المكان الذي يتراصّ به الغرقى

نصيف الناصري *

1

يقولون أن الهَدف مِن سَعْيكِ الى فَتح رِتاج الزَمن عنوة، هو انَّكِ لا ترغبينَ بالاقلاع عَن ارتداء الألبسة الحائلة.
المواظبة على تفحّص جصّ القَبر قَبل الموت، ضرورة تقتضيها عدالة مرض الانسان،
والآلهة لا تنشغل بتأمين لوازم المائدة.
رَّفراف الطائر يشبه الشهاب وليست كُلّ
أرض صالحة للنوم، وفي الطبيعة أشياء كثيرة ضارَّة وتُدمّر المأوى.
أظهَرتْ لنا السنوات الكيفية التي نتفادى
فيها التخمينات غير الصائبة، والمُستقبل يغري بالدنوّ مِن النهاية ويُحفِّزنا على أن نتمّ مراسم الرحلة الى ما
لا عودة منه. شبكة دبقة يشقّها الليل الى نصفين، نعبرها بتوجّس ونحيا أيَّامنا
بلا شهيَّة لفتنة الموت.

2

تضاعفت أعداد القبور في أرضنا، والذي لم
توافه منيَّته، يجهد ليحصل على اتصال بالرب. المُبَرَّأ مِن ضَربة الصاعقة، يستميل الأذى لزيادة صحّته،
والكثير مِن الذين عرفتهم يُسرِّعون حَركة السهم لئلا تفارق أرواحهم الأبدان.
حصدنا القمح بعد أن خرقنا الهدنة
مع الأطبّاء، ولم نتلقَّ أيّ إطراء مِن الأسياد.
لماذا التحلَّي بالصبر والشهامة، وكُلّ ما لا
نفع فيه. يُسيّجُ الهاوية القذرة لحيواتنا؟

3

تتمسَّك الروح بالغصن والمقبض القصير للأيَّام، لكنّ إنماء المرء لسخطه وتبرّمه
مِن أرتال الألم التي تعبر مِن فوقه ساعة
القيلولة. يُجرّده مِن كُلّ امكانية للظفر
بكرامته. في العالم حجارة محفورة
لذرّيّة المَيت، ولا تنفع الخبرة في تجنّب الدود حين يشرع بغزل صوف
الجيفة. للموتى كما للأحياء
شظايا الرماد التي تتساقط فوقهم،
وليس في قُدرة أحد
ما الاسهام برفع كُتَل النفاية
ومواجهة الظلمة الشاملة. تتفتَّتُ الذرَّات الفتية للزَمن، وينسبُ الينا الذين رحلوا
وتركوا مباضعهم، الرضى بالخلود.

4

ليس في مرارة الحنظل وحلاوة العسل اعجوبة،
نَهر العُمر يعاني اللدغة المُتكرّرة مِن أفعى أيَّام المرض القائظة. البعض يتَّفق مع الذين
يعودون مِن التخوم، ولا يظهرون ميولهم في النجاة مِن الغرق، الى التجديف على شِيَم الآلهة. احتوت البشرية الأعشاش الصغيرة
للسخط الدائم مِن الذين تُسمّيهم الفُضلاء،
وشرعت مِن غير عمد تقتنص الغربان وتحيا في الزمهرير. يتطلَّبُ الحفاظ
على الارث ارتياد الأرض المُتضرّرة للقبور.

5

يَتقوَّضُ لدى الزُرَّاع الأمل
أثناء نزول الأمطار، وأغلبهم، يفقدون الرغبة في الاسترداد
مِن الزمن ما ينبغي أن يُسْتَردّ. هل يجب الاستمرار في ترك الأشجار تُقصفُ ولا أحد يغادر الأبنية المُتشظّية؟
الدفء أثناء الظهيرة علامة شؤم، وروح الميت التي يضطرّها الغبار الى ملاقاة
الصقيع. موَقَّرة في كبحها لغبطة الخلاص مِن الشراك. الشعوب تركضُ في البراري
ولا تلتفت الى ما هو جدير بالبقاء، والحرص على اقتفاء آثار الذين غيَّبهم الضوء
العميق لزمردة الفناء.
يقتصرُ على الغَرقى وعلى بعض
الذين احتاجوا الى مراعاة الحركَة.

6

عَبَر السَهم وأدركتُ قيمة البُعد عَن الشيء غير
المرغوب برفقته. كان جَهْلي بما يفرضه عليّ
حلول روح الميت في بَدني، قَد أقنعني بتقبّل
نصيبي مِن حَياتي التي أمضيتها أردم الحُفَر.
مَن يصل الى أرض الآبار القاحلة، يَفوته أن
ينتسب الى الذين يمضغون الحجارة طوال
أيَّامهم بَين صدى التقرّحات اللامُتمهّلة، والآن بَعد أن تخلَّيتُ عَن كُلّ ميولي في ترصّد ما كنت أظنُّ فيه الخير.
أحاولُ الاستجابة الى نداء ما تذمَّرتُ منه على الدوام. الزَمن- الصدع، يخلو مِن الكثافة
المطلوبة للعَيش. يسارع الغَريب الى اطفاء
بذرة مرضه اللهَّابة، ويموت بلا قيمة في
أرض يتلاشى فيها الغُفران.

7

نزلتُ التلّ وفي يدي كِمادة أحاول أن أضعها على الجبهة المحمومة لأخي الانسان.
كُلّ ما يُوضَع على الأرض مِن قبل الآلهة، شرٌّ وتتعاقب عليه النفاية.
تبنَّي الخصام الدائم مَع
الثمرة المُدلاَّة فوق جثَّة الميت،
يضمن للحيّ الحفاظ على حقله وكفنه.
أكثر مِن وتد علَّقنا فيه القنديل الحرّ للوقت وأحصينا عدد مَن ماتوا مِنّا، لكنّ اختلاف
طرق الفناء في كُلّ العصور.
حَرمت الذين تشبَّثوا
بالبقاء الأغطية الضرورية
لتجنّب البَرد في العالم.

8

أزمان مُحتدمة ولا ملجأ فيها للذي يحاول أن يروّي غليله مِن أثداء الآبار. ينفجر بَين
رمل الشاطىء وبين رمل الصحراء، حقل القمح الذي يحتشد فيه أهل العرس.
لماذا تودّ القبور امتلاكنا قبل أوان نضج الثمرة؟ لا تتقدَّم الينا الشرور إلاَ ترضية
للتجمّدات الدائمة في سكون الطبيعة، أحلامنا
مُغلَّفة بمظاريف مغشوشة ولا أحد بوسعه
النوم بعيداً عَن الذين يتجافون حجارة
البركان. أثقلني العوسج العليل لحياتي
وتقدَّمتُ الى الله، أطالب باستحقاقي
مِن قسمتي في الإساءة إليّ، طوال كَدحي بَين
المعازل المتصدّعة للمجذومين.

9

واقفاً أمام المرآة أتشاور مَع الشَبح
في داخلي، والعشبة العفنة تكبر في وجهي. كمَّية لا بأس بها مِن الألم أشعر فيها وأتحمَّل الوطأة الثقيلة لِلَفح السَّموم. لو كُنتُ أمتلك ثَروة أو بعض رؤوس الماشية، لِما ارتكبتُ
الفحش في أوَّل صلاة لي الى مرضعتي.
تتضوَّعُ أكثر مِن نبتة سامَّة في الحُفرة،
ويتمّ اغرائي بعد أن أفرغت حَياتي
مِن الدموع للنزول بلا خشية
مِن الطعم الباهت لعالم ما بَعد فرو الشمس.

10
أشارت إليّ حين غطستُ في البحر، كما لو
انّني كومة ملح على الساحل. وصفتُ لها
المكان الذي يتراصّ فيه الغرقى، فتملَّكها
الاحساس بوفرة النِعَم الإلهية على كُلّ مَن
ارتضى حياة الغَرق. شَجرة مثقلة بالنجوم
أهزّها فتنقلع مِن مكانها وأهجس انّها تتبرَّمُ
مِن الذي يزدريها. بعد أن وصلتُ الى احدى
الجزر، جمعتُ الحَصْباء ورميتُ بها الأمواج
المدوّية. صَحَّ عندي أن التظاهر بالغرق أكثر
جدوى مِن الغرق نفسه. هي وأنا انطبقَ علينا
المثل، عاريان غريقان لا يخجلان مِن طريقة
غرقهما.

11
ظننتُ أنّ بامكاني عدم التدنس مِن ملاحقة الطريدة، وكانت حساباتي مغلوطة.
أعنتُ المحتضر على لملمة أغراضه وأخبرته
أن يسلمها طواعية الى ورثته.
رفض التعجيل بترك ما جناه في حياته ولم أجرؤ على مماحكته بأشياء سوقية.
يلقى الغريب حتفه مِن دون نشدان معاضدة الاخوة والأبناء.
صعدتُ الجبل في الليل ورأيت الطرائد نائمة تحت الأشجار. اعتبرتها اخوتي البشر.

12
سخرتُ مِن مصائر البَشَر ومِن ميولهم الى غَزْل الصوف، لتدفئة الأنصال التي تضربهم
بها حَياة الضنك. كُلّ هالك يختار الوضعيَّة الغريبة في رمي نفسه بالحُفرة قبل هلاكه،
وليس لهُ الحيلة للخلاص
مِن الدود الذي يدأبُ على الافتراء عليه.
تجهلُ الآلهة ما يحلّ بِنا حين تقذفنا في
فوهة البركان، والانسان لا يفلح في سعيه
الى نيل ثمرة تعبه المزدانة بالغبار.
اشاعة الأمل في نفوس الذين نصادفهم
يحتطبون في الأحراش، فعل يخلو مِن
الشهامة. اهمال شأن التمائم وطرد
الساحر والمُنجّم، عامل قوَّة ويستحيل
فيه الرجوع مِن درب الدموع المؤتلقة.

13
فاجأني السهم وكُنتُ أريد الاخلاد للراحة.
أمضيتُ النهار كلّه أحفر في ذاتي ولم
أتحمَّل رائحة التراب. تبادل المنفعة مع
الذين تأكَّدوا مِن خلودهم، يحتاج الى
مداولات والجنازات مباركة في عالم
يكتنفه الرياء. العرَّافات العجَّز استسلمنَ
للتقليد وما عاد بامكانهنَّ التكهّن تحت
الشمس اللهَّابة. خفنَ مِن الزمن وازداد
نفورهنَّ منه. تحتَّمَ عليّ الذهاب الى ما
وراء العالم، ولم أكُن أتوقَّع النكبة الفظيعة.
يتسارعُ الشرّ ويسبقُ الذين توفَّوا قبل
أوان نضج الثمرة، واقتياد الأضحية
للذبح بالقوَّة. لا ينتفعُ فيه المذبوح منذ
الأزل.

14
ردَّتني عَن الذهاب الى العَمَل صاعقة
استحوذت على كُلّ ما جنيته في حياتي،
وكُنتُ أظنُّ أنّ ما زرعته في
طريقه الى النماء.
الموت له الأسبقيَّة على الميلاد وما يتشدَّد
في مسايرته للفاني.
الشقاء المُفعم بعذوبة الزوال.
أبلغتُ إلهي بدنو أجلي فنزل مِن كوكب
وناولني شظية برق، تتيحُ لي العودة
الى منزلي بعد الموت.
ادَّعيتُ المرض على
الدوام وكُنتُ لا أريد التزلّف الى أحد،
ولا أن أتدنَّسُ في تقبّلي النصيحة السخيفة

15
يتهرَّبون مِن اذاعة أخبار سخطهم وتذمّرهم
مِن ضرب الشهب لغلتهم الفقيرة، وأرض
العالم ليست خصبة طوال العصور. الطوفان
القادم تتعالى داخله الانفجارات، والمتبع
لدى البشرية عند حدوث الزلزال. التحديق
بلا أمل في الكارثة. وثيقة مزوَّرة قدَّمتها
الى الذين عبروا النهر وسرتُ معهم أتوجَّس
مِن تباهيهم في فضائل الجرح.

16
فئات غفيرة تشمئزُّ مِن ما تتعاطاه مَعَ آلهتها، وتعجز عن فهم نوع الألم وتوءمه المرض.
كان سفري الدائم في الأرض، تميمة أتغافل
فيها عَن لحظة قدوم موتي،
وكُنتُ أبحثُ عَن
الحجارة القهَّارة التي سأدفن تحتها.
وُلِدَ معي شبيهي وتعقَّبته الطرائد.
أنا نفسي
طريدة وليست لي صلة بالغير.
كُلّ ما رغبتُ فيه لم يمكث معي
وسارع يهرول مع غبار الزمن.

  • شاعر من العراق يقيم في السويد

  • ( عن مجلة نزوى – سلطنة عمان )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *