرنج.
وبرغم الحنين إلى وطنهم الأم، كان المورسكيون حدثاً لافتاً في تاريخ (تستور)، حيث جلبوا معهم فنون الزراعة الأندلسية، وزرعوا أشجار الزيتون والرمان والحوامض التي كانت تذكرهم بموطنهم بغرناطة وقصر الحمراء. ولعل الزائر لتستور، يشعر بأنّ هناك بصمات لاتزال موجودة حتى الآن لمدينة أندلسية على أرض تونس، فالتقنية الأندلسية المتقدمة في مجال الفلاحة، وخاصة (الناعورة)، جعلت من هذه المدينة الأندلسية التونسية منطقة فلاحية. وأنت تتجول في (تستور) تعترضك أشجار النارنج في الطريق، وفي الحدائق وفي المنازل يجمعها الأهالي ليقطروا منها ماء الزهر ويخزنوها لتصبح أساس الدواء ومذاق الأكل وعبق العطر. وفي الطريق المؤدية إلى حقول الرمان الغناء بين الجبال الخضر ورائحة العشب الفواحة، تعترضك العربات المستعدة لحمل الخير الوفير من الثمر. الرمان في (تستور) كرمان الساقية المعجزة في حدائق قصر الحمراء في غرناطة والمؤدية إلى فناء الرياحين.
يخزن أهل (تستور) الرمان بحباته وقشوره، فالرمان هنا له قصة أخرى؛ أوَلمْ تكن غرناطة هي الذكرى والحنين؟ فالرمان اشتهرت بزراعته مدينة غرناطة، واستعملته كشعار لها إلى الآن، كما سماه الرومانيون أيضاً (بونيكومالوم) أي ثقافة قرطاج. وهكذا تتلاقى قرطاج بغرناطة.
وعلى أرض تاكيلا، أو مدينة تستور، تحتفي المدينة بتظاهرة ثقافية مميّزة، وهي (مهرجان الرمان) الذي دارت فعالياته من (13 إلى 17) أكتوبر الماضي، حيث قامت جمعية صيانة مدينة تستور والاتحاد المحلي للفلاحين ومندوبية الفلاحة بباجة، فضلاً عن بلدية تستور، بتنظيم المهرجان للتراث والتواصل والجذور.
وتزخر مدينة تستور بالطاقات والمخزون الثقافي والسياحي الذي يجعل منها بيئة خصبة لتعدد التظاهرات بجميع أنواعها، والتي يمكنها خلق حركية ثقافية دون الاقتصار على المهرجان الدولي للمالوف، الذي بلغ دورته الخمسين هذه السنة.
بكثير من الحنين؛ يتقن الحرفيون بتستور العديد من الإبداعات التي تستمد صورها من نقوش جدران قصر الحمراء وقصر جنة العريش، نجد هنا تلك الروح الهادئة البعيدة المتلونة بأطياف الوطن.
ومساجد تستور مميزة بأشكالها الهندسية وبتفرد زخارفها، ومن أهمّها وأولها الجامع الكبير الذي بني سنة (١٦٣٠)، وساعة (تستور) من أندر الحكايات التي تتردد هنا، وهي حديث الأجيال، والتي عادت إلى الدوران العكسي بعد توقفها لسنوات. هي ساعة تدور عكس الدوران العادي، ومرقمة ترقيماً معاكساً.. ربما هي تعبر عن رغبة الأندلسيين الذين استقروا بالبلاد التونسية في العودة إلى الزمن الماضي، وسرّ هذه الساعة التي تتوسط الجامع الكبير، أنّ الأندلسيين كلّما أتقنوا عملا، خشوا عليه من العين والحسد، فيعمدون لتشويه جزء منه كي لا يصيبه سوء.
من يزر (تستور) لا بدّ أن يمرّ عبر الحمامات القديمة أو ما تبقى منها هنا، ثم تعترضك الأعمدة العالية والأسقف المقرمدة واستقامة الأنهج، وكلّها تؤدي إلى الجوامع.
وتستور هي حكاية مأساة لما بعد غرناطة، شملهم الظلم بعد أن ضيعوا الفردوس، غرناطة أو غراناتة، والتي قد يكون معناها (تل الغرباء)، هي فردوسهم المفقود، فاختاروا قطعة من الأرض المعطاء، لتكون قطعة من الفردوس المنشود، أو هكذا كان التفاؤل.
- عن الشارقة الثقافية