قراءة في الخطاب الثقافي الفرنسي تجاه المُقدّس الإسلامي.

* د. محمّد حسني الشريف

يمكن مقاربة ما يجري اليوم في شأن النبي العظيم سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم على النحو التالي :

أولا: ثمة مغالطة كبيرة في مقارنة الخطاب السيا-فلسفي المنبعِث من الرئيس الفرنسي في مقابل رد الفعل والخطاب الشعبي سواء من القاتلين أو من عموم المسلمين، إذ أن الخطاب الأول تكمن خطورته في أنه ١. يصدر من جهة سياسية عُليا تُمثّل موقف أمّتها ٢. يهاجم “ماهية” الإسلام وليس تطبيقاته أو السلوك الاجتماعي لمعتنقيه، بمعنى أنه يدعو للتصدّي للإسلام من حيث أنه دين “رديء” في خطاب يغلب عليه التقعيد الفلسفي، وهو ما أشار إليه الدكتور فهمي جدعان في مقالته بهذا الشأن مؤكدا أن الخلفية المعرفية ل “ماكرون” هي خلفية فلسفية قبل أن يلتحق بركب “آل روتشيلد” الكرام. وبالتالي فإن مقاربة هذا الخطاب بالخطاب الشعبي بغض النظر عن شكل هذا الأخير ابتداءً من القتل إلى المقاطعة أو أي صورة من صور التعبير هو مغالطة كبيرة و أظن أنها جزء من الأهداف المرجوة للمسألة برمتها، وليس من الضرورة إفراد مزيد من الكلمات في تبيان المنطلقات والآليات والنتائج التي يستند إليها الخطاب الشعبي في مقابل تلك التي يستند إليها الخطابان السياسي والفلسفي، وبالتالي فقضية “الشيوخ أيضا يحرضوا على الكفار على المنابر” ليس لها محل من الإعراب، وكذلك تحميل فعل “القاتل” للإسلام وليس إلى السلوك الجُرمي أو إلى الخطاب الشعبي هو في ذات المنطقة من الاستغفال.

ثانيا: واستنادا إلى أولا؛ فإن ثمة جدل فلسفي دائم بمدى صحة تحميل “تطبيقات النظرية” إلى النظرية نفسها، دون اعتبارات لتأويلاتها المحتملة، هل يمكننا تحميل الإسلام من حيث هو “ماهية” مسؤولية الأفعال الداعشية، وإن كانت الإجابة بنعم؛ فهل يمكننا تحميل الحروب الصليبية إلى المسيحية؟ أو تحميل الحركة النازية للفلسفة النيتشوية؟ أو تحميل الكولونية في القرنين التاسع عشر والعشرين للحداثة الأوروبية؟ بالمناسبة الإجابة ليست محسومة بنفس الكيفية والمقدار، وإنما تعتمد على بُنية النظرية ومفاهيمها الأولية الكبرى، لكنني أستطيع القول أن الفعل الإجرامي وغير الإنساني ليس في بُنية أي من الأديان أو الفلسفات الكبرى، وإلا لما كانت أديان أو فلسفات، إذ إن “الإنسان” هو موضوع الدين والفلسفة، ونفعه شرطهما.

محمد حسني الشريف

ثالثا: واستنادا إلى الأوّلَين؛ فإننا بصدد إشكالية أخرى مُلخّصة بالسؤال التالي: إلى أي مدى نستطيع إقامة مفاهيم إنسانية عامّة دون الارتقاء من موقف ثقافي مُحدّد؟ وبكلمات أخرى؛ هل نستطيع تعميم ما نتج في بيئة ثقافية محدّدة ليكون مرجعية للإنسانية عامّة؟ هل تستطيع “فرنسا” ومن خلفها أوروبا تقديم مفهوم إنساني كمفهوم “حرية التعبير” استنادا إلى ثقافتها وتجربتها، ومن ثمّ تعميمه كمفهوم “مقدّس” لا يُمَس، حتى لو مسّت تعبيرات هذا المفهوم مُقدّس الآخر؟ في المقابل؛ هل تستطيع ثقافة؛ كالثقافة العربية المحمّلة بالعروبة والإسلام إنتاج مفاهيم إنسانية وإلزامها الآخر وهي تستند إلى بيئة ثقافية محدّدة، إن كانت الإجابة بنعم على السؤالين السّابقين، فنحن بحاجة لفهم الكيفية والحدود.

رابعا: لابد من ملاحظة أن الوعي الأوروبي المعاصر ينطلق من مناطق متباينة تماما عن الوعي العربي الإسلامي، أو ما يُسمّيه آركون ب”التواصل المستحيل”، فحرية التعبير مثلا أو حرية المُعتقد لا تتقعّدا في الوعي الأوروبي استنادا إلى موقف رافض للدّين، وإنما من موقف مُشتبِك مع فكرة “المُقدّس والمُدنّس”، -(إلا إذا تعلّق الموضوع بالمقدّس السياسي- الهولوكوست أنموذجا)- فالوعي الأوروبي وفي سياق سعيه إلى قطيعة معرفية مع ماضيه القريب “الكَنسي” قد أرسى ركائز تهدِم كل ما يقيم بناءً تقديسيا أو تدنيسيا، وصولا حتى إلى نسف المفاهيم “الحداثية” الكبرى بما فيها “العقلنة”، حيث تجاوزها إلى أطروحات “ما بعد الحداثة”، وبالتالي أمست “السيولة” بضاعة رائجة، وبرأيي هذا جزء رئيسي من المشكلة، فالممارسة الثقافية “الأبوية” الاستكبارية التي يرنو الغرب إلى تصديرها إلى الشعوب الأخرى بوصفها “وصفات جاهزة” هي في حقيقتها وصفات جاهزة لبيئته، وقد حلّت مشكلات تتعلّق به، بل الأبشع أنه في بعض الأحيان يسعى إلى تصدير المشكلة، وهي أساسا غير موجودة عند الآخر، ومن ثمّ تصدير حلّها الجاهز، “فصل الدّين عن الدّولة” أنموذجا، متى كان عند العرب المسلمين سلطة كهنوتية؟

خامسا: “فرنسا” تعيش أزمة حادة تتعلّق بامتداداتها الثقافية الخارجية، ويمكن رصد هذا في نفوذها المتهلهل في مستعمراتها السابقة، وثمة مثالان واضحان مرتبطان بالجزائر ولبنان، الجزائر التي اضطرت فرنسا لإعادة بعض جماجم شهدائها بعد أن أفرجت عنهم من “متاحفها الإنسانية” للتحليق للجزائر الجديدة المُفترضة، ليبقى لديها بضع آلاف جمجمة أخرى “مختنقة” بالحرية الفرنسية، ولبنان الذي ذهب إليه ماكرون “باراشوتيا” كبطل وسيم، فقالت له مقاوَمَتُه: “كيفك إنتَ؟!”، وبالتالي فهذه “الجعجعة” تقع أيضا بإطار محاولة فرنسا التذكير بأنها البوابة “الجنوبية” الحامية للثقافة الأوروبية.

سادسا: سيدنا النبي عظيم رحيم، قبل أن تعرف أوروبا معنى هاتين المفردتين، وإنساني جدا قبل “نيتشة”، وخُلُقه عظيم قبل تأسيسيات “كانط”، السّطور خوّانة في وصفه، واللغات ركيكة في مدحه…

فامدح كما شئت فهو الفذ مرتبة وليس فوقه إلا الله فافتهم

 

  • باحث وأكاديمي من الأردن

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *