طقوس الكتابة عند الأدباء

* وفيق صفوت مختار

قد يشير عنوان الكتاب إلى خلاصة الفكرة، أو قد يكون اختصاراً غير مكتمل لتلك الأحداث التي تدور بين صفحاته، وقد يكون مغايراً لكل ما في الكتاب، أو يعبر عن انسجامه وتناغمه مع المحتوى. إنها رحلة تبدو موازية لرحلة التأليف، قابلة للتغيير حتى اللحظة التي يغادر فيها المخطوط أدراج مؤلفه باتجاه المطبعة. 

المبدعون من الأدباء والشعراء كيف يتعاملون مع الزمن؟ وكيف يمارسون طقوسهم التي تحكم علاقتهم بعالم التأليف والإبداع؟ وكيف يتمّ لهم التغلُّب على العراقيل والصعوبات التي يواجهونها في تدبير الزمن أو ترويضه داخل محيطهم الاجتماعي والمهني؟ وما هي الحلول التي بدت لهم ناجعة للتخلُّص من ثقل الزمن وضغوط الحياة اليوميَّة؟

الأديب الياباني (هاروكي موراكامي) مواليد (1949م)، يستيقظ في الرابعة صباحاً عندما يكون بصدد كتابة رواية، ويعمل خمس ساعات متواصلة. في المساء يقرأ، يستمع للموسيقا، ثُمَّ يأوي إلى فراشه في التاسعة مساء. يقول: أتبع هذا الروتين كُلّ يوم بدون تنويع. يصبح التكرار، في حدِّ ذاته، هو الأهم، إنَّه شكل من أشكال التنويم المغناطيسي. أنوِّم نفسي لكي أبلغ حالة ذهنيَّة معمَّقة. كانت له عادات سيِّئة استطاع أن يُغيِّرها بشكلٍ كليّ، حيث انصرف للعيش مع زوجته في منطقةٍ ريفيةٍ، امتنع عن التدخين، ، كما أنَّه شرع في اتباع حمية غذائية تستند إلى كثرة الخضار والسَّمك. وانتظم، كذلك في ممارسة العدو يوميّاً. العيب الوحيد في هذا النظام الذي فرضه على نفسه، بحسب ما عبَّر عنه: هو أنَّه لا يسمح للمرء بممارسة حياة اجتماعية رحبة. يقول: (يغضب النَّاس على مَنْ يرفض دعواتهم المتكرِّرة، ولكن سوف يقبل قُرَّائي أي أسلوب حياة أختاره لنفسي، مادمت أحرص دائماً على أن يكون إبداعي الجديد أفضل من سابقه، وأن يكون هذا واجبي، وأولوية أولوياتي كروائي).

ويكتب الروائي الأمريكي (ستيفن كينغ) مواليد1947م في كُلِّ أيام السنة، باستثناء عيد ميلاده، وباقي الأعياد، وغالباً ما لا يسمح لنفسه بعدم إدراك حصَّة ألف كلمة يوميّاً، يعمل صباحاً ابتداء من الثامنة. في بعض الأيَّام ينتهي في وقتٍ مبكر، الحادية عشرة والنصف، لكن غالباً ما يستمرّ في عمله في حدود الساعة الواحدة والنصف حتى يُنجز مهمَّة الألف كلمة. بعد ذلك يظفر بمساءٍ حرّ، وليل من أجل الاستراحة، والرسائل، والقراءات، والأسرة.

وفي كتابه (بينما أكتب)، يقول كينغ: (كما غرفة نومك، تماماً، ينبغي لمكتبك أن يكون خاصّاً، مكان تلجأ إليه للحلم، أمَّا توقيتك ـ الذي يبدأ يوميّاً في نفس السَّاعة، تقريباً، وينتهي عندما تكتمل الألف كلمة على الورق أو القرص المدمج ـ فيوجد لكي يعوَّدك على الحلم، ويهيّئك له، بالطريقة نفسها التي يهيّئك فيها للنَّوم قبل الذهاب إلي الفراش في نفس السَّاعة، تقريباً، من كُلِّ ليلة، وممارسة نفس الطقس عندما تقوم به، من أجل الكتابة، ومن أجل النَّوم، نتعلَّم كيف نبقي ثابتين جسديّاً في نفس اللَّحظات التي نمنحها لعقولنا لكي نتحرَّر من التفكير العقلاني الرتيب لحرصنا اليومي).

ويؤكِّد الروائي والفيلسوف الإيطالي (أمبرتو إيكو) (1932- 2016م) أنَّه لا يتبع أي روتين لكي يكتب. ليس ثمَّة وجود لأية قاعدة. لقد قال في عام 2008م: من المستحيل بالنسبة إليَّ الحصول على توقيت مُعيَّن. قد يحدث أن أبدأ في السَّابعة صباحاً وأنتهي في الثالثة من صباح الغد، متوقفاً فقط من أجل تناول بعض الشطائر، وأحياناً لا أشعر برغبة في الكتابة، إطلاقاً. ومع ذلك أعترف أنَّ عاداته لم تكن دائماً متنوِّعة: إذا كنتُ في منزلي الريفيّ، عندئذ أتبع روتيناً مُعيناً، أطّلع على بريدي الإلكتروني، أشرع في قراءة شيء ما، ثُمَّ أكتب حتى حلول المساء. بعد ذلك أذهب إلى القرية، حيث أشرب شيئاً وأقرأ الصحف. أعود إلى البيت وأشاهد التلفزيون أو فيلماً إلى حدود الحادية عشرة ليلاً. ثُمَّ أعمل وقتاً إضافيّاً حتى الواحدة صباحاً أو الثانية. هناك أتَّبع روتيناً مُعيَّناً لأنَّه ليس ثمَّة وجود لما يقاطعني.

وتسجل يوميات الشاعرة الأمريكية (سيلفيا بلاث) (1932-1963م)، التي دوّنت وقائع الكاتبة، منذ أن كانت في الحادية عشرة من عُمْرها إلى رحيلها وهي في الثلاثين، أنَّها خاضت مقاومة حازمة طلباً لتوقيت مناسب من أجل كتابة مثمرة. كتبت مثلاً في يناير1959م: (من الآن، فلاحقاً، سوف أرى إن كان هنا ممكناً: ضبط المنبه على السَّابعة والنصف والاستيقاظ، متعبة أو غير متعبة. الانتهاء من الفطور بسرعة، ومن أشغال البيت في حدود الثامنة والنصف.. الشروع في الكتابة قبيل التاسعة،هذا يُبدِّد اللَّعنة).

لكن اللَّعنة لم تبدَّد أبداً، لوقتٍ طويل، على الرغم من محاولاتها الحازمة اقتطاع جزء من الوقت الثمين من أجل الكتابة. فقط قبيل نهاية حياتها، وبعد انفصالها عن زوجها الشاعر (تيد هاكس)، وعنايتها بطفليها الصَّغيرين، استطاعت (بلاث) أن تجد روتيناً قابلاً للتحقيق. كانت تتناول مهدئات من أجل أن تستطيع النَّوم، وعندما ينتهي مفعولها في حدود الخامسة صباحاً، كانت تستيقظ، وتشرع في الكتابة إلي أن يستيقظ الطفلان. اشتغلت على هذا المنوال خلال شهرين. وأخيراً، شعرت بأنَّها مسكونة بإبداعها، ومتحكمة في الفعل الإبداعي. كتبت لأُمّها في أكتوبر عام (1962م)، قبل أربعة أشهر من رحيلها: أنا كاتبة عبقرية، أملك الموهبة. أكتب الآن أجمل قصائد حياتي، هذه القصائد سوف تصنع لي اسماً.

لم توفق الشاعرة والأديبة الأمريكية (مارجريت آن جونسون)، وشهرتها (مايا أنجيلو) (1928-2014م)، أبداً، للكتابة بمنزلها، تقول حرصتُ على أن أجعل من مسكني فضاءً جميلاً جدّاً، ولم أوفق للعمل في فضاء جميل. إنَّه أمر يُحيِّرني. بالنتيجة ـ غالباً ـ ما عملت في حجرات الفنادق، وبقدر ما كانت مجهولة كان الحال أفضل. وقد وصفت (أنجيلو) روتينها، على الشكل الآتي: (اعتدت الاستيقاظ بحلول الخامسة والنصف، وفي السَّادسة أكون مُستعدّة لشرب القهوة بمعية زوجي. استأجرت غرفة في فندق لكي أنجز عملي: حجرة صغيرة ورخيصة بسرير واحد. أحتفظ في هذه الحجرة بقاموس، أوراق اللَّعب، أحرص على الوصول إلى الغرفة في حدود السَّابعة، وأعمل حتى الثانية مساء. إذا سار العمل بشكلٍ سيئ، أبقى إلى حدود الثانية عشرة والنصف. إذا سار بشكل جيد، أواصل عملي مادامت الأمور على مايُرام. إنَّه وضع منعزل ورائع. عندما أعود إلي البيت في الثانية، أعيد قراءة ما كتبت في ذلك اليَّوم، ثُمَّ أحاول ألَّا أعيد التفكير فيه من جديد. حتى إذا ما عاد زوجي نتناول العشاء معاً، قد أتلو على مسامعه، بعضاً ممَّا كتبت، وهو لا يُعلّق على شيء أبداً، لا ألتمس تعليق أحد على عملي، باستثناء ناشري، لكن سماعه بصوت مرتفع هو أمر جيد، قد يتبادر إلى تأجيل النظر فيه إلى الغد).

من أغلفة روايات المبدعينفي عام (1939م) قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، بدأ الكاتب الإنجليزي (جراهام جرين) (1904- 1991م) يقلق من إمكانية موته قبل أن يتمّ ما كان واثقاً بأنَّها ستمثل أعظم رواياته: (القوَّة والمجد)، ويترك زوجته وأبناءه عُرضة للفاقة. وهكذا بدأ في كتابات إحدى (ملاهيه) – أفلام رعب، وهي ميلودراميات تفتقد الفنِّ، لكنَّه كان يعرف جيّداً ما تدره عليه من أموال ـ بينما يستمر في تنقيح رائعته السردية.

ولكي يفلت من مشاغل الحياة المنزليَّة، استأجر مكتباً خاصّاً ظلّ عنوانه ورقم هاتفه مجهولين إلَّا بالنسبة إلى زوجته. هناك استطاع أن يلتزم توقيتاً متوازناً، فكان يُخصِّص الصباح لرواية التشويق: (العميل السرّي)، والمساء لرواية (القوَّة والمجد). ولمواجهة ضغط كتابة مؤلَّفين في وقتٍ واحد، كان. بفضل ذلك استطاع أن يكتب نحو ألفي كلمة خلال فترة الصباح فقط، مقارنة بالخمسمئة كلمة التي كان يكتبها في العادة. وهكذا وبعد ستة أسابيع، لا غير، كان انتهى من كتابة (العميل السرّي)، وأخذت طريقها إلى النشر، أمَّا (القوَّة والمجد)، فقد استغرقت أربعة أشهر إضافية لكي تكتمل.

ولم يحظ (جرين) بمثل هذه الإنتاجية خلال مسيرته الأدبيَّة كُلَّها، وبعد أن تجاوز الستين، اعترف أنَّه كان حريصاً على الخمسمئة كلمة يومياً، وأنَّه أصبح يقنع بالمئتين.

  • عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *