*إبراهيم عبد المجيد
قلت كثيرا أني حين انتهي من كتابة رواية أشعر بأني في فراغ هائل وعدم . كنت املأه أيام الشباب بالنزول إلي المقاهي وغيرها في جلسات الكتاب الصاخبة، وشيئا فشيئا أدرك أن حولي ما يستحق التأمل والمشاركة ، حتي ابدأ في رواية جديدة تأخذني إلي الوطن! لكن ماذا أفعل وقد أخذ سعيد الكفراوي برحيله كل الأوطان . هكذا داهمني الإحساس ولا يزال رغم قناعتي بأن الموت حق علينا، ولا نجاة لنا منه مهما بدونا مقبلين علي الدنيا ولدينا فيها الأمل . كيف استعيد نسمات الهواء التي مرت علينا في كل البلاد وعطر الكلمات . كم صفحة أريدها لتمتلئ بهذا العطر وتلك النسمات. آلاف الصفحات لا تكفي واحتاج عمرا جديدا لكتابتها . كان كل همي في الشهر الماضي أن انتهي من طبع كتابي ” الأيام الحلوة فقط ” الذي صدّرته باهداء ألي سعيد الكفراوي صديق العمر الجميل، والذي شغل منه أكبر مساحة بين الأصدقاء، وأن أذهب إليه به . أخرجه وأخرجني من حوارنا بالهاتف الذي ينتهي ببكائي وهو يطلب مني أن أدعو له بسرعة الرحيل . تنفطر دموعي وأدعو له بطول البقاء ويردد ” عايز امشي يا ابراهيم ” وأردد ” حتفضل معانا ياسعيد ” كاتما بكائي حتي لا يشعر به. ما الذي فعله فينا سعيد ليتحول الفيسبوك وتويتر إلي مراثٍ حزينة . خليل النعيمي يتساءل كيف ستكون القاهرة من بعدك ياسعيد ، وجبار ياسين يرسل لي رسالة رثاء يعزيني في فقد سعيد الكفرواي قائلا ” محمد برادة أخبرني هذا الصباح برحيل سعيد الكفراوي. محزن حقا . لكن ريح الحياة والموت أقوي من إرادتنا . ليرقد الموتي في سلام. يرحل عنا سعيدا بعيدا إلي وادي الفراق. لاعودة من هناك غير أحلامه وذكرياتنا. يرحل في خفقة عين قبل الشتاء، فالطفل سعيد يخشي بلل المطر. سيروي قصصا تُضحك الموتي، تخفف عنهم ضيق الأرض قبل النشور. حزين سبت هذا اليوم من تشرين ” وأنا أرد ” وأي حزن ياجبار ” وتوقفني دموعي عن الاستطراد .
اما ربيعة ريحان التي ظلت الشهور الأخيرة تهاتف زوجتي كل يوم إذا لم يرد سعيد علي مهاتفتها، وتطمئنها زوجتي أنه بخير، وأطمئنها أنا أن المشكلة فيما أصاب السمع فهو لا يسمع الرنين إلا صدفة إذا كان قريبا من الهاتف، أو كان معه ابنه حوريس. وينقذنا زين العابدين فؤاد القاطن علي الناصية الأخري من الشارع الذي يقطن فيه سعيد، فيذهب إليه ويصوره، ويحكي لنا كيف صمم سعيد ان يصنع له القهوة بيديه فتتسع الدينا. ربيعة ريحان انطلقت تبكي علي الهاتف فلقد امتدت محبة سعيد معها ومع زوجها عبر الزمن، كما امتدت محبته إلي كثير من الكتاب في كثير من البلدان، وأصدر اتحاد الكتاب المغربي بيانا يرثيه فيه أعظم رثاء. مكالمات تأتيني من السعودية من هاشم الجحدلي وعلي مكي وغيرهما، ورسائل منذ شهور من كتاب وكاتبات عرب لم أرهم منذ سنين طويلة جدا تطمئن علي سعيد وتطلب مني رقم هاتفه وأطمئنهم، ومكالمات من طالب الرفاعي من الكويت وطارق الطيب من النمسا وكثيرون من تونس ولبنان وغيرها من الدول العربية،ويقتلني عبده خال قائلا يرحل الأحباء فمن سيرثينا يا إبراهيم. لكن هكذا صرت أعيش مع سعيد، أنا الذي صارت عدم قدرتي علي الحركة تعزلني عنه مهما قربتنا الهواتف.
نجحت في إصدار الكتاب ليراه سعيد قبل أن يودعنا لأني كنت أعرف أن لهفته للرحيل ستتحقق. ليس لمعاناته من السرطان اللعين الذي فتك بالكبد، والتي يريد كل شخص أن ينتهي منها، لكن لأنه فقد منذ حوالي عامين قرينة روحه وحب عمره وحب عمرنا زوجته. السيدة “أحلام ” التي عاشت معه أيام الشقاء والكفاح، وظلت حارسة الله له ولولديه عمرو وحوريس، ولكل من يحبهم سعيد ويحبونه. وعلي عكس كل قناعاتي بالقدر رحل سعيد واتسع الفراغ حولي بالعدم . كنت أري علي وجهه في كل طلة منه خمسين سنة من المحبة والوداعة والرضا فصرت محروما من الوجه الحنون. في الفضاء حقا الذكريات سحب تمطر بالفرح لكن الوجه المحسوس لصاحبها صار خلف السحب. اؤمن بما كتبته لي الباحثة والأستاذة العظيمة داليا سعودي “بل تبقى “الأيام الحلوة” حتى و إن ولّت.. فقد كانت.. و تبقى ذكريات الضحك حتى و أن بللتها الدموع، و تبقى عزاءات اللحظات التي كان فيها. الأدب مبدداً للعدم و مقاوماً للفراغ البقاء لله الحي الذي يمدنا بمداد كلماته، و يضيء عتمة اللحظات الموحشة. فتصبّر يا أستاذنا وتجلد”
حقا أعرف أنه بإرادتي أو بغيرها ستمر الأيام، لكن من سيقفز بي فوقها لعام جديد الآن ، أنا الذي كنت اتصور أن الموت القابع وراء النافذة سيتأخر أياما في الدخول. كأنه كان ينتظر ذهابي إليه مع الأصدقاء عبد المنعم رمضان وصابر رشدي ورؤوف عبد الحميد لأهديه النسخة الأولي من الكتاب ويغلق القوس بعد أيام قليلة. ستهل مقالات النقاد والصحفيين الآن عن سعيد الكفراوي وعن أعماله القصصية، لكني لا أستطيع أن أفصل أعماله عنه هو لم يكن يكتبها بل كانت تكتبه. أكثر من عشر مجموعات قصصية، وعشرات الشخصيات كانت تجعله يري ما حوله لا يستحق الغضب،فهناك امكانية للرضا القادم من النزق. هو يري البشر كما كتب ويكتب، ومن ثم يبدو الجميع عنده شخصيات خارجة من كهف الأسرار، كما تخرج شخصياته، لا يشعرون بالغربة التي يعيشونها، ويرونها الحقيقة الإلهية، وإن شعر القارئ بغربتها وغرابتها وفتح له صدره وقلبه بالتحية والعجب. هذا تفسيري لصبره علي كل الموبقات التي تحاصر الكتاب من السلطات ومن متوسطي الموهبة وممن خلقوا علي الحقد والحسد. لم يكن وحده سعيد في هذا. يشاركه أربعة كتاب من محافظته ،المحلة الكبري، وهم محمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو وفريد أبو سعدة ونصر حامد ابو زيد. رحل نصر مبكرا ولم يعرف ذلك إلا من اقترب منه، والباقون معنا بعد رحيل سعيد أمد الله في عمرهم ومنحهم الصحة . دائما ما أفكر في هذا الرضا الذي علي وجوههم، وهذه البسمة التي لا تنقطع عن شفتي فريد أبو سعدة، وجار النبي الحلو الذي تتحول عنده البسمة إلي ضحكة أطفال في الفضاء. فكرت كثيرا أنهم خلقهم الله بيده، وترك مهمة خلق بقية البشر للإنسان الذي هو أقل قدرة. أعرف أنهم يتوحدون مع ما يكتبون ولايرون ماحولهم يسستحق القلق . ليس عالم القرية بما تستدعيه هذه المقولة من واقعية لكنه عالم العابرين عليها وبها. عالم الباحثين في المقابر عن عظام الموتي كأنهم سيعيدون تشكيلها. عالم المغرمين بالآثار وينامون معها هاربين من عصرهم . عالم الباحثين عن عالم سحري . وقبل ذلك سعيد نفسه الباحث عن لغة مختلفة تمتلئ بالعجب وهي تمسك بالحقائق فتجعهلها سحرا. عالم لبناء قصة متماسكة خالية من الاستطراد تفتح آفاقا من البهجة والألم . لماذا كان سعيد يبحث عن العابرين؟ هل لأنهم يلخصون رحلة الزمن والبشر أو لرضاه بما قدر له الله وقدرت الأيام . رحلت ياسعيد وأحاول أن أقنع نفسي أن الرحيل طبيعي وقدرنا جميعا، لكن الفضاء الذي يحمل الهواء النقي يطل عليّ مع وجهك البشوش يحاصرني بالألم، لأني أحدثك ولا تسمعني أنت الذي طالما أصغيت إلي واسمعتني الموسيقي والطرب .
- عن القدس العربي