إعداد وترجمة: مها لطفي*
يشتهر المخرج الإيراني عباس كياروستامي باستخدامه لبعض المواضيع والتقنيات السينمائية التي تظهر في أعماله بشكل مباشر. من استخدامه للأطفال كأبطال لرواياته التي تأخذ مكانها في القرى الريفية، إلى حوارات تدور في السيارات المجهزة بكاميرات مثبتة في داخلها، إلى تناوله أسلوباً وثائقياً لصناعة الأفلام داخل الأعمال الروائية، إلى استخدامه الشعر الإيراني المعاصر خلال الحوار وعناوين الأفلام وعناصرها الموضوعية.
1 – الأسلوب الكياروستامي
بالرغم من أن عباس كياروستامي كان يقارن بــ ساتياجيت راي – فيتوريو دو سيكا – أريك رومر – جاك تاتي، إلا أن أفلامه لها أسلوب فريد بين، وكثيراً ما يستخدم تقنيات من ابتكاره الشخصي (ما يسمى بــ «الأسلوب الكياروستامي»).
فخلال تصوير أول أفلامه «الخبز والزقاق»، اختلف كياروستامي مع مصوره ذي الخبرة الواسعة حول كيفية تصوير الصبي والكلب المهاجم. كان المصور يريد صوراً منفصلة للصبي الذي يقترب، ولقطة مقربة ليده وهو يدخل المنزل ويغلق الباب، تتبعها لقطة للكلب. اعتقد كياروستامي أنه لو التُقطت المشاهد الثلاثة معاً فسيكون تأثيرها أعمق وتخلق نوعاً من التوتر. أخذت هذه اللقطة الموحدة أربعين يوماً لإتمامها، وقد علق كياروستامي فيما بعد قائلاً أن تكسير المشاهد قد يعطل الإيقاع ومحتوى تركيبة الفيلم، وهو يفضل أن يتدفق المشهد كوحدة واحدة.
وبخلاف مخرجين آخرين، لم يظهر كياروستامي أي اهتمام باستعراض عضلاته الإخراجية عن طريق تقديم مشاهد شجار مفرطة أو مطاردات معقدة في إنتاجات ضخمة. وحاول، عوضاً عن ذلك، استخدام الاجواء الفيلمية كما يراها هو بطريقته الفريدة. وكما قال في معرض حديثه عن رؤية مصوره لطريقة صناعته للفيلم: «لم أتبع تقاليد صناعة الأفلام التي تعود هو عليها».
استقر كياروستامي على أسلوبه عندما صنع «ثلاثية كوكر – Koker Trilogy». ومع ذلك، فقد تابع تجربة أساليب جديدة لصناعة الفيلم، مستخدماً أساليب إخراجية متنوعة. فالكثير من مشاهد فيلمه «عشرة – Ten»، تم تصويرها في سيارة متحركة بدون وجود كياروستامي، الذي اكتفى بإعطاء اقتراحات للممثلين عما سيفعلونه، ووُضعت كاميرا على السقف صورتهم وهم يتحركون حول طهران. كانت الكاميرا تلف وهي تلتقط وجوه الناس خلال تحركهم اليومي المعتاد مستخدمة سلسلة من اللقطات المقربة جداً.
تقدم سينما كياروستامي تعريفاً جديداً مختلفاً للفيلم، بالنسبة لأساتذة الفيلم كـ «جامشيد أكرمي – Jamsheed Akrami». فقد حاول كياروستامي، خلافاً للعديد من المخرجين المعاصرين الآخرين، أن يعيد تعريف الفيلم بأن يجبر المشاهدين على زيادة مشاركتهم. كما أنه نجح بشكل تدريجي في تقليص حجم أفلامه في السنوات الأخيرة، مما يمحور التجربة الفيلمية من محاولة جماعية إلى شكل للتعبير الفني أكثر نقاء وأساسية.
وكما قال كياروستامي بالنسبة لأسلوبه الفردي في التخفيض: «كانت أفلامي تتجه نحو نوع ما من التخفيض، رغم أن ذلك لم يكن أبداً عن قصد. فقد تم إخراج العناصر التي يجب إخراجها. وهذا ما أوحى به شخص أرجعني إلى لوحات رامبرانت واستخدامه للضوء: بعض العناصر تضاء بكثافة بينما البعض الآخر يُهمَل بل يُدفَع إلى الوراء نحو الظلمة. هذا شيء نفعله – نستخرج عناصر نود التركيز عليها».
تعتبر المرجعية الذاتية أحد خصائص سينما كياروستامي. ويؤكد «ستيفن برانسفورد – Stephen Bransford» أن أفلام كياروستامي لا تتضمن مراجع لمخرجين آخرين، بل تتضمن بشكل وفير مراجع لعمله هو. ويعتقد برانسفورد أن أفلامه تفصل غالباً بشكل جدلية مستمرة: كل فيلم يعكس فيلماً سابقاً ويبدد غموضه بشكل جزئي.
2 – روائي أو غير روائي
تتضمن أفلام كياروستامي درجة ملحوظة من الالتباس، مزيج غير عادي من البساطة والتعقيد، وغالباً ما تمزج الروائي بالوثائقي. وكما قال كياروستامي: «لا نستطيع أن نقترب من الحقيقة إلا بالكذب.»
وقد قال كياروستامي، في معرض حديثه عن صناعته للأفلام: «يصمم ويخلق الفنان قطعة متأملاً أن تجسد بعض الأفكار أو النظريات أو المشاعر عبر محيطها / محيطه. وتنبع مصداقية شعراء الفرس العظام كـ رومي وحافظ، من حقيقة أنها مبنية بطريقة تجعلها طازجة وذات معنى بغض النظر عن الزمان والمكان والظروف التي تقرأها خلالها – وهذا يعني قراءتها أثناء ممارسة العرافة أو بكل بساطة كعمل أدبي.»
تتضاءل، بوضوح، الحدود بين الروائي و اللا روائي في سينما كياروستامي وعندما كتب الفيلسوف الفرنسي «جان لوك نانسي – Jean-Luc Nancy» عن كياروستامي، وبالذات فيلمه «الحياة، ولا شيء آخر … – Life, And nothing more … «، ناقش أن أفلامه ليست روائية تماماً ولا وثائقية تماماً. وأن هذا الفيلم ليس تمثيلاً ولا ريبورتاجاً، بل دليل أو شهادة إثبات.
كل شيء يبدو بمثابة تقرير، إلا أن كل شيء لا يصل إلى الحد المطلوب من حيث كونه رواية لما هو وثائقي (قام كياروستامي بتصوير الفيلم بعد بضعة أشهر من زلزال 1990)، وبالتالي فهو يعد وثيقة حول «رواية»: ليس بمعنى تصوير غير الحقيقي، وإنما بالمعنى المحدد جداً والدقيق للتقنية، بفن بناء الصور. ذلك أن الصورة في كل مرة تفتح عالماً يضع نفسه فيه، بشكل غير حاضر (كما في الأحلام والأشباح والأفلام السيئة). أنه بحاجة إلى عملية خلق، تقطيع ومونتاج. وعلى هذا الأساس فهو شهادة إثبات، كما لو أنني نظرت يوماً إلى شارعي الذي أذرعه ذهاباً وإياباً عشر مرات في اليوم، أخلق للحظة شاهداً جديداً لشارعي.
مثلاً يتضمن «لقطة مقربة – Close-Up»، مشاهد من الحياة الحقيقية لمحاكمة رجل متهم بانتحال شخصية مخرج أفلام. وعلى أية حال، ولكي يصنع كياروستامي الفيلم، فقد أقنع الأبطال بإعادة مسرحة المشاهد التي حدثت بينهم متضمنا عملية الاعتقال. وبينما هذا الأسلوب يمنع تسمية الفيلم بـ «الوثائقي» بسبب إعادة مسرحة الأحداث بين المخادع والمخدوعين، فإن كياروستامي يثير أسئلة حول صلاحية ودلالة ما يراه المشاهدون لأنهم هم المشاركون الفعليون في مسرحية مُثلت في محكمة المجرمين، وهذا يشير على المشاهدين بأن إعادة التمثيل هذه هي جزء من الحياة الحقيقية لهؤلاء الناس، خاصة أن المقلد والعائلة التي خدعها كانوا من المهتمين بالعمل في السينما. وإذا كانت إعادة التمثيل هذه تتضمن نوعا من «الإثبات»، فهو في هذه الحالة أقل لأنهم يظهرون لنا ما حدث وأدى إلى الاعتقال، أكثر من كون المشاهدين شهوداً في مشهد حيث الممثلون يتابعون في الحقيقة قصة مواجهتهم و / أو مصالحتهم.
بالنسبة لجان لوك نانسي، هذه الفكرة عن السينما كإثبات أكثر منها توثيق أو تخيل، ترتبط بالطريقة التي يتعامل بها كياروستامي مع الحياة والموت:
الوجود يقاوم لا مبالاة الحياة والموت. أنها تحيا متجاوزة «الحياة» الميكانيكية، تمثل بحد ذاتها مرثيتها وفرحتها الخاصتين. تصبح شكلاً وصورة. لا تتغرب في الصور، لكنها موجودة هناك: الصور هي دليل وجودها، هدف تأكيدها. هذه الفكرة – التي بالنسبة لي فكرة هذا الفيلم «الحياة، ولا شيء آخر…» – هي فكرة صعبة، ربما تكون الأكثر صعوبة. إنها فكرة بطيئة، دائما في الطريق، تدفع طريقاً ليستحيل فكرة بحد ذاته. إنها تدفع الصور بحيث تستحيل فكرة، بحيث تصبح دليلاً على هذه الفكرة – وليس لـ «تمثيلها».
بهدف أن يفعل أكثر من تقديم الحياة والموت كنقيضين، وليبرز الطريقة الحتمية والعميقة التي يتداخلان فيها، فقد ابتكر كياروستامي سينما تقوم بأكثر من أن تقدم للمشاهد «حقائق» توثيقية، ليس فيها ببساطة أي مادة خداع. لأن «الوجود» يعني أكثر من مجرد الحياة. إنه إسقاطي يحتوي على عنصر تخيلي لا يمكن اختزاله، ولكن بـ «كونه أكثر من» الحياة، فهو ملوث بالموت. وبهذا يعطي نانسي تفسيراً لمقولة كياروستامي بأن الكذب هو الطريق الوحيد إلى الحقيقة.
3 – مواضيع الحياة و الموت
تلعب كل من موضوعات الحياة والموت ومفاهيم التغير والاستمرارية دوراً أساسياً في أعمال كياروستامي. فمثلاً، في «ثلاثية كوكر»، نرى قوة حياة مستمرة في وجه الموت والدمار، وقوة مرونة الإنسان ليقهر ويتحدى الموت. يقع الفيلم في أعقاب الهزة الأرضية التي حدثت في طهران عام 1990. عبر كياروستامي عن الأهمية التي تحتلها هذه الموضوعات في أفلامه، وبالذات في فيلم «الحياة، ولا شيء آخر…» الذي أخرجه بعد الكارثة بفترة قصيرة:
إنه فيلم مهم جداً، «الحياة، ولا شيء آخر…»، في أن ما صُوِّر في الفيلم كان من وحي رحلة قصيرة قمت بها بعد ثلاثة أيام من وفاة 50,000 شخص. بالنسبة للناجين، كان الأمر كأنهم وُلدوا من جديد، بعد أن جربوا الموت حولهم. وقع الزلزال في الرابعة أو الخامسة صباحاً، ولذلك كان من المحتمل أن يموت الجميع، وكان بقاؤهم على قيد الحياة أمراً عرضياً. ولذلك لم أر نفسي كمخرج أفلام فقط في هذا الإطار، وإنما أيضاً كمراقب للناس الذين حُكم عليهم بالموت. كان لذلك تأثير كبير علي، ومنذ ذلك الحين أصبحت فكرة الموت والحياة مكررة في أفلامي.
لعب موضوع الانتحار دوراً مهماً في العديد من أفلامه الأولى. إنه يظهر كيف أن الرغبة في إيذاء النفس يقابلها إنسانية وحاجة ملحة لمساعدة الآخرين في وجه الموت. ويوضح قوة الحياة المستمرة وتفوقها على الموت.
ويكشف «طعم الكرز – The Taste of Cherry» وهن الحياة ويركز بشكل بليغ على القيمة الكبيرة لها. بديع، مواطن طهراني في منتصف العمر تظهر عليه بوادر الصحة الجيدة والغنى (يلعب دوره هومايون إرشادي – Homayoun Ershadi)، يجوب أطراف المدينة في سيارته الـ «رينج روفر» محاولاً إيجاد شخص غريب ليساعده في الانتحار. محادثات في طريقه مع أناس تقنعه تدريجياً بإيجابية الحياة وغلاوتها: من الجندي الكردي الشاب الذي يفزعه الطلب المخيف، إلى الأفغاني الإكليريكي متوسط العمر الذي لم يستطع ثني بديع بطريق التعاطف الديني، إلى محنط الحيوانات التركي الذي يعمل في متحف للتاريخ الطبيعي والذي يؤكد على روعة الطبيعة – طعم الكرز – كسبب رئيسي لكي لا يزهق الإنسان حياته. يثير كياروستامي تركيزاً بدرجة عالية على مختلف عناصر الحياة.
عندما يصل البطل إلى قبره، تبرز شاشة سوداء تعبر عن موته الرمزي. لكن النهاية لتلك النهاية تقوضها أحداث الفيديو الذي يلي ذلك، والذي يُظهر الممثل الذي يلعب دور بديع يشعل سيجارة، ومجموعة العاملين في الفيلم يرتاحون. الحياة تستمر، مرة أخرى، ولكن بعيداً عن الشاشة.
تتكاثر رموز الموت طوال فيلم «الريح سوف تحملنا – The Wind Will Carry Us» بمشاهد في باحة مقبرة، الوفاة المترقبة للسيدة العجوز، والأجداد الذين تذكرهم شخصية فرزاد في مشهد سابق. هذه الابتكارات تدفع بالمشاهد لإعادة النظر في متغيرات الحياة الثانية ومفهوم الوجود الغير مادي. يقول بهزاد لفرزاد في المشهد الافتتاحي للفيلم، أن السيارات كالأشخاص لها أشباحها. هذه المقولة تحدد ثيمة العمل وموضوع الفيلم – إنهما ينتظران السيدة العجوز لتتخلى عن الشبح. والمشاهد مطالب بأن يفكر في ماهية الروح، وماذا يحصل لها بعد الموت. قال كياروستامي، في مناقشة للفيلم، أن وظيفته هي طرح الأسئلة وليس البحث عن إجابات لها. يؤكد كياروستامي أن على المشاهدين أن يقرروا بأنفسهم.
يعتقد بعض نقاد السينما أن تجمع مشاهد الضوء مقابل الظلام في قواعد أفلام كياروستامي «طعم الكرز – The Taste Of Cherries» و «الريح سوف تحملنا-The Wind Will Carry Us» يقترح الوجود الثنائي للحياة باحتمالاتها اللانهائية والموت كلحظة حقيقية في حياة أي إنسان. عندما يدخل الممثل الأول في فيلم «الريح سوف تحملنا-The Wind Will Carry Us» في الظلمة ينشد قصيدة لـ «فوروغ فاروخ زاد – Forough Farrokh Zad» تمثل حنينه وتوقه للضوء والحياة في لحظة مظلمة ميتة.
إذا ما جئت إلى منزلي، يا عزيزي،
احضر لي مصباحاً ونافذة
حتى أشاهد الجمع في الشارع السعيد
بالنسبة لفيلم كياروستامي «أ ب ج أفريقيا – ABC Africa» الذي أخرجه في كمبالا عام 2001 عندما انتشر وباء الإيدز، قال «جيوف أندرو – Geof Andrew» أن «هذا الفيلم، كأفلامه الأربعة السابقة، ليس عن الموت بل الحياة والموت: كيف يتواصلان، وما هو التصرف الذي نتبناه بالنسبة لحتمية تكافلهما…»
4 – التقنيات البصرية والسمعية
ما يميز أسلوب كياروستامي هو استخدامه اللقطات الطويلة، كما في المشاهد الختامية في «الحياة، ولا شيء آخر -Life and nothing more»، و «عبر أشجار الزيتون–Through The Olive Trees»، حيث يتقصد إبعاد المشاهدين جسديا عن الشخصيات ليستدعي الانعكاس على قدرهم. كما يتقطع «طعم الكرز – Taste of Cherry» بلقطات من هذا النوع، بما في ذلك لقطات عن بعد فوق الرؤوس لسيارة بديع الانتحاري وهي تتحرك عبر التلال، أثناء تحاوره مع أحد ركابه. وتناظر تقنية الابعاد الجسدي الحوار، الذي يظل دائماً في المقدمة. هذا الانصهار بين البعد والقرب ينظر إليه كطريقة لخلق تشويق في أكثر اللحظات دنيوية، كتواجد المسافة الخاصة والعامة، أو تصوير لوحات من المناظر الطبيعية عبر نافذة السيارة.
هذه العلاقة بين البعد والتقارب، وبين الصورة والصوت تبدو حاضرة أيضاً في المشهد الافتتاحي لفيلم «الريح سوف تحملنا – The Wind will Carry Us». حيث يشكل كياروستامي منذ البداية علاقة جدلية بين الصورة والصوت. تتحرك الكاميرا في لقطات طويلة لسيارة اللاندروفر وهي تلف طريقها عبر ممرات الجبل نحو لقطات مقربة إلى حدها الأقصى لبطل الفيلم. وفي نفس الوقت يقدم كياروستامي مساحة ممتدة سمعياً تتجاوز بعيداً ما يستطيع المشاهد رؤيته في أية لحظة، حتى عندما تبقى الكاميرا على مبعدة من الموضوع الموجود على الشاشة.
يخلق كياروستامي مساحات متعددة تتجاوز المساحة المرئية عن طريق تجزئة شريط الصوت بحيث يتضمن أصوات أخرى مثل عصافير تغرد، كلاب تنبح، أجهزة إلكترونية مثل التليفونات الخليوية والراديوهات الزاعقة عبر الأثير. وهو يسعى إلى توسيع إطار عالم أفلامه بطريق الإشارة إلى شخصيات لا يراها المشاهد ولا يسمعها.
وقد ناقش «مايكل ج. أندرسون أن مثل هذه التطبيقات الموضوعية للحضور بدون حضور فعلي تسيطر على معالجتنا للمعرفة بالطبيعة والفضاء ضمن الإطار الجغرافي الذي يصوّر من خلاله العالم. يظهر استخدام كياروستامي للصوت والصورة عالماً يتجاوز ذلك المرئي و/أو المسموع. ويعتقد أندرسون أنها تركز على تقلص الزمان والفضاء وترابط العالم المعاصر.
ويعتقد الناقد السينمائي «بن زيبر – Ben Zipper» أن عمل كياروستامي كفنان الطبيعة واضح في تكوينه للقطات البعيدة للتلال الجافة عبر العديد من أفلامه. ويشير إلى أن استخدامه للمواقع الريفية والمشاهد البعيدة يذكر بـاهتمام «سوهراب سيبيهري – Sohrab Sepehri» بالمناظر الطبيعية كما يبدو واضحاً في شعره كـ «جوليستانيه – Golestaneh»، حيث يتعامل الشاعر مع المناطق الريفية بواقعية فيكسبها هالة شعرية.
5 – الشعر والخيال
ويناقش «أحمد كريمي-حقاق – Ahmad Karimi-Hakkak « من جامعة ميريلاند أن أحد مظاهر أسلوب كياروستامي السينمائي قدرته على التقاط روح الشعر الفارسي وخلقه صوراً شعريةً ضمن المناظر الطبيعية لأفلامه. في فيلميه «أين منزل صديقي؟ – Where Is The Friend’s House?» و»الريح سوف تحملنا-The Wind will Carry Us « يتلى الشعر الفارسي الكلاسيكي مباشرة في الفيلم فيضيء الصلة الفنية والارتباط الحميم بينهما. وهذا بدوره يعكس العلاقة بين الماضي والحاضر، بين الاستمرارية والتغيير.
في عام 2003 أخرج كياروستامي فيلمه «خمسة – Five». فيلم روائي شاعري لا يحتوي على أي حوار بين الشخصيات إطلاقاً. يتألف الفيلم من خمس لقطات مطولة مأخوذة لوحدها للمناظر الطبيعية على ضفاف «بحر كاسبيان – Caspian Sea». وبالرغم من الفيلم ينقصه خط قصصي واضح، إلا أن «جيوف أندرو – Geoff Andrew» يناقش أن الفيلم هو «أكثر من مجرد صور جميلة، إذا جمعناها بالترتيب فإنها تشكل نوعاً من قوس سرد مطلق أو عاطفي، يتحرك بشاعرية من الفراق والعزلة نحو المجتمع، من الحركة نحو الاستقرار، من مقاربة الصمت إلى الصوت والغناء، من الضوء إلى الظلمة ومن ثم إلى الضوء مرة أخرى، وينتهي بإشارة إلى إعادة الولادة والتجديد.»
وهو يلاحظ درجة الخداع المخفي وراء البساطة الظاهرية للصورة عند التقاط الدقائق اليومية . قطعة خشب تذروها الأمواج فتتكسر؛ الناس تتمشى الهوينى على رصيف البحر؛ مجموعة كلاب تتجمع عند حافة المياه بينما يتنقل البط عبر الإطار؛ بركة ماء يتم تصويرها ليلاً بمصاحبة صوت عاصفة و نقنقة ضفادع تكسر السكون.
أحد خصائص فن عباس كياروستامي التي بقيت عصية على الكثيرين ممن ليسوا على دراية بالشعر الفارسي، هي الطريقة التي يحول بها الصور الشعرية إلى تصاوير سينمائية، وهذه الخاصية واضحة جدا في أفلامه التي تستعيد نصوص خاصة من الشعر الفارسي بصراحة أكثر أو أقل (متضمنة عناوين تلك الأفلام): «أين منزل صديقي؟ – Where is The Friend’s Home?» ، «الريح سوف تحملنا – The Wind Will Carry Us». الشخصيات الرئيسية تتلو بشكل أساسي قصائد للشاعر الفارسي الكلاسيكي «عمر الخيام – Omar Khayyam» أو لشعراء الفرس المحدثين «سهراب سيبيهري – Sohrab Sepehri» و«فوروغ فاروخزاد – Forough Farrokhzad».أحد اللحظات الأكثر شاعرية في فيلم «الريح سوف تحملنا – The Wind Will Carry Us»، هي لقطة طويلة لحقل حنطة تتماوج سنابله الذهبية، يمر عبره الطبيب مصحوبا بمخرج الفيلم، يركبان دراجته البخارية على طريق ملتوٍ. وتجاوباً مع تعليقه أن العالم الآخر مكان أفضل من هذا المكان، يتلو الطبيب هذه القصيدة للخيام:
يعدونا بالحور العين في الجنة
ولكنني أقول النبيذ هو الأفضل
خذ الحاضر بدلاً من الوعود
الطبل يُسمع أكثر رخامة من بعيد.
على أي حال، فإن الجماليات التي تدخل في الشعر أبعد بكثير في الزمن واستخدمت أكثر بكثير مما تظهره هذه الأمثلة. وبعيداً عن مسائل تكييف النص لأجل الفيلم، فإن كياروستامي كثيراً ما يبدأ بإرادة تصميمية لإعطاء تجسيد نظري لبعض تكوينات الصور الخاصة في الشعر الفارسي، سواء الكلاسيكي أو المعاصر، وغالباً ما ينتهي بالإعلان عن موقف فلسفي أكبر وهو وحدانية علم الوجود في الشعر والفيلم.
وتشعر «سيما دعد – Sima Daad» من قسم الأدب المقارن بجامعة واشنطن، أن الميزة الخلاقة لكياروستامي في تكييف شعر «سهراب سيبيهري – Sohrab Sepehri» و «فوروغ فاروخ زاد – Forough Farrokh Zad» يتجاوز نطاق التحويل النصي: التكييف يعرف تحويل نص سابق إلى نص جديد. تكييف كياروستامي يصل إلى مملكة نظرية من التكييف بأن يوسع حدوده من التناص الممكن إلى العام الكامن.
6 – الروحانية
إن صور كياروستامي الصوتية المعقدة ومقارباته الفلسفية أدت إلى مقارنات عدة مع المخرجين الصوفيين مثل «أندريه تاركوفسكي – Andrei Tarkovsky» و «روبرت بريسون– Robert Bresson». وبغض النظر عن الاختلافات الثقافية الحضارية، فإن معظم ما كتب في الغرب عن كياروستامي يضعه كالإيراني الموازي لهؤلاء المخرجين، لفضيلة تمسكه العالمي وشاعريته الروحانية والتزامه الأخلاقي. والبعض يرسم موازاة بين بعض الصور في أفلام كياروستامي والأفكار الصوفية. وأفلامه كثيراً ما تعكس أفكاراً غير مادية مثل الروح وما بعد الحياة. وعلى أية حال، فإن الفكرة الروحانية بحد ذاتها، تبدو متناقضة في بعض الأحيان مع المحيط نفسه، إذا افترضنا أنها لا تملك وسائل داخلية لتتواصل مع الغيبي. وقد ناقش بعض منظري الأفلام أن «الريح سوف تحملنا – The Wind Will Carry Us» يوفر قالباً يستطيع من خلاله المخرج أن يتواصل مع الحقائق الغيبية. حدود الإطار والتقديم عبر الحوار مع الآخر الذي لا يمثل جسديا، تصبح استعارة للعلاقة بين العالم والآخرين الذين قد يكونون موجودين منفصلين عنه. من خلال تحديد مساحة المشهد الموجود، يوسع كياروستامي مساحة الفن.
عندما سئل كياروستامي في العام 2000 في مقابلة حول تعليق على الفيلم، إذا ما كان هناك مخرجين آخرين ربما يعملون على نفس الموجة، أشار إلى «هو هسياو –هسيين – Hou Hsiao-hsien» كأحد هؤلاء، ثم قال:
«أعمال «تاركوفسكي – Tarkovsky» تفصلني عن الحياة المادية، وهي أكثر الأفلام التي رأيتها روحانية. وما قام به «فيلليني- Fellini» في بعض أجزاء أفلامه مستقدماً الحياة الحلم، إنه يفعل ذلك أيضاً. و في أفلام «ثيو أنجلوبولوس – Theo Angelopoulos» تجد هذا النوع من الروحانيات في بعض الأحيان. عموماً، أعتقد أن السينما والفن يجب أن يأخذانا بعيدا ًعن الحياة اليومية، يأخذاننا إلى حالة أخرى، رغم أن الحياة اليومية هي من أطلقت هذه الرحلة.»
وقد أثيرت اختلافات في الرأي حول هذه المناظرة. فبينما كانت الغالبية العظمى من الكتاب الناطقين بالإنجليزية مثل «ديفيد ستريت– David Sterritt» وبروفيسور الأفلام الإسباني «ألبرتو إلينا – Alberto Elena» قد فسروا هذه الأفلام كأفلام روحانية، إلا أن بعض النقاد بما فيهم «ديفيد والش – David Walsh» و «هاميش فورد – Hamish Ford» لم يوافقوا على ذلك.
7 – كياروستامي والسينما المصغرة الرقمية
عند بداية القرن الحادي والعشرين، قرر كياروستامي أن ينتقل من إنتاج 35 مم إلى الفيديو الرقمي. أول فيلم استخدم فيه هذه التقنية كان «أ ب ج–أفريقيا – ABC Africa»، الذي تم تشكيله من لقطات استخدمت خلالها آلات تصوير فيديو رقمية، وقد جمعت المادة أساساً من أجل البحث والاستطلاع. وبالإشارة إلى السينما الرقمية، قال كياروستامي: «الفيديو الرقمي في متناول أي إنسان، مثل القلم الجاف. وأتجاسر على التنبؤ أنه خلال العشر سنوات القادمة سنرى انفجاراً واسعاً من الاهتمام بصناعة الأفلام كنتيجة لتأثير الفيديو». وحول فيلم «أ ب ج–أفريقيا – ABC Africa» التسجيلي، قال كياروستامي: «الاخراج كان عفوياً وملغياً بدون قصد، وأعني بهذا الاخراج المصطنع والتقليدي».
كان فيلم عباس كياروستامي «10 – 10» تجربة استخدم خلالها الكاميرا الرقمية ليخرج المخرج عملياً. ربط كياروستامي كاميرات إلى لوحة القيادة في السيارة ثم سمح للممثلين بأن يقوموا بالتمثيل. لم يكن هناك مجموعة عمل في السيارة، وكذلك لم يوجد مخرج. ليس هناك حركة كاميرا بخلاف حركة السيارة التي تحملها. وهناك أقل ما يمكن من القطع والمونتاج. هذا الاتجاه الجديد هو نحو السينما المصغرة الرقمية، التي تعرف ميزانية-مصغرة لصناعة الفيلم تتلازم مع الانتاج الرقمي.
النمطية، التكرار والتنوع في فيلم «10 – 10» (2000)
بالإشارة إلى ما قاله المخرج «ماثيو كلايفيلد – Matthew Clayfield»، فإن عمل كياروستامي مع الفيديو الرقمي قد يكون أكثر فائدة للسينما مما هو لما قبل السينما، ولكنه، بالإضافة إلى ذلك، يثبت أنه عملياً أي واحد لديه كاميرا يستطيع أن يضيف للشكل الفني بطرق كانت مستحيلة فيما مضى. في عام 2005 أدار كياروستامي ورشة عمل حول صناعة الفيلم الرقمي في «مدرسة لندن للفيلم – London Film School»، حيث أبدى تحفظات على السينما الرقمية. «إن فيلمي «10-10»دخل عامه الثاني». وشرح لطلاب الورشة، «واليوم لست منبهراً بالتكنولوجيا الرقمية. […] صار واضحاً لي مؤخراً أن عدداً قليلاً فقط يعرفون عملياً كيف يستعملونه بشكل مناسب.»
واستطرد قائلاً، «لقد بدأت أفقد حماسي [للفيديو الرقمي] خلال الأربع أو الخمس سنوات الماضية، بشكل أساسي لأن تلاميذ الأفلام الذين يستخدمون الفيديو الرقمي في هذه الأيام لم ينتجوا، حقيقة، أي شيء غير الأشياء المزيفة أو المبسطة، ولذلك لدي شكوكي. بالرغم من مميزات الفيديو الرقمي وسهولة استعماله، على الذين يستخدمونه أن يفهموا أولاً الحساسيات التي يتطلبها استخدام المحيط».
8 – المفارقة في قلب الأفلام الأولى لعباس كياروستامي
في فيلمه التصويري القصير «تجربة – Experience» يضع كياروستامي صناعة الصورة في منتصف الحركة بتركيزه على المصاعب والرغبات الرومانسية لمراهق يعمل في استوديو تصوير. درس كياروستامي الفن وعمل كمصمم جرافيكي وكمخرج إعلانات. وقد بدأ يصنع أفلاماً في 1970 تحت رعاية وكالة حكومية (مركز التطوير الفكري للأولاد والشباب – كانون)، لا يزال قائما حتى الآن. كانت أفلاماً تربوية، تركز على حياة الأولاد ونشاطاتهم والمهارات التي يفترض أن يتقنوها. (فيلم «وجع الأسنان – Toothache»، يعلم العناية الصحية بالأسنان بينما يعطي فيلم «الألوان-Colors» درساً في التمييز بين الألوان وتسميتها). وكنتيجة لذلك، فقد كان لكياروستامي تجربة فريدة بين مخرجي جيله: فترة تدريب مهنية. معظم المخرجين المعاصرين بدأوا بسرعة بوضع أسمائهم على فيلم روائي أول أو ثان، بينما كياروستامي كان نقيض ذلك. فقد اشتغل وكأنه مخرج أفلام استوديو من فترة السينما الصامتة، يطور أساليب وأهدافا وأفكارا بالتدريج، مع ما يتبع ذلك من مهارات، قبل أن يحول هذا كله إلى كتلة ضخمة من العمل. صنع أكثر من اثني عشر فيلماً قصيراً ومجموعة من الأفلام الروائية قبل أن يصنع «أين منزل صديقي؟ – Where Is The Friend’s House « عام 1987، والذي أكسبه شهرة عالمية.
والعديد من أفلام كياروستامي الباكرة صنعت قبل عام 1979 (الثورة الإيرانية) وتعرضت للرقابة السياسية التي سادت أثناء حكم الشاه، إلا أنها لم تواجه المنع الذي فرضه النظام الجديد. إنها تظهر طهران متنوعة، حيث بعض النساء يلبسن غطاء للرأس والأخريات لا يفعلن. ويناقشون بحرية أوسع ويظهرون علاقات بين الرجال والنساء، مثل أكثر أفلامه القصيرة تعقيداً «التجربة – Experience» من عام 1973.
يحكي الفيلم قصة صبي في الرابعة عشر من العمر يعمل مساعداً في استديو تصوير. قصة حيث صناعة الصور والحصول على دخل منها هو في صلب الحدث، الذي يتسع بتنوع عبر المدينة ليظهر مشاعر مخفية من شأنها أن تنشط الحياة اليومية.
يقوم كياروستامي بتوثيق العمل اليومي للشاب بشكل جاد، يتراوح بين النوم والنظافة إلى تفاصيل العمل – بما في ذلك عمله الفعلي مع أفلام النيجاتيف وطباعتها إلى جانب النظام القاسي والخدمات المتعبة التي يفرضها عليه رئيسه في العمل (مسح الأرض حول أقدام رئيسه وتحت مكتبه، وشطف الدرج بقطعة مبلولة – مهمة يوثقها كياروستامي مطولاً بلقطة قاسية من فوق الرأس تنقل بشكل مصور مشقة العمل). الفيلم مليء بالعمل– وبرفض خانق. ويسكن الولد المسكين في الاستديو أيضاً، يغسل شرابه في المغسلة وينام على مكتب رئيسه. وخلال تجوله للعمل في المدينة تلتقطه عينا فتاة من جوار ثري يريد أن يلفت انتباهها، فيلبس بذلة ويلمع حذاءه الممزق (ويصور الفيلم أيضاً عمل ملمع الأحذية الشاق). يصور كياروستامي الفروقات الطبقية، انتشار عمالة الأولاد (كما نراه في دكاكين أخرى عبر المدينة)، ضياع فرص التعليم، قسوة الأغنياء السائدة، الصعوبات الحياتية التي ترافق كل ذلك، والرغبة الرومانتيكية المكبوتة المخفية تحت كل هذا.
هذا الحد التوثيقي من التصوير العام، والإيحاء بمساحات بعيدة عن الشاشة في بعض المشاهد من «التجربة – Experience»، التي مثلاً تتسكع عند مدخل بناء مراقبة المداخل والمخارج، أو تتابع الحركة في أجزاء تفصيلية عبر شبابيك بعيدة. هذه كانت إحدى خصائص عمله المكررة، و هي تبدو بشكل أكثر تأثيراً في فيلم مرافق «بذلة عرس – A Wedding Suit»، حيث يفرض على صبي فقير يعمل مساعداً لخياط، أن يعير بذلة موصى عليها، لمراهق آخر يريد أن يرتديها ليؤثر على فتاة في موعد بينهما.
تتصدر خلفية كياروستامي كفنان جرافيكي تشكيلاته الصارخة للصور الوثائقية، التي تذكرنا بالانعكاسات البصرية لأفلام مايكل أنجلو أنطونيوني المبكرة (مثل الفيلم القصير N.U. والفيلم الروائي I Vinti). يتجاوز كياروستامي ذلك بحساسية تبدو متجذرة في المونتاج، مثل القدرة على الوصول إلى التنوع عبر التكرار. في الوثائقي «عزيزي المواطن – Fellow Citizen»، انتاج 1983، حول التزام شرطي مرور بقانون جديد لمنع مرور السيارات في بعض شوارع طهران بهدف منع الكثافة المرورية، يفرض التكرار البصري الهستيري لعدد قليل من العناوين (لقطات لنوافذ سيارات، لقطات للظابط)، تتحول من مجرد أحداث إلى سيمفونية مدينة. حيث تظهر بانوراما من حياة مدينة متخيلة بأقل الوسائل وأكثرها انضباطاً.
كانت صناعة الصورة دائماً في قلب أعمال كياروستامي منذ البداية. في فيلمه الروائي عام 1974 «المسافر– The Traveler»، يدخر البطل الشاب المال ليشتري بطاقة أوتوبيس ليذهب ويشاهد مباراة كرة، بأن يقدم نفسه كمصور محلي يتحايل على المقيمين لالتقاط صور لهم بينما لا يوجد فيلم في الكاميرا. يتجاوز كياروستامي ذلك سريعاً بتحويل تشكيل الصورة كمركز لأفلامه. إن الانعكاسية لمثل هذه الأفلام الروائية الهامة مثل «لقطة قريبة-Close-Up ، انتاج 1990»، «عبر شجر الزيتون-Through The Olive Trees ، انتاج 1994»، تجد تباشير لها في الفيلم القصير «قضية#1 قضية#2 – Case#1 Case#2، انتاج 1979»، كشهادة قيمة صادقة للحرية التي أطلقتها الثورة. تبدأ بـ ، وتتركز على، فيلم داخل فيلم. تبدأ في لائحة وصوت رجل تقني يعلن أخذ: مشهد في غرفة صف بما يبدو مدرسة ثانوية للأولاد. يرسم الأستاذ على اللوح رسماً واضحاً للأذن البشرية. يسمع أحد التلامذة يطبل على الطاولة، فيأمر سبعة من الطلبة بالخروج من الصف ويهددهم بأن يشوا بهذا «الوغد» وإلا سيعلقون عن الدروس لمدة أسبوع. يعرض كياروستامي هذه اللقطات على مجموعة من الشخصيات الفاعلة (التربويين، الفنانين، وحتى السياسيين رفيعي المستوى)، وثم يقدم مشهداً روائياً آخر حيث يستسلم الطالب. ثم يعاد تطوير الحادثة تتبعها دورة ثانية من المقابلات، ولكن في هذه الحالة لا أحد يسلم أحداً آخر. من خلال لقطة مقربة، يتكلم الكبار حول قسوة المعلم وهو يحاول أن يجبرهم على الاستنكار وأيضاً على عدم كفاءته وتضييعه وقت الصف وإثارة جو من الملل بأن يرسم بصمت على اللوح. وما يثير الاهتمام هنا، أن نسمع مناقشات مع إمامين: واحد ديني والآخر سياسي. كلاهما يتكلمان بقوة لصالح حرية الضمير والفعل. وهنا نجد كياروستامي وقد استوقفه دافع وثائقي مصحوب بدافع آخر أخلاقي وسياسي، فيفتح عمل ورؤية فيلم ويحولها مادة لفيلم، محولاً الانعكاسية إلى حركة من الصدق الوثائقي.
إلا أن تيار التحرر في إيران تم قطعه بسرعة، وتزايد ضغط النظام وتم فرض قانون ديني صارم متضمناً السينما. وفي عام 1981، قدم كياروستامي فيلماً تربوياً آخر شديد السخرية مدته 60 دقيقة «منظم أو فوضوي – Orderly or Disorderly». هذا الفيلم وضع، بطريقة أخرى، نبضاً حاسماً لباقي أعمال كياروستامي. إنها أيضاً سلسلة أفلام ضمن فيلم واحد، مصحوبة بتكرار رسمي وتنويعات: متناقضات مأخوذة من نفس الزاوية يكملها سجل أعمال، والمخرج ينادي «حركة» و«اقطع» لنشاطات عادية في مدرسة بنين. يقف الطلاب في صف ثابت بهدوء ليشربوا، ويقفون بصبر صفاً واحداً أمام الحافلة أو يتجهون ليصعدوا إليها (يستخدم كياروستامي أيضاً ساعة على الشاشة ليظهر أن الطريقة السابقة أفضل، ويناقش النتائج المتناقضة مع أحد زملائه). ثم يتحرك الفعل مغادراً المدرسة ويتوجه إلى المدينة عموماً، آخذاً لقطات من فوق الرؤوس للمشاة والمواصلات، منظمة وفوضوية. ويتدفق مشهد المدينة بطريقة باليه ميكانيكي، تذكرنا بأفلام «جاك تاتي- Jacques Tati». ولكن مهما حاول كياروستامي تصاب رؤيته بالإحباط في محاولته أخذ لقطة للمدينة تكون منظمة: سيارات تندفع نحو ممر المشاة، راكب دراجة يتجاوز الضوء الأحمر، مشاة يحيكون طريقهم عبر المرور، حتى شرطي المرور يفشل في المحافظة على النظام فتسوده حالة من عدم الاهتمام. نقطة كياروستامي هنا واضحة: النظام التربوي للجهاز المقفل للمدرسة هو عبارة عن خيال مفروض واحد يسهل تساقطه إلى أجزاء في الحياة بصورة عامة.
كان «منظم أو فوضوي – Orderly or Disorderly» بداية السخرية الجريئة والرمزية الرنانة اللتين أصبحتا فيما بعد وسيلة خلق كياروستامي لما تبقى من أعماله. كان عملاً صنعه وعد الثورة بالتحرير، وبمفارقة مرة، عملاً ازدهر في ظل قيوده. كيف ستحافظ على روح الحرية وتظهرها في وجه القمع؟! أصبح هذا بمثابة التحدي الحي لكياروستامي والمحرك الأساسي وراء كل أعماله اللاحقة. فتصويره للأولاد المعترضين على القوانين الشديدة القسوة تحول إلى تحد كبير لانتشار التقاليد والقوانين المحبطة. تركيزه على الأولاد أصبح رؤيا فلسفية لدورة الحياة – من الرغبة إلى تحقيق الذات إلى الإنجاب ثم الموت. أساليبه في الجرافيك التجريدي، في زمن المنع بما يتعلق بالجنس، خلقت رموزاً وإيحاءات. وشفافيته فيما يتعلق بمكانته كمخرج في المجتمع أصبحت تحدياً لتأكيد الفن كوسيلة للتجربة ومصدر للحقيقة. رؤيته لقوة الطبيعة البشرية التي لا تقهر، تظهر عبث السلطات السياسية والدينية التي تفترض أو تتظاهر بالسيطرة عليها. وبشكل أبعد بكثير من مجرد انتقاد القوانين الفردية أو الممارسات السياسية، فإن أفلام كياروستامي جسورة في غرس القيم الانسانية كما هي جسورة في جمالياتها. يتخذ كياروستامي موضوعاً له ليس قوانين بلاده ولكن القيم الانسانية الحية فوق كل شيء آخر، ليس الممارسات المحلية بصورة خاصة ولكن الحياة بوجه عام.
9 – «24 إطار – 24 Frames »
المقطع الأول من آخر ما أنجز عباس كيروستامي قبل وفاته، شريط فيديو «24 إطار – 24 Frames»، يشكل استدعاءً بسيطاً لعمل «بيتر بروجيل الكبير – Peter Bruegel The Elder» لوحة « الصيادون في الثلج – The Hunters in The Snow – 1565». محملقاً حول المشهد لأربع دقائق ونصف ، نحو مشهد الشتاء المألوف وتركيبته التي تعبر عن الرسومات الروائية اللامركزية والمتعددة المستويات للأستاذ الهولندي – ونحن نشاهد أسلوبية تطبيق كياروستامي لمختلف الأعمال المتحركة وما ينتج عنها: يبدأ الثلج بالسقوط، تقفز الغربان عبر الإطار، يخرج الدخان من مدخنة، يبول كلب على شجرة. إنه لشيء طريف وذكي ويمكن متابعته بلا عناء، وهو أكثر بقليل من فن هابط، ومهدئ للأعصاب إلى حد ما. (حتى وهو يذكر بـالمعالجة التي لا تختلف كثيراً لـ «لارس فون تراير – Lars von Trier» لنفس اللوحة، وإن يكن بشكل أكثر تشاؤمية في «Melancholia – 2011»). هذا الإطار هو الوحيد من بين إطارات الفيلم الأربع والعشرين الذي لم يرتكز على صورة أصلية لكياروستامي (رغم أنه صنع مشاهد متعددة أخرى من رسومات لم تستدعي القطع، بما في ذلك «The Gleaners» لـ «جان فرانسوا ميللت – Jean-Francoise Millet»، ولهذا فإن تضمينه يبدو بناءً. بروجيل، مثل كياروستامي، منح الطبيعة والمناظر الطبيعية ما يستحقانه بشكل فني يعطي الأولوية عموماً للجسم الإنساني والوجه، مقدماً عالماً مألوفاً في صور عبرت عن احترام ديموقراطي لكل الأشياء والمخلوقات.
أما التركيبات الـ 23 التالية، التي تحيي كل منها لحظة فوتوغرافية واحدة عن طريق تركيب فيديو ذي شاشة من مادة خضراء داخل صورها المتخيلة، بحيث يمكن اعتبارها أقرب إلى حساسية الإخوة لوميير، التي طالما حاول كيروستامي الانتماء إليها وتقديرها في أعماله الرقمية الأخيرة. لقد صرح جودار مرة أن جريفيث وكيروستامي بمثابة الغلاف الأخير لكتاب تاريخ السينما، و أنا أعتقد أن كيروستامي اعتبر الإخوة لوميير كاستمرار لمثالية الانطباعيين، وكما ناقش «ليود – Leaud» في La Chinoise، فإن صورهم الواقعية الغير روائية لم تكن تسجيلية بقدر ما هي لوحات يستخدمون فيها السكون للتعبير عن مرور الزمن واستيعاب الحركة. يستخدمون أساليب رأيناها لدى كل من Charobim و Manet و Renoir في استنتاجاتهم المنطقية. لذلك فإن «24 إطار – 24 Frames» يعطي إحساساً، أكثر من شبيهه «خمسة مهداة إلى أوزو – Five Dedicated to Ozu»، بأن كياروستامي يقدم إجابة رفيعة على اقتراح جودار: إنه يجدد روابط السينما بالإنطباعية، بأن يسمح للافتراضي أن يتعامل مع الحقيقة. وهكذا، فإلى جانب احتفائه العفوي باستمرارية الزمن الحقيقي وفن المشاهدة والتجربة الذاتية، فإن خلط «24 إطار – 24 Frames» بين الخيالي والدنيوي يسجل عودة وتحد جذري لأسس وفلسفات مشروع لوميير برومانسيته وعصريته، التي تعطي فرصة للعالم التجريبي في ذاته الحقيقية الملازمة له وهي تحوله لشيء مصطنع كلياً ومحدود بالوسط.
لا نتعامل مع «24 إطار – 24 Frames» كتمرين ذهني حاد – هو لا يحتاج إلى أفكار ليعمل – لكن كياروستامي يواجه بهذا توقعاتنا لشكل وماهية الوسط، بطريقة تحاذي التجربة مع تجارب حديثة رائدة من مثل تجارب «هارون فاروقي-Haroun Farocki»، «كين جيكوبس – Ken Jacobs»، «شانتال آكرمان – Chantal Akerman»، و«جيمس بنينج – James Benning». وفي عملي بنينج «روهر – Ruhr» (2009) و»الطرق الصغيرة – Small Roads» (2011) على سبيل المثال، تلعب بقدرة المشاهد ليدرك تغيرات خادعة في اللقطات الطويلة الرقمية. يخلق بنينج توتراً بين حقيقة مكان وزمان الطبيعة وتجربتنا الذاتية لها. ويخطو كياروستامي بهذه الاستراتيجية خطوة إلى الأمام. هل يهم أن الصور التي تخرج بشكل ميكانيكي والمستخدمة كوثائق تم تغييرها – بشكل غير ملموس لدى بنينج و ملموس بشكل كوميدي لدى كياروستامي -، إذا كان في رأي صانعها أن هذه التغييرات ولدت تجربة أكثر «حقيقية» من «المشاعر التي أحسها عندما التقطها؟» وبينما يلامس هذا السؤال، بشكل أوسع، تساؤلات نظرية عن الحقيقة والمعرفة والزمن يبحث فيها بشكل واع كل الفنانين السابق ذكرهم بدرجة أو أخرى، فإني أعتقد أن كياروستامي لم يكن ليهتم به. وكما قال ابنه أحمد، فإن التوتر كان سببه عدم رضاه عن مشاهدة لقطة مفردة. «أتساءل ما الذي حدث، قبل وبعد؟»، هذا ما كان والده سيقوله.
هنالك سذاجة محببة لتلك الغريزة تنتقل إلى الفيلم نفسه، وهذا لا يعني انه ليس غريباً بدرجة كبيرة. ما يهم هو المهارة في فن الفيديو، التي نرى نظيراً لها في عمل «بوب روس – Bob Ross» «فرحة الرسم – Joy of Painting»، يحشد كياروستامي الحيوات الغير هادئة في «24 إطار -24 Frames» بالحيوانات – الغربان، الكلاب، البط، الأيل – التي تتوزع بحرية عبر كل لوحة. حيوان ضخم يبدو فيما بعد أنه بقرة ضخمة تستيقظ من غفوتها على الشاطئ؛ قطيع من الغنم يبحث عن مأوى من سقوط الثلوج؛ ثعالب الأشجار تستريح تحت شجرة زيتون عارية؛ زوج من الأسود يبدآن فصل تزاوج، يتفكك فزعاً من صوت عاصفة. يبدو جمال غريب هناك لكنه أرضي بشكل مقلق – بدائي وساذج، صنع كل ما هو خارق للطبيعة لمعرفتنا أن كل علامات الحياة في الفيلم مزيفة. تم التقاطها في محاولة لاستعادة لحظات ضائعة من النسيان. هنالك احساس أن هذا كله يشكل عبئاً ثقيلاً من العمل الشاق ليكون نهايته أن الحيوانات هي الحيوانات. مع العلم أن كياروستامي تكبد وقتاً ومشقة لإعداد هذه التصاوير عنهم، فقد صرف ستة أسابيع على الأقل ليؤلف كلاً منها. وهذا يشكل وجهاً يقارب الجنون في «24 إطار – 24 Frames»، خصوصاً عندما ينتهي – بشكل أو بآخر – إلى فيلم تشكيلي مبني على أغنية «ماكدونالد العجوز كان يملك مزرعة – Old MacDonald Had a Farm».
نعم، كانت هذه صوراً ومع ذلك هي الآن تتحرك. تصبح فكرة «الحدث» شيئاً مسلماً به، لأن الحركة – أي التحرك، التغير، أي شيء على الإطلاق – هي مجرد قضية اختلاف، قضية ما هو كائن الآن وليس ما قد كان عليه. إطار يتحرك باتجاه الآخر – روح السينما، التي فهمها كياروستامي بدون شك. مات الإطار المنعزل، أقفل عليه في مكانه إلى الأبد؛ ولكن عند إضافة آخر – حتى ولو واحد فقط-فإن هذا يشعل المسافة بينهما، تصبح محجوزةً بحركة انزلاقية لا نهائية من أ إلى ب، بشكل تدريجي بينما يتغير شكلها. هذا هو بالضبط موضوع «24 إطار – 24 Frames»: ليس طبيعة الصور أو قطة تقفز على عصافير، ولكن هذا البوح الصريح بأننا نعيش فقط عندما نصبح شيئاً آخر. وإلا فلماذا نملأ الأحداث بكل هذا الموت؟ ثلاثة أطر على الأقل تصور مشهد حيوان يصاب ليموت – الحي يصبح غير حي – بينما إطاران آخران يظهران حيواناً يقتل آخر، بقاء واحد على حساب آخر. إطار يظهر ما يبدو ككومة من طيور النورس النافقة على الشاطئ، بينما إطار آخر مضمونه كومة من الخشب أمام شجرتين طويلتين، يقطعهما منشار غير رؤوف. حيوانات تنام حتى تستيقظ (أو لا تفعل)، بينما ذلك الفصل الغير معبر عن الحياة، فصل الشتاء، يسرق كل الألوان من كل مشهد.
إطارات كياروستامي، المليئة بالحياة التي يولدها الكومبيوتر والزمن الكاذب، تخلق صراعاً عصبياً بين الأموات والأحياء – بين الجمود والحيوية، والقراءة العامة سوف تربط هذه الموضوعات بشكل أكيد بموته الوشيك. من جهة، فقد عمل على هذا المشروع ما يزيد على ثلاث سنوات، وهو لم يكن يعرف قدره؛ فهذا ليس نجم كياروستامي الأسود. ومن جانب آخر، كيف لا نستطيع هذا، خاصة وأن المشهد النهائي في الفيلم يصور امرأة تنام على مكتب عملها، والثلج يتساقط خارج النافذة، بينما برنامج معالجة الصور ينهي عملاً على كمبيوتر مفتوح: فيديو يتحرك إلى الأمام إطار وراء الآخر عبر صورة متأرجحة لقبلة النهاية لفيلم قديم أبيض وأسود، وهي تتجه نحو عبارة «النهاية». وكأننا لم نكن نخاف ما قدمه لنا الـ «24 إطار» بشكل كاف – فوصوله المنهجي كان كافياً، وكأن حاصد الأرواح كان بحاجة لتذكيرنا أنه ما زال هناك – مهما كان الذي جمع هذه القطع معاً، فهو يلوي السكين في اقتباس «كاثرين جنكينز – Katherine Jenkins» لـ «الحب لا يموت – Love Never Dies»، مشهد الختام للجزء الثاني والأخير من «شبح الأوبرا – The Phantom of the Opera». ولكن بالنسبة لـ «رينيه – Resnais»، أن نعلن أن فيلم كياروستامي الأخير هو فيلم موته يجعلنا نتجاهل كون أفلامه الباقية ناقشت الحياة كمواجهة للموت، الحياة كقرار للبقاء – قرار مدفوع بالرغبة، دنيوية كانت أم لا، بالاستمرار بالحركة إلى الأمام. توالي المشاهد من إطار لآخر في هذا المضمون، ينذر حتماً بالموت. وهو، إضافةً، الحياة ولا شيء آخر…
المراجع
– المادة في الأجزاء من 1-7 من موسوعة الويكيبيديا.
– الجزء 8 ترجمة بتصرف لمقال الناقد السينمائي «ريتشارد برودي – Richard Brody» في مدونته الخاصة «الصف الأمامي – The Front Row»
– الجزء 9 ترجمة بتصرف لمقال الناقد السينمائي «بليك ويليامز – Blake Williams» في مجلة «سبوت لايت – Spotlight»
- عن نزوى – عمان