* محمد همّام
تذهب المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل إلى أن التصوف يعد أكبر تيار روحي في الأديان جميعها. وذكرت في كتابها الاستقصائي عن التصوف الإسلامي أن الفلسفة والعقل غير قادرين على الإحاطة بمفاهيم التصوف. وتبقى، في نظرها، بصيرة (القلب) الغنوصية هي القادرة على تجليتها. وذهب باحث آخر إلى أن مناقشة مرجعية التصوف الإسلامي في الهند وفارس والصين وفي المسيحية هو بحث في التصوف خارج تاريخيته وخارج خصوصيته التكوينية البنيوية. وسعى الباحث المتخصص في الدراسات الصوفية محمد حلمي عبدالوهاب، إلى نفي فكرة وقَرَتْ في عقول كثير من الباحثين، وهي أن التصوف ليس إلا أذواقًا وأحوالًا وألوانًا من الهذيان، وأن التصوف يمثل إحدى الانتكاسات الرجعية الكبرى في مسيرة الحضارة الإسلامية، كما سعى إلى دفع تهمة رد التصوف إلى أصول غير إسلامية، وهي نظرة المستشرقين في نظره.
وقد أثار التصوف الإسلامي جدلًا بين الباحثين من حيث أصالته وظيفته؛ فذهب فريق من الباحثين إلى التشكيك في أصالته، وربطه بالموروث الديني القديم، كما أدرج ذلك محمد عابد الجابري في مشروعه الفكري (نقد العقل العربي)، وشكك فريق آخر في وظيفة التصوف، ورآه أداة من أدوات تعطيل قوانين الطبيعة، بتعبير زكي نجيب محمود؛ فنظرة الشرقي، في جوهرها نظرة الفنان تمس الأشياء مباشرة بما يهز الوجدان بعيدًا من التحليل والتجريد اللذين هما هي من وظائف العقل المنطقي الصرف، وهو ما تجسد في الديانات الشرقية وهي خبرات ذاتية لا صيغ رياضية نظرية، فيكون بذلك التصوف منتوجًا خالصًا للعقلية المشرقية.
وفي المقابل، انبرى باحثون إلى دفع هذه التهم عن التصوف مصرين على أصالته العربية والإسلامية، وربط صعوده بقوة التحضر الإسلامي؛ وهو، في نظرهم، تعبير عن حالات روحية راقية، وحالات نفسية سامية، ومذاهب فلسفية ورؤى تنطوي على كثير من المبادئ والمعاني التي تنبني على منطق ليس أقل أهمية من منطق النظر العقلي المجرد. وهو، بذلك، المبحث الأخلاقي لفلسفة المسلمين، وهو مستمد من كتبهم ومرجعياتهم، ومن كسبهم وتجربتهم في الحياة. والتصوف، من قديم، كان موضوعًا للبحث، وكان موضوعًا للاشتباك بين المشروعات الفكرية، في الفكر العربي المعاصر، واشتد اليوم النقاش حوله في زمن انحسار النزعات الدوغمائية في قراءة الدين سلبًا أو إيجابًا؛ سواء كانت سلفية أو إلحادية، وهو ما يبرر راهنية البحث في النظام الفكري الصوفي اليوم وفي استعادة النقاش الفكري والمنهجي حوله في فكرنا المعاصر.
البحث في التصوف الإسلامي بحث عن الضمير
لا يمكن فصل البحث في التصوف اليوم، عن قضايا البحث في الدين، وكذا عن أطروحات راجت على لسان مفكرين ومؤرخين ودارسين متخصصين حول مستقبل الدين اليوم؛ فمؤرخ الأديان الألماني ماكس موللر، ادعى أن زمن الدين قد ولَّى، وأن الإيمان مجرد وهم أو مرض طفولي، وأنَّ اكتشاف الآلهة ليس إلا من اختراع البشر، وأنها فقدت من بعد رصيدها، في مقابل نظرة أخرى ترى الحاجة الملحاحة اليوم إلى التصوف لكونه حلقة في سلسلة العشق الإلهي، أو عشق الإنسان ربَّه، وعشقه الحقيقة المطلقة، وعشقه التعمق في روحه وذاته؛ فالمتصوف متدين وعابد وساجد بالحب وليس بالامتثال، وهو عمل بالوجدان وليس بالجوارح فحسب، وهو عمل في العمق وليس في الظاهر؛ يدرك ويتذوق ولا يرى ولا يلمس. ومما يعزز الرأي الأخير بروز أطروحات تتحدث عن عودة الدين بقوة إلى المجال العام اليوم، وتلتحم بأخرى آمنت من اليوم الأول بدور الدين في المجتمع.
لقد عاد النقاش حول الدين الذي عرفته الساحة الأوربية في القرون الماضية وما زالت، إلى الساحة الإسلامية، ببروز المشروعات الفكرية المهتمة بقراءة التراث. وقد احتلت الدراسات الصوفية مجالًا واسعًا في هذه النقاشات والأبحاث، وكان أحد محاور الأبحاث دراسة أصالة المنظومة الصوفية، ووظيفتها.
فعلي سامي النشار يرى التصوف بحثًا ميتافيزيقيًّا من جهة، وهو سلوك ينبني على الزهد من جهة ثانية، وهي الجهة التي تعني أصالته في الثقافة الإسلامية داخل ما يسميه بـ«ميتافيزيقا المسلمين» التي حدّدها القرآن والسنة. ولكن بحث فلاسفة المسلمين في ميتافيزيقا التصوف جعلهم ينفتحون على فلسفات ميتافيزيقية أخرى؛ مثل الفيدا الهندية والإشراقية الفارسية، كما استمدوا من الفيض الأفلوطيني، وتأثروا بأفلاطون وأرسطو، ووجدوا مصدرًا مهمًّا في المجموعات الهرمسية، وانتهوا إلى عقائد ميتافيزقية مختلفة؛ مثل الخلود ووحدة الوجود، وهو ما أسس حقلًا قائمًا بذاته في المجال التداولي الإسلامي هو (التصوف الفلسفي)، وهو ما أنكره (التصوف السني)؛ فالأول إذن بحث ميتافيزيقي، وهو موجود، يعارض الأساس العقدي للمسلمين، كما يذكر مؤرخ الفلسفة علي سامي النشار، والثاني يمثل الجانب الخلقي لدى المسلمين، ويمثل المجتمع الإسلامي من وجهة نظر خاصة؛ يمثل ثورة اجتماعية وسلوكية على الترف العقلي، ممثلا في التصوف الفلسفي وعلم الكلام، وضد الترف الاجتماعي والسلوكي متجسدًا في الطبقة العليا من أغنياء الدولة وكبار التجار. والتصوف السني الأصيل، في نظر علي سامي النشار، هو الذي اكتشف فكرة الضمير وقدمها للعالم، قبل أن يطورها الفكر الأخلاقي في أوربا والعالم اليوم.
ويبدو أن العودة إلى التصوف اليوم، من قبل الأفراد أو المجموعات أو الدول، في العالم العربي على الخصوص، هو نوع من البحث عن هذا الضمير الذي اختفى وراء النزعات الدينية السلفية والسياسية على السواء؛ نزعات تحول الدين بموجبها إلى ذخيرة أيديولوجية من أجل الصِّراع على السلطة والثروة في البلاد العربية اليوم، وهو ما نتج عنه كثير من الاضطراب والعنف وتعطيل مشروعات التنمية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
إن العودة إلى التصوف اليوم، بحثًا أو سلوكًا، هو عودة إلى «تدين ذاتي» بعيد من الأنساق التقليدية، والتوظيفات الأيديولوجية السياسية (الإسلام السياسي)، تدين ذاتي يلبي فيه الإنسان، والشباب على الخصوص، حاجاته الروحية الأساسية، من دون الانفصال عن المطالب الحياتية المعاصرة في التنمية والحريات الفردية ومتطلبات النقد والعقلانية.
وعليه، فالبحث في التصوف، له مبرراته الموضوعية والمعرفية والمنهجية، ويكاد يكون اليوم الملاذ الممكن والإطار المناسب للتأويل الديني عند الكثيرين؛ لهذا فالبحث في أصالته أو تأثره بالعنصر الأجنبي، هو دليل على محوريته في حياتنا الثقافية والاجتماعية اليوم. وكان مشروع محمد عابد الجابري أكثر المشروعات إثارة للجدل بخصوص دراسته التصوف في التراث العربي الإسلامي، وأدواره المعاصرة في حياتنا الثقافية والسياسية اليوم وتحت عنوان (نظام العرفان)، الذي يخترق كل مشروعه (نقد العقل العربي). وتستحق، في نظرنا، هذه الأطروحة البحثية التي قدمها الجابري أن تكون مجالًا لاختيار التصوف موضوعًا للبحث العلمي في الثقافة العربية المعاصرة.
التصوّف موضوعًا للبحث العلمي
يذهب الجابري في مشروعه (نقد العقل العربي) إلى أن (المعقولية) في السياق العربي تتحدد داخل (الكلام) القرآني من خلال جدلية (المعقول) و(اللامعقول) في خطابه. وتتلخص هذه (الجدلية) في الصِّراع بين (التوحيد) و(الشرك)، وهو صراع تاريخي عرفته البشرية منذ بدايتها؛ إذ يمثل الشرك، بمعنى تعدد الآلهة، (لا معقولًا) ينطوي على تناقض لا يقبله العقل. وفي هذا السياق يقدم القرآن رحلة الأنبياء على أنها كفاح من أجل نشر خطاب العقل ضد خطاب اللاعقل الذي يحمله خطاب الشرك. كما عد القرآن التحريف الذي مسَّ العقائد التي كانت موجودة قبله هو عودة إلى اللاعقل؛ فالذين ﴿اتخذوا أحبارهم (…) أربابًا من دون الله﴾ (التوبة: 29-30)، والذين قالوا: ﴿إن الله هو المسيح ابن مريم﴾ (المائدة: 17)، أو قالوا: ﴿إن الله ثالث ثلاثة﴾ (المائدة: 72)، يعبرون عن عودة إلى (اللاعقل).
وعليه عاد العرب، في نظر الجابري، إلى (اللاعقل)، بعودتهم إلى الوثنية، وهم حفدة النبي إبراهيم، واتخذوا الأصنام أربابًا يعبدونها. وواجههم القرآن بالجدال والحوار، وكان موضوع الجدل هو (اللامعقول)، من خلال اتخاذهم الوسطاء بينهم وبين الله؛ كواكب، أو تماثيل، أو أصنامًا. وكانت ديانة العرب، في نظره، نموذجًا (عاميًّا) لديانة قوم إبراهيم. من هنا كان استحضار الخطاب الحجاجي لإبراهيم في مواجهة قومه، مناسبة لمواجهة مشركي قريش، كما في البقرة: 170-171. ومن هنا يتجسد، في نظر الجابري، خطاب العقل في القرآن وهو يواجه خطاب اللاعقل بمنطق التجربة والعقل والأداة البيانية؛ كما في الآيات: الأنعام: 74-77، والبقرة: 189، ويونس: 5، والحج: 72، والأعراف: 191-194. كما واجه خطاب (العقل القرآني)، خطاب (اللاعقل)، في أسئلته وتحدياته؛ كما في الآيات: الإسراء: 59، والأنبياء: 68-71، وطه: 67-70، الدالة على الآيات والمعجزات. ومع ذلك قال اللاعقل، كما يحكي القرآن: ﴿يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ (البقرة: 55)، وكذلك حصل مع النبي محمدﷺ، كما تحكي الآيات: طه: 133، والحج: 46، ويوسف: 105؛ وقد تحداهم القرآن بقيمته الذاتية؛ كما في العنكبوت: 51-52، ويونس: 38.
لقد استند إذن القرآن، في صراعه مع اللاعقل، من منظور الجابري، على الكون ونظامه وعلى البيان. وكان هذا (اللامعقول) يجر معه قسطًا كبيرًا من الموروث القديم الذي عكسته بصورة عامية ديانة العرب المشركين الذين جادلهم القرآن. وسيبرز هذا الصراع بشكل كبير في الحركة العلمية وفي الصراعات السياسية بين المتكلمين والمروجين للموروث القديم قبل الإسلام، ومن بينهم المتصوفة في نظره. ويرى الجابري أن هذا الموروث، ومن ضمنه التصوف، غريب عن التجربة الإسلامية؛ فبالرغم من انفتاحها في العهد النبوي، لم تفرز عبر تطورها الذاتي، هذا التيار، أي التصوف، كما لم تفرز تلك التيارات الفكرية الإبستمولوجية والأيديولوجية التي سادت في عصر التدوين وبعده؛ أي أن الحقل المعرفي العربي لم يكن نموه خاضعًا لوتائر إمكانياته الداخلية وحدها، بل على ما استفاده من الموروث القديم الذي تسرب عبر (التضمين)؛ أي تضمين النص القرآني جزءًا أو أجزاءً من الموروث القديم عبر آلية (التأويل). بذلك تسرب إلى المجال التداولي الإسلامي الموروث القديم الذي ليس إلا خليطًا من العقائد والديانات والفلسفات والعلوم. واشتد الصّراع بين (العقل) أو المنطق الذاتي للثقافة العربية، وبين (اللاعقل) الوافد الأجنبي. وظل المعقول الديني، في نظر الجابري، سائدًا في الجزيرة العربية وفي شمال إفريقيا وفي الأندلس، كما كان حضوره في مصر قويًّا في زمن الخلافة الفاطمية، وظل الموروث القديم (اللاعقلي) في سوريا والعراق وإيران الكبرى يواصل حياته في بنية المعتقدات الدينية الجديدة التي جاء بها الإسلام، مستترًا أو من خلال تيارات فكرية وسياسية تخوض حروبها ضد (المعقول الديني)، البياني العربي، إلى أن دُمجت تحت عنوان واحد هو (الفكر الشيعي)، وما يرتبط به من مذاهب وتيارات باطنية كالتصوف والفلسفة الإشراقية.
إن التصوف إذن، ينتمي، في نظر الجابري، إلى مركب جيولوجي شكله الموروث القديم في الثقافة العربية الإسلامية. من هنا كرس الجابري جهوده، أو هكذا يشرح في مشروعه، إلى الجانب الإبستمولوجي في الموروث القديم؛ أي نظامه المعرفي، وكيف نظر ممثلو المعقول الديني إلى هذه التيارات، وكيف قدمت هذه التيارات نفسها للثقافة العربية الإسلامية، وما المواقع التي امتلكها هذا النظام المعرفي (نظام العرفان) داخل هذه الثقافة. وذهب الجابري يحفر في كتب التاريخ وكتب الملل والنحل وكتب الفهارس والطبقات وتصنيف العلوم، لاستخراج آليات هذا النظام المعرفي العرفاني؛ ليصل إلى أن هذا النظام المستند على الموروث القديم، بمكوناته المانوية والصابئة والأفلاطونية المحدثة، يقوم على ثنائية الإله: إله النور وإله الظلام، وعلى: التطهير الخلاص (المانوية)، والإله الذي لا يعلم الكون ولا يدبره (الهرمسية)، ووساطات يرجع إليها الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور (الصابئة)، وكل هذه المنطلقات تتوافق مع عناصر كثيرة من الأفلاطونية المحدثة. وكل هذا الموروث، بما فيه التصوف، ينتهي عند الجابري إلى القول بعجز العقل البشري عن تحصيل أية معرفة عن الله من خلال تدبير الكون؛ وهو ما يعني أن المعرفة الإنسانية للكون تكون عبر الاتصال المباشر بالحقيقة العليا وهي الله. إنه العقل المستقيل.
فالتصوف الإسلامي، عند الجابري، في الأخير، هو اللامعقول، وهو وافد على الثقافة العربية؛ وهو عقل مستقيل تغذيه تيارات فكرية وعقائدية أجنبية تلقفتها عقول فلسفية عربية مثل الفارابي وابن سينا وبنت لها إطارها النظري على قاعدة التصوف؛ من خلال الدمج بين الدين والفلسفة عند ابن سينا كإستراتيجية فارسية قديمة. من هنا رأى الجابري ابن سينا مسؤولًا عن زرع اللاعقلانية في العقل العربي الإسلامي، فكانت فلسفته تعبيرًا عن وعي قومي مهزوم ووعي أيديولوجي مقلوب، وهو أحد تجليات الوعي القومي الفارسي المهزوم.
استرجاع أصالة التصوف ووظيفته
تعرضت قراءة الجابري للتصوف الإسلامي لنقد عنيف من كتاب كثر؛ فطيب تيزيني يرى المشروع برمته نوعًا من الاستغراب المغربي يعيد سيرة الاستشراق الغربي. وعلى رغم التعابير المنفعلة التي عبر بها الأستاذ طيب تيزيني عن نقده لمشروع الجابري، يبقى نقده جديًّا ويفتح آفاق حوار فكري حول التراث ومنهجية التعامل معه. فقد جعل مهمة كتابه كما صرّح في مقدمته هي تعميق الحوار العلمي حول ذلك كله.
ويؤطر تيزيني كتابه عن الجابري ضمن أزمة شاملة يعيشها المثقف في السبعينيات؛ أهم عناصرها: انكسار المزاج الشعبي العام حيال المستقبل العربي، وشعور شعبي عمومي بخيبة الأمل، وبروز حالة تشكيك في التاريخ العربي، وتبلور بطيء لأجواء سوسيوثقافية وسيكولوجية لاستعادة المنظومة الأيديولوجية لـ«المركزية الأوربية». ولم يفت تيزيني أن يذكر بعض من تعرض بالنقد للجابري؛ ممَّن وصف مشروعه بأنه وجه مكرور من أوجه إشكالية قديمة، (محمد وقيدي)، أو هو دعوة إلى صياغة أنساق مغلقة، تفصح عن لا تاريخية فاضحة، (السيد يسن)، أو هو نوع من التصنيف الأكاديمي على أساس من مناهج غربية (أدونيس)، أو هو نوع من الممارسة التشطيرية مع التراث، (جورج طرابيشي)، أو من اتهم الجابري بسوء التصرف في النصوص، وفساد التعريف، وفساد التصور، والسقوط في التناقض، كما قال (طه عبدالرحمن).
ورغم إلحاح طيب تيزيني على أن نقاشه للجابري سيكون من الوجهة المنهجية؛ أي على «المنهج» كمشكلة منهجية، وعلى ما يتصل بذلك من مشكلات نظرية يراد لها أن تكون تطبيقًا لذلك المنهج، فسرعان ما سيناقش تيزيني الجابري في عقيدته (الأشعرية)؛ هل هي العقيدة ذاتها التي صاغتها المدرسة الأشعرية مع أبي الحسن الأشعري (توفي 324هـ)؟، وفي هذا السياق يرى تيزيني أن تصور الجابري يعاني قصورًا في فهم العلاقة بين الأنماط والبنيات الفكرية المتنوعة، وهو ما أسقط الجابري في الفصل بين ثلاثة قطاعات في الثقافة العربية هي: البيان والبرهان والعرفان، وهذا، في نظره، نوع من الوهم الأيديولوجي والسياسي والمعرفي، وهو ما يقتضي إخضاعه لمبضع تفكيكي جدلي تاريخي صارم. وهو الشيء الذي لم ينجزه تيزيني، في نظرنا، وبقي الجدل مع الجابري ذا طبيعة أيديولوجية أو فكرية على أحسن المحامل؛ جدلًا حول الهوية والثقافة العربية والاختراق الصهيوني وقضايا المثقف والسياسة والنهضة… وفيما يتعلق بموضوعنا، حول التصوف الإسلامي، في منظور الجابري، فإن الخلفية المنهجية للجابري في موضوع التأثير والتأثر يراها فوضوية، خصوصًا عندما يصف الجابري الحضارة العربية بأنها حضارة فقه، والحضارة اليونانية بأنها حضارة فلسفة.
ويرى تيزيني هذا نوعًا من المقارنة الميتافيزيقية المؤطرة ضمن (مركزوية) أوربية مشروطة بميتافيزيقا التماثل والتماهي بين مركز وأطراف. ويبدو أن نقد الجابري لكتاب تيزيني «من التراث إلى الثورة»، وما يسميه الجابري بـ«التواطؤ التاريخي»، خلق نفسًا سلبيًّا في الحوار بين المفكرين، فتحول من جانب تيزيني، إلى ردود سجالية وانفعالية، زاد من حدتها اعتماد الجابري ثنائية المشرق/ المغرب في التأريخ للثقافة العربية، وهو ما رآه تيزيني مقياسًا قطعيًّا دوغمائيًّا وميتا واقعي وكذلك جيوبوليتيكي عرقي!، بل هو تعبير عن وعي شقي وأيديولوجيا ثنائيات ميكانيكية!، واعترض تيزيني على هجوم الجابري على إخوان الصفا، وعلى ابن سينا، وعلى ربطهم بالغنوصية الهرمسية الظلامية.
محمد عابد الجابري
وقال: إن رأي الجابري يقوم على الانتقاء الذاتي والقصور المعرفي والتاريخي بنصوص إخوان الصفا وفلسفتهم. وقد قدّم جورج طرابيشي في مشروعه «نقد نقد العقل العربي»، دراسة تحليلية مستفيضة حول إخوان الصفا اعتراضًا على تحليلات الجابري وتصنيفاته؛ ويرى طرابيشي هذه التصنيفات مجموعة من الألغام، تحتاج إلى تفكيك؛ وإلا فهي حكم بالإعدام في حق قطاع كبير من الفكر العربي، أي التصوف، وفلسفة ابن سينا، وهي فضيحة معرفية، تستوجب الإشهار! وقد تتبع جورج طرابيشي منهجًا تجزيئيًّا في نقد الجابري يعتمد إعادة قراءة تاريخ الفلسفة العربية، والتدقيق في النصوص، وفي الأسماء، وفي التواريخ، وفي توثيق المعلومات. وكان كثير الاتهام للجابري من حيث أمانته العلمية، أو من حيث حقيقة اطلاعه على نصوص بعينها، أو من حيث وفاؤه للثقافة العربية، إلى درجة وصفه بـ«المستشرق الداخلي»، وأنه يعيد تأسيس مركزية سالبة تجاه الذات، مع اتهام بالحشو، وبأغلاط معرفية وتاريخية، مع تهجم سافر في بعض الأحيان على شخصه.
ووصف طرابيشي نزعة الجابري في قراءة التصوف الإسلامي بـ «الإبستمولوجيا الجغرافية»، وقدّم تحليلًا وافيًا لمقتضياتها من حيث العلاقة بين العقلانية اليونانية والإلهيات الشرقية، ونقد مراجع الجابري، وكذا فهمه لشخصية أفلوطين وفلسفته وتاريخه، وعلاقة أفلوطين بابن سينا، وحاور الجابري في مفهوم العقل المستقيل، ورآه مقالًا وليس مستقيلًا، مع نقد الجابري لتجاهله الدور المسيحي في تاريخ الفلسفة العربية. كما انتقد طرابيشي الجابري في عدِّه اللامعقول رافدًا خارجيًّا، لأنه بذلك يعطي الجابري براءة ذمة للعقل العربي الإسلامي؛ فتآكله لم يتم من الداخل ومن جراء تطور عضوي سالب، بل من الخارج، ومن جراء غزو اجتياحي من قبل اللامعقول المشرقي المصدر، فبدلًا من أن تكون وظيفة هذا المشروع نقدية فعلًا تصير محض وظيفة تطهيرية؛ وليس المطلوب من العقل العربي الإسلامي أن يراجع مقدماته وأن يخضع نفسه لنقد ذاتي، بل المطلوب منه أن يغتسل من جنابة اللامعقول المشرقي المصدر؛ أي من التصوف، والتوجه إلى المغرب في إطار ما يسميه طرابيشي: «تغريب العقل وتشريق اللا-عقل». والحقيقة أن نقاش طرابيشي للجابري أعمق من نقاش تيزيني، أمام الكم الهائل من المصادر والوثائق والمخطوطات التي اعتكف طرابيشي على دراستها ومقارنتها بما ورد في مشروع الجابري حول التصوف أو العقل المستقيل.
ولم يستطع هذا النقد، في نظرنا، على وجاهته وعمقه في كثير من الأحيان، المساس بصلابة أطروحة الجابري والآفاق البحثية والمنهجية والنقدية التي تفتحها للباحثين في التصوف الإسلامي، وهي سياقات تمدد اللاعقل في الثقافة العربية وتآكل العقلانية العربية. قد يكون الجابري كتب مشروعه في سياق يعاني شح المصادر والوثائق بين يديه، كما لم يستفد بما يلزم من منجزات العلوم الاجتماعية، خصوصًا في الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا وسوسيولوجيا الأفكار، في التعامل مع القضايا الفكرية والتصورية مثل (الأسطورة)؛ مما ذكره علي تركي ربيعو في رده على الجابري؛ إذ يرى أن الجابري احتكم إلى التجربة الأوربية وحدها في علاقتها بالمقدس، مع عدم الانتباه إلى أن الأسطورة، في ذاتها، هي تعبير طبيعي وتاريخي عن تفجرات المقدس في العالم، وليست بالضرورة تعبيرًا عن مغامرات العقل الأولى في آفاقه المحدودة. كما أنها ليست، بالضرورة، الأساس لنظام العرفان، أو اللامعقول المستند إلى رؤية هرمسية؛ إذ لو فهم الجابري، هذا، في نظر ربيعو، ما جعل من مهامه (الشاقة والمستحيلة) في مشروعه، إسقاط نظام العرفان، وإعادة بناء تأسيس البيان على البرهان؛ فكان المطلوب من الجابري عقل الظاهرة العرفانية، وليس نفيها أو العمل على التخلص منها. بل إن هذا المجهود الشاق الذي حمله الجابري أسقطه في نظر نقاده، تيزيني وطرابيشي وربيعو، في إضفاء هالة كبيرة على العقل الإغريقي الذي ميَّزه التفكير المجرد، وهو ما سماه طه عبدالرحمن، بـ(العقلانية المجردة) في مقابل (العقلانية المسددة) و(العقلانية المؤيدة)؛ وهي تراتبية، على كل حال، تجاوزتها الأبحاث الإثنولوجية والأنثروبولوجية، وتجاوزت بذلك طموحات ماركس عندما بشّر بهزيمة الميثولوجيا وآلهتها، أو تحليلات ماكس موللر عندما رأى الأسطورة مجرد مرض من أمراض اللغة؛ إذ ظل الرمز والأسطورة والغيب واللامعقول والمقدس حاضرين في الاجتماع البشري على صعيد المجتمعات البشرية. كما لم تكن الأداة البنيوية أو البنيوية التكوينية، السائدة في مجال الأنثروبولوجيا البنيوية والمستندة على الجيولوجيا والتحليل النفسي والماركسية، قادرة على الإلمام باللامعقول في مستوياته العميقة؛ وهو ما أكده كلود لفي شتراوس نفسه عند دراسته بنية الأسطورة؛ إذ رأى أن هناك غموضًا كبيرًا في نظريات دراستها، وهو ما أفقد مشروع الجابري بعض فاعليته التحليلية والتفسيرية.
كل هذا يبين أن كثيرًا من الظواهر الفكرية، مثل التصوف، ما زالت في حاجة إلى أبحاث إضافية وحديثة، مع الاستفادة من غنى العلوم الاجتماعية المعاصرة. فما قدمه الجابري، في نظرنا، يعد مجهودًا كبيرًا ومدخلًا منهجيًّا وإبستمولوجيًّا للأبحاث الجادة حول التصوف الإسلامي، رغم الملحوظات المسجلة على مخرجات تحليله والمفاهيم التفسيرية التي استند عليها، مع تسجيل غير قليل من المغامرة البحثية، وعدم الحذر في كثير من الأحكام والخلاصات، ولكن ذلك لا يسوغ اتهام الجابري بتكريس المركزية الغربية، أو السير في سرب الأبحاث الاستشراقية المتحيِّزة. مع أن الجابري نفسه تعرض بالنقد للتحيز الاستشراقي في تهميش طريق الفلسفة عبر الشرق؛ أي الإسكندرية ومدارس فلسطين وأنطاكية، وتجاهله المدارس الشرقية في العراق وفارس وخراسان، وانتقد أحد مصادره المهمة في مشروعه وهو فيستو جيير، وانتقد المنهج الفيلولوجي الاستشراقي. على الرغم من نقده الصريح للأبحاث الاستشراقية، فيصرّ تيزيني وطرابيشي وربيعو على اتهام الجابري بالمركزية الأوربية، والتماهي مع أطروحات رينان في: «الإسلام في التاريخ»، أو مع برنارد لويس في: «العرق واللون في الإسلام»، أو مقولات إي سنوبي حول (تأثير اللغة العربية على التركيب النفسي للعرب)، وهي أحكام قاسية وغير دقيقة وذات طبيعة اختزالية لمشروع علمي واسع.
خاتمة
عرف الفكر العربي المعاصر صراعًا حادًّا حول التصوف، أصالة ووظيفة؛ فالجابري يفسر التصوف بأنه هو اللامعقول، وهو المؤسس للعقل المستقيل في الثقافة العربية الإسلامية؛ إذ يرى أن الشيعة أول من (تهرمس في الإسلام)، وهو ما تجسد في فكرة الإمامية. وتسرب هذا الفكر الهرمسي إلى التصوف السني مع الجنيد وابن عربي، وهو ما مهَّد الطريق لاستقالة العقل العربي، وتكريس النظرة السحرية للعالم. والعرفان، في نظر الجابري، ذو نزعة هروبية إلى عالم الميثولوجيا المفلسة، وهو أدنى درجات الفاعلية العقلية، ويفتقد إلى المعطيات الذهنية الموضوعية، انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من الثقافات التي كانت سائدة قبل الإسلام في الشرق الأدنى، وبكيفية خاصة في مصر وسوريا وفلسطين والعراق، حاول تحليل أسسه المنهجية وإبراز معالمه الرئيسة للرؤية التي يكرسها، وهذا ما خلق سجالًا صاخبًا في الوسط الفكري العربي الإسلامي وما زال، خصوصًا عند مفكري الشام ممن شعروا بأن المشروع ينسبهم إلى مصادر ثقافية خارجية ويحملهم مسؤولية تدهور التفكير العقلاني في الفكر العربي والإسلامي. فتحول التصوف إلى مادة خصبة للبحث والنقد والاشتباك الفكري وما زال؛ هذا الاشتباك الذي سيبقى مفتوحًا لحاجة الواقع العربي اليوم إلى قواعد فكرية من أجل النهضة، وإلى مشروعات فكرية تغييرية، ليست بالضرورة تقوم على التشكيك في أصالة التصوف، أو الاستناد فقط إلى عقلانية ابن رشد السببية، والرافضة للتوسط، والمنحازة للمعقول على حساب اللامعقول.
-
عن مجلة الفيصل