-
علي تركي الربيعو
على امتداد عقدين تقريباً، وبالأخص بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، كان مشهد الجماعات الإسلامية والجهادية قد بدأ بالتغير؛ وخلافاً لمشهد الثمانينيات والتسعينيات الإسلامي القاهري، وما عرفه هذا المشهد من مواجهاتٍ مع السلطة، واعتقالاتٍ، وعنفٍ شبه يومي؛ كانت غزوات نيويورك قد أخذت تلقي ظلالها على زوايا النظر، إذ كان قدوم الإسلام الجهادي المعولم، قد أفسح المجال لشكلٍ آخر من التعاطي، وأيضاً لظهور باحثين جدد في هذا الحقل.
ولسنوات طويلة، كان أي حديثٍ عن الإسلاميين أو الفكر الإسلامي، يعني تفضيلَ رأي الباحثين المصريين في هذا الجانب، وهو أمرٌ نجم بلا شك، من دينامية الواقع الإسلامي في مصر، بيد أنه ساهم بالمقابل في المبالغة أحياناً، وفي تهميش دراسة تجارب الجماعات الأخرى في العالم العربي، وهذا ما تنبه له إسحق وايزمن في سياق دراسته لخطابات عصر النهضة ورجالها؛ إذ لاحظَ مثلاً أنه في مقابل الاهتمام الكبير بكتابات محمد عبده، لا نعثر على اهتمامٍ موازٍ بأفكار باحثٍ إصلاحي كبير مثل جمال الدين القاسمي؛ ولذلك عندما جاءت الأحداث في السنوات الأخيرة، وتطورت لاحقاً مع ظهور زعاماتٍ أخرى داخل عالم الجهاديين، غير المصريين، مثل أبومصعب الزرقاوي، بدا من الضروري الاستعانة بخبرات باحثين محليين آخرين، واذكر هنا بالأخص الباحثين الأردنيين، من أمثال حسن أبو هنية، وياسر أبو هلالة وغيرهم ممن أخذوا يقدمون معرفة ومعطيات جديدةً حول واقع هؤلاء المقاتلين الجدد، ومسارات حياتهم، والتحولات التي مرّوا بها.
ولن يقتصرَ هذا التطور على بروز هؤلاء الخبراء الأردنيين، بل سرعان ما سيعبّر عن نفسه من خلال تشكل جماعة بحثية جديدة في الأردن، أخذت تقرأ بمهارة طبيعية المشهد الجهادي المعولم في المنطقة، والأهم من ذلك، أنها استطاعت أيضا الاقتراب من طبيعةَ الجهاديين الأردنيين، الذين كانت أعدادهم في ازديادٍ داخل العراق، ولعل من بين الأسماء البحثية التي ستبرز في هذه الفترة أيضاً، الباحث محمد أبو رمان؛ فبعد سنواتٍ من انشغاله في إعداد رسالته للدكتوراه حول «الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي» سيقرر مغادرةَ مكتبه نحو الميدان، الذي كان يغلي في الأردن، وفي المنطقة عموماً بعد أحداث الربيع العربي، وهنا سيعيد هذا الباحث النظرَ في أولوياته، وأيضاً في أدواته البحثية، عبر الاقتراب أكثر من فهم الجماعات الإسلامية ومواقفها من هذا التحول، وأيضاً اعتماد عدسات سوسيولوجية لفهم أسباب إقدام شباب من الأردن، على قطع طرقٍ خطيرة بين مدينة الزرقاء، والمناطق السنية العراقية للقتال هناك؛ كانت السلفية الجديدة، والتعبير هنا لأوليفيه روا، قد غدت مع فترة الثمانينيات أكثر استقطاباً للشارع، وحتى لأبناء الحركات الإسلامية الأم (الإخوان المسلمون)، ومع ولادة السوق الدينية الجديدة، التي بدت معالمها تظهر في عالمنا العربي، من خلال تطور وسائل التواصل الاجتماعي، وظهور الفضائيات الدينية، وحرب العراق 2003، بدا أن السلفيةَ الجهاديةَ تتحول إلى مركز استقطابٍ رئيسي في الأردن، وفي المنطقة عموماً، ولذلك سيرى أبو رمان، أنه لا بد من فهم حياة المتحولينَ الدينيين، من خلال كتابه «أنا سلفي»، ولن يقتصر الاهتمام هنا على عالم الرجال فقط، بل سيشمل أيضاً النساءَ (ظهر من خلال كتاب آخر له عن النساء في «داعش» بالتعاون مع شريكه البحثي حسن أبو هنية)، وربما ما يسجل لأبو رمان في هذه الفترة، قدرته على الانخراط في حيوات أبناء السلفية، وقراءة يومياتهم بعيداً عن الرواية أو السيناريو الأمني.
معراج بحثي
وكما ذكرنا، كانت جهود أبو رمان، وأبو هنية، وعبد العزيز الشتيوي، ومراد الشيشاني، ومروان شحادة، وصالح أبو طويلة، وغيرها من الأسماء، قد أخذت تثمر في ولادة جماعةٍ أردنيةٍ في حقل دراسات الجماعات الإسلامية؛ لكن يبدو أن هذه الجماعة لن تتوقفَ في السنوات المقبلة عند هذا الحد، فبالتوازي مع هذا الاهتمام، أخذ بعضهم يسلك دروبَ جماعاتٍ دينيةٍ أخرى، وهو ما يظهر جلياً من خلال الكتاب الأخير للباحث أبو رمان «أسرار الطريق الصوفي»، مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية؛ إذ سيعمل هذا الباحث الدؤوب، على تحدي النموذج السائد في دراسة الجماعات الدينية في الأردن والمنطقة عموماً؛ وأعني هنا التركيز على دراسة الجماعات الإسلامية وحسب، بدون الالتفات للجماعات الدينية الأخرى، وبالأخص جماعات العلماء؛ ولذلك نجده في هذا الكتاب يقترب من جهود باحثين سبقوه في هذا الشأن، كما في مثال مائير هاتينا الذي سيلاحظ في دراسته «خيانة رجال الدين»، بأن من الأخطاء التي وقعَ فيها كثيرٌ من الباحثين الغربيين، من أمثال برنارد لويس، وكيبل، وجون اسبوزيتو، وجون فول، أنهم لم يولوا أهميةً تذكر لدراسات جماعات الإسلام التقليدية (بوصفها جماعات باردة وكسولة)، مقارنةً بالإسلاميين الذين كانوا يقودونَ حركات الاحتجاج منذ الستينيات. وقد عبرت الانعطافة، نحو دراسة العلماء، عن نفسها في السنوات الأخيرة، كذلك من خلال عددٍ من الكتب مثل كتاب توماس بيريه حول العلماء في سوريا، أو كتاب الدنماركي جاكوب بيترسون حول إسلام العلماء والفتاوى في مصر، وأيضاً عبر دراسات الباحث الفلسطيني محمد العطاوي، عن العلماء في المملكة العربية السعودية؛ وربما ما سيشجع باحثنا على السير في هذا الطريق أيضاً، الصورة الأثنوغرافية التي سيلتقطها في اليوم الخامس والعشرين من أيار/مايو 2019؛ المكان هو قصر الثقافة في مدينة الحسين للشباب، والمناسبة هي عيد الاستقلال الثالث والسبعون، يشاهد الحضور شيخاً في نهاية العقد الثامن من عمره ذا لحيةٍ بيضاءٍ كثةٍ بلباسٍ داكنٍ وغطاءٍ أبيض على الرأس، وفي يده مسبحةٌ طويلةٌ، يسير معه ابنه إلى درجات المنصة، ليقبلَ إليه الملك ويقبله قبل تسليمه وسام الملك. سيعرَف لاحقاً أن هذا الرجل هو الشيخ أحمد مصطفى الخضري، وهو شيخٌ صوفي قدمَ إلى الأردن في ستينيات القرن الماضي من سوريا، وكان يقيم جلسةَ الذكر الشاذلية في المسجد الحسيني، ثم في منزله المتواضع في طلعة المصدار، في أحد احياء عمان الشرقية، وها هو اليوم يقف قبالةَ رجال الدولة والوزراء.. أمام هذا المشهد، كان السلفيون، الذين اعتادَ أبو رمان على دراستهم، يعيشونَ حالةَ صدمةٍ، وعلى الأغلب كانوا، كما يقول، يعيدون شريطَ الذاكرة إلى 14 عاماً، عندما صعدَ شيخهم علي الحلبي، على منبر الهاشميين في العاصمة عمان، ليخطبَ بحضور الملك مندداً بأحداث عمان الإرهابية!