محمدالغزي *
إلى التي رحلت قبل صياح الدّيك
بعد كلّ وداع جديدٍ
يأخُذُ الرّاحلون شيئًا من أكبادِنا ، شيئا منْ أنْفاسِنا ، شيئًا منْ أعْمَارِنا ثمّ يمضُون ويتركونَنا أجْسَادا خاوية إلاّ من هذا الحنينِ الذي لنْ ينطفئَ على تعاقبِ السّنين.
بعد كلّ وداع جديدٍ
يُصبح الرّاحلون أدْنى إليْنا من الأحْياءِ ، يُصبحون أعْلقَ بالنّفْس ، أنَّى نذْهبْ نشمّ أصواتَهُم ، ونسمعْ روائحَهم ونبصرْ وقْعَ خُطاهم.
يخرجُون من التّرابِ ، ينْبثقونَ معَ الأعْشاب ،ينْحدرُون منَ الأشجار ، ينْهمرُون مع الأمطار ، يأتُون مع كلّ نجمٍ جديد..
بعد كلّ وداع جديدٍ
نستفيقُ كلَّ صباح على وقْع أقدامِهمْ ، وضوضاءِ أصْواتِهمْ وضجيجِ ضحكاتِهم .. وضيئينَ كالنّيازك يقتحمُون بيوتنا،رهيفينَ كالسّكاكين ، وديعين كالمهرّجين..
بعد كلّ وداع جديدٍ
يأتي الرّاحلُون جميلينَ كما تركْناهُم آخرَ مرّةٍ . لمْ تخْبُ نارُ عيونهم ، رغم تعاقب السّنواتِ ، ولا نضارةُ وجوههم. كالآلهةِ يأتُون لا شيبَ يخِط شعورَهم ، ولا تجاعيدَ تُغضّنُ وجوهَهم ..لكأنْ ما ودّعوا وكأنْ ما غادرُوا .
بعد كلّ وداع جديدٍ
نبْكي ، ثمّ نجفّفُ دموعَنا ضاحِكين ، ونمْضي ننتظرُهُمْ ، ومتى تأخّرُوا خرجنا نبحثُ عنهمْ ، ثمّ نعودُ إلى البيت مذعُورين ، ونبْقى ، في برْد وحدتنا ، نتبادلُ النظرات… مخافة ألاّ يأتُوا.
بعد كلّ وداع جديد
نتساءلُ ماذا تكونُ صباحاتُنا لو تخلّى عنّا موتانا ؟ وكيفَ تكون أرواحُنا المجروحة ؟ وهذه الأيّامُ التي نجرْجرُها خلفنا ثقيلة ؟..
بعد كلّ وداع جديدٍ
نهتفُ في وحدتنا ، عُودُوا إلينا فنحْن معْطوبُون منْ دُونكم ، مكسُورون ، مرتجفون برْدا ، ممتلئُون وحْشة ..
سوف أوصي
سَوْفَ أوصِي بها العشْبَ والليْلَ والنجْمةَ الرّاجفهْ
سَوْفَ أوصِي بها الغيْمَ والماء والطيْرَ
سوْفَ أقولُ : أحِطنَ بِهَا ،
فهْيَ لمْ تعْرفِ الموْتَ منْ قبْلُ ،
فاعْذرْنَها إنْ هيَ استوْحَشتْ
واعْترَتْها ، إذا دَخلتْ ، رجفةُ الخوْفِ..
سرْنَ إذنْ معَها فِي الظلامِ
وأسْندْنها عندمَا تتَعَثّرُ
وامْسَحْنَ دمْعتَها حينَ تبْكِي
فأرْهَفُ من قطرة الماءِ سيّدتِي
وأشفُّ من الضّوْءِ
يا إخوتي الطيْرَ والعُشبَ والغيْمَ
ليل المقابرِ سوْفَ يكونُ طويلا
فآمنَّها إنْ تملّكَهَا الخوْفُ ،
دثّرْنَها إنْ هيَ ارْتجفتْ ،
وانحنيْنَ عليها إذا هيَ حنّتْ وعاجلها الدّمعُ…
يا إخوتي الطيرَ والماءَ والعشب
لا تتحدّثْنَ، إنْ هيَ جاءتْ ،عن الموْتِ
فهْي تخافُ
تخافُ من الموْتِ سيّدتي
وتخافُ من اللّيْل والصّمْت .
يا إخوتِي الطيرَ والعشبَ والماءَ
جاءتْ إليكنّ هذا الصباحَ متوّجةً بطفُولتِها
ووداعتِها
فأحطن بها حين ننْفَضُّ عنها وأسْعفْنَ غرْبتَها
فهْي ما فتئتْ تتلفًّتُ سيّدتي
ربّما نَسِيتْ ، قبْلَ أنْ تتْركَ البيْتَ ، أنْ تُوصِيَ الأهلَ
بالعشُب المتسلّقِ في بيتِها
بدُمَاها التي خبَّأتْها ،
بسِوارِ الطفولةِ تحْتَ وِسَادتِها .
إخوتي الطيْرَ والماءَ والعشبَ
رافقْن في بلدِ الصّمْتِ سيّدتِي
لا تدعْن الغريبةَ تمْضِي إليه بمفْردِها
قُدْن خطواتِها حينَ يلتبسُ الليلُ ،
صاحبْنهَا في البلادِ التي لم يَعُدْ من منازلِها أحدٌ
إخوتي الطيرَ والماءَ والعُشبَ
عمّا قريبٍ سيأخُذُها النّوْمُ بعد ليالٍ من السُّهْدِ ،
خفّفْنَ يا إخْوتي الوطءَ ،
وامْضيْنَ بين الدّرُوب على مَهَلٍ
فالأميرةُ مرْهقةٌ بعْدَ أنْ أوْجعتْها الحياة ُ
وأثخنَها العمْرُ
فاغْضُضْن منْ صَوْتكنّ
تمَهّلنَ في السّيْر
هاهي ألقتْ على رُكبة الأرضِ ، من تعَبٍ ، رأسَها..
إخوتي الطيرَ والعُشبَ والماءَ
كنّ لها ، حين ننْفضُّ ، حضْنا دفيئا
وكنّ لها ، حين ننْأى ، يدًا حانيهْ
لنْ
لنْ أعِدَّ حقيبتكَ اليومَ قبل الرّحيلْ
لنْ أزرّرَ، خوْفَ الصّقيع ، قميصَكَ
لنْ أتقفّى خُطاكْ
وحْدكَ الآنَ تمْضي
ووحْدك أنت ستقطعُ تلك الطريقَ الطويلة حتّى النهاية ،
وحْدك أنتَ ستمْضي ولا أحدٌ سيلوّحُ بين الحُشود إليك
ولا أحدٌ سوْف يطوي بدِفْء يديْهِ يديْكْ
سوف تمْضي ولا أحدٌ سوْف يدْعُو
مُحمّدُ.. عُدْ ،
ودّع البحْرَ ، ألقِ عنك المجاذيفَ ، لا تُصْغ ثانية لنواخذة الماء من طوّحُوا بك حتى مدائن صُور ، وأرض ظفار
ودّع البحرَ ، حسبك ما قد ذرفْتَ من السَّنوات الطويلات
ما بين قيظ الصّحارى ورمْل الجزيره..
يا محمّدُ لسْت المُوكّلَ بالأرْض تذرعُها
فاترُكِ البحرَ وارْجعْ..فقد دبَغتْ وجْهًك الشّمسُ
والموجُ شتّت صحْبك حتى بُحور جواذر..
قلْ ما الذي أنت منتظرٌ بعد هذا ؟
إذنْ لنْ أودّعك اليومَ …لنْ أتحسّسَ وجْهكَ.. لنْ أتلمّسَ قبل الرّحيل يديك ولن أذرفَ الدّمعَ حين تغادرُ ،
وحْدك أنت ستقْطعُ كلّ الطريق
ووحْدك أنت ستمْضي تجرجرُ خلفك كل خساراتك السابقات
وذكرى قوافلَ ساختْ قوائمُها في الرّمال
وطيف رفاقٍ قضوْا في الجبال البعيده
الذئب
حينَ ترصّدَها الذئْبُ عَدَتْ خائفة ،
هيَ تعرفُ أنّ مخالبَهُ مازالتْ تقطرُ
من دمِ إخوتِها كان تخطّفَهُمْ قرْبَ البئر ،
وتعرِفُ أنّ ثيابَهمُو مازالتْ مِزقًا في البريّة ..
قدْ أخْطأها مرّاتٍ
لكنْ تعْرفُ أنَّ الذئْبَ المترصِّدَ لنْ يَنْسَى…
ألهذا جفلتْ مثل مهاةٍ حينَ ترصّدَها ؟
ألهذا ارْتجفتْ
ومضَتْ في الأرْضِ تقلِّبُ عينيْها الوَاسعتيْن..وتلهثُ خائفةً :
– قدْ يأتِي من يدْفعُه عنّي..
قد تسمعُ سابلةُ الغابةِ وقعَ خُطايْ.
نظرَتْ :
لا شيْءَ سوى قطعانٍ من عنزٍ جبليٍّ
لا شيْءَ سوَى الرّيح ..
عَدتْ ثانية وهْي تمنِّي النفْسَ وتنظرُ
إلى أنْ خذلتْها رجْلاهَا
فتهاوتْ
نظرتْ بعيونٍ وجْلى : لا أحدٌ صدَّ الذئبَ…
ولا أحدٌ مدَّ لها يدَهُ
لمْ تزورَّ من الرّعْبِ ولمْ تجْأرْ بالشّكوى
بل سقطتْ فوْق الرّمْل
لتذعنَ مُسْتسْلمة لنواجذهِ …يتقاطرُ
منها دمُ إخوتِها..
الزائرة
لمْ تتعوّدْ بعْدُ على الموْتِ ، فحينَ يحلُّ اللّيلُ
وتلتبسُ الطّرقاتُ تعُودُ إلى منْزلها سيّدتي
لتُحدّثنِي عنْ غُربتها في أرْضٍ لا تعْرفُها
منْ قبلُ ،
وعن وحْدتها بينَ أناسٍ لم تألفْ
بعْدُ ملامحَهمْ ،
سيدتي لمْ تتعوّدْ بعدُ على الموْتِ
فإنْ جاءَ الليلُ وأقْفرتِ الطّرقاتُ
تعودُ إلى منْزلها
لتحدّثَني كيفَ بكتْ في ليلتها الأولى ،
بعد أن انفضَّ الأهلُ عن القبْر ،
وكيف تخطّفَها الشّوْقُ إلى دُولابٍ كانتْ
جمَعتْ فيه دُمَاها ،
والى رفٍّ كانت تركتْ فيه فساتينَ
طفولتها البيضاءَ
وكيف تعافتْ بعد الموْت ،
وكيف غَدتْ في القبر تنامُ ، إذا
نامتْ ، ملءَ العيْنيْن
فكلُّ جُروحِ الجسدِ التأمَتْ ..
واندملَ القلبُ .
تعود ُإذا حلّ الليلُ إلى منزلها سيدتي ،
وإذا همّ الضّوْءُ
وغاب القمرُ الطالع،
تستأذنُ في العوْد إلى وطن الصّمتِ
فتأخذُ بين يديْها الباردتيْن يَدي
وتحدّقُ في وجْهي ، ثم تودّعُني
لتغذّ إليه السّيرَ
وفيمَا كنْتُ ألوّحُ في غبَش الفجْر لسيّدتي
كان نشيجُ بكاها
يتجَاوَبُ في كلِّ الطرقات.
- شاعر من تونس
- عن نزوى