تيموثي ريباك- ترجمة:سعد البازعي
ثلاثة اشتعالات مقيتة تسطع على صفحات تاريخ رتشاد أوفيندن الجديد والرائع «إحراق الكتب». كان حريق مكتبة الإسكندرية العظيمة أولها، الحريق الذي لم يدمر المكتبة، حسب أوفيندن، في شعلة واحدة وإنما بالتدريج عبر عمليات إحراق ونهب تكررت حتى لم يتبقَّ منها سوى المجاز. الثاني كان حريق مكتبة الكونغرس الأميركي على يد البريطانيين عام 1814 حين «سطعت» وجوه الجنود باللهب. قال أحد أولئك الجنود: «لا أتذكر أنني شهدت، في أي فترة من حياتي، مشهداً أشد أسراً أو مهابة». الحريق الثالث هو دون شك أشهرها: حريق الكتب النازي الذي أعقب صعود هتلر للسلطة. «كان حريق 10 مايو (أيار) 1933 مجرد تمهيد لما يمكن أن يعد أكثر عمليات إزالة الكتب من الوجود تهيئة وتجهيزاً عبر التاريخ»، حسب أوفيندن.
أوفيندن، الذي كان مسؤولاً عن المجموعات الخاصة في مكتبات البودليان في أكسفورد ومسؤول مكتبة بودلي حالياً، يعرف جيداً دقائق الأمور المتصلة بحفظ الكتب، سواء القديمة أو الحديثة. يقول أوفيندن في الفصل الذي خصصه لمكتبة الإسكندرية العظيمة: «مشكلة أوراق البردي أن إحراقه سهل جداً، كونه مصنوعاً من مادة عضوية مجففة، وملفوفاً حول قضيب خشبي، يجعله في جوهره قابلاً للاشتعال». الكتب المطوية والمطبوعة على الورق تحترق عند درجة 451 فهرنهايت، كما يذكرنا أوفيندن، معيداً إلى الأذهان رواية ري برادبري الدايستوبية (الكابوسية) التي تستمد عنوانها من هذا.
على الرغم من كل المعلومات الجانبية التي يوفرها حول حفظ وتدمير الكتب، يتضح أن اهتمام أوفيندن الحقيقي هو كما يعلنه العنوان الجانبي لكتابه: العلاقة بين المعرفة والسلطة، أنه ينجح في إيضاح العلاقة بين الاثنين على نحو مقنع. ويشير إلى الملك هنري الثامن بوصفه مثالاً. أرسل الملك جون ليلاند، وهو محب للكتب في البلاط، ليتفحص مكتبات الأديرة في إنجلترا بحثاً عن كتب ووثائق تضفي الشرعية على طلاقه من زوجته الأولى. يكتب أوفيندن: «بسبب هذا التكليف، لعب ليلاند دوراً في (الأمر الهام) للملك»، عائداً بـ«الحجج التي تدعم إلغاء زواجه من كاثرين الأراغونية وشرعية زوجته الجديدة، آن بولين». وفيما بعد وظفت سجلات ليلاند الدقيقة، الموجودة تحت عناية أوفيندن في البودليان، لنهب وإحراق العديد من المجموعات العظيمة للكتب في إنجلترا. وقد جن ليلاند حزناً نتيجة لذلك. «انهار في نوبة عصبية»، يقول أوفيندن، إلى حد بعيد بسبب دوره غير المقصود في تدمير الكتب التي أحب.
يرى أوفيندن لعبة قوى مشابهة في حرق البريطانيين لمكتبة الكونغرس. يقول: «لم يصب أعضاء الكونغرس بأذى، لكن البناية احترقت، والمعلومات التي كانوا يعتمدون عليها دمرت، واحتاج وضعهم السياسي إلى إعادة البناء بسرعة». لكن الدراسة الأكثر إثارة لدى أوفيندن هي التي خص بها الهجوم بالقنابل والقذائف الحارقة على المكتبة الوطنية في البوسنة والهرسك على يد الميليشيا الصربية أثناء حصار سراييفو مساء 25 أغسطس (آب) 1992. يقول أوفيندن دون مواربة: «كانت المكتبة هي الهدف الوحيد للهجوم. كان إحراق هذه المجموعة المؤلفة من مليون ونصف المليون كتاب ومخطوطة وخريطة وصورة ومواد أخرى» جزءاً من عملية إبادة، في تقديره، عملية هدفها الأقصى محو قرون من الوجود المسلم في البلقان. يبرز أوفيندن ذلك بالإشارة إلى أن أندرس رايدلماير، وهو أمين مكتبة في مكتبة هارفارد للفنون، كان شاهد اتهام في محاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش. «رايدلماير واحد من أمناء المكتبات القليلين الذين واجهوا مجرمي الحرب»، حسب أوفيندن.
يتضح حب أوفيندن للمكتبات والأراشيف، لا سيما مكتبته وأرشيفه هو، طوال صفحات الكتاب. يعود مراراً إلى البودليان ويحرث أعماقها بحثاً عن الحكايات والمخطوطات. في فصل بعنوان «الفردوس المفقود؟» يستعيد إحراق الكتب في أكسفورد، الذي حدث في «مربع الكليات القديمة» في 16 يونيو (حزيران) 1660 الذي حدث أثناءه أن «جلبت وأحرقت» كتب جون ملتون بعد أن «أخذت من تلك المكتبات حيث كانت». وفي فصل آخر، «كيف تعصى كافكا»، يروي القصة المشهورة لرفض ماكس برود إحراق أوراق فرانز كافكا، التي يوجد معظمها الآن في مكتبة البودليان، فأنقذ أعمال واحد من أعظم الكتاب في القرن العشرين.
ربما يكون إنجاز أوفيندن الأهم في كتابه «إحراق الكتب» هو إثبات أهمية المعرفة المحفوظة وقوتها المستمرة، سواء كانت في ألواح طينية، في لفائف البردي، في المخطوطات، الكتب المطبوعة أو البَيْتة (byte) الرقمية. عن الألواح المسمارية في بلاد الرافدين القديمة يقول أوفيندن: «أراد الحكام معلومات تساعدهم في تحديد الوقت الأنسب لشن الحرب، وزرع المحاصيل، وحصادها، وما إلى ذلك». «اليوم ما زال المستقبل يعتمد على سهولة الوصول إلى معرفة الماضي وسيكون أكثر اعتماداً بتغيير التقنية الرقمية للطريقة التي يمكننا أن نتنبأ بها بما سيحدث».
لكن هذه «الأجسام الرقمية للمعرفة» تختلف بطبيعتها وكمها عن الكتب التقليدية والمخطوطات. يلاحظ أوفيندن أنه في عام 2019 أرسل 18.1 مليون رسالة نصية كل دقيقة، بالإضافة إلى 87.500 تغريدة. في «ويكيبيديا» خمسة إلى ستة آلاف مطالعة في الثانية. وأرشفت «آلة ويباك» للخدمات الرقمية في كاليفورنيا 441 مليار موقع. يقول أوفيندن: «إن أرشفة مجموعات المعلومات التي تصنعها شركات التقنية، مثل الإعلانات على (فيسبوك)، والمواقع على (تويتر)، أو معلومات المستعمل (الخفي) المخزنة من قبل شركات تقنية الإعلان (آد تِك) هي واحدة من التحديات الرئيسية التي تواجه المؤسسات المعنية بحفظ المعرفة».
يرى أوفيندن عدداً هائلاً من التهديدات للمعرفة وسط هذا «الفيضان الرقمي». هناك «لنكروت»، تلك الروابط التي تقودك إلى مواقع لم تعد متوفرة. هناك هجمات سيبيرية من نوع رفض الخدمة كالتي سببت شللاً لإستونيا عام 2007، حين أُمطرت المواقع بالاستفسارات، ما أدى إلى اجتياح الخوادم وجعلها تتوقف عن العمل (حتى مكتبة البودليان استهدفت بها). هناك «الأخبار الكاذبة»، بالإضافة إلى «المعلومات البديلة»، ومعالجة المعلومات أو المسح المتعمد لها. يرى أوفيندن ظهور «ممالك المعرفة الخاصة» و«الرأسمالية الرقابية» بوصفها تهديداً: «كمية غير متناسبة من الذاكرة البشرية أتيحت الآن لشركات التقنية دون أن يدرك المجتمع الحقيقة أو أن يكون قادراً فعلاً على إدراك النتائج».
خبرة أوفيندن المهنية وعاطفته الشخصية واضحة على كل صفحة من «إحراق الكتب». وصفه للمكتبات بأنها حافظة للمعلومات وحارسة بوابة وسمسارة أحياناً على محور المعرفة – القوة يبعث على الإعجاب. لديّ مماحكة واحدة مع هذا التاريخ المميز. في فصله المعنون «سراييفو حبيبتي»، حول إحراق مكتبة سراييفو، يشير أوفيندن إلى النمسا بوصفها «الحاكم الاستعماري السابق للمنطقة». يجب القول إن البوسنة والهرسك ضُمت، وليس استعمرت، من قبل الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية. لكن هذه الهفوة يمكن اغتفارها لمواطن ينتمي إلى قوة استعمارية سابقة قضى معظم حياته في أعماق مكتبة البودليان.
عند فتح تاريخ أوفيندن الرائع والمثري، ربما يصاب القارئ بخيبة أمل، كما أصبت، حين يجد نفسه وجهاً لوجه مع ملاحظة الشاعر الألماني في القرن التاسع عشر هاينرش هاينه: «كلما أحرقوا الكتب، أحرقوا الناس أيضاً». مع أن أوفيندن يقدم واحدة من أكثر الترجمات ألقاً، فإني أتساءل عما لو أنه وجد عبارة لا تقل بلاغة ولكنها أقل شيوعاً. عند الانتهاء من الكتاب، أدركت أن الموضوع يتطلب تلك العبارة بالضبط وأنها في الحقيقة عبارة لا يمكن القول إنها تستعاد أكثر مما ينبغي.
* نقلاً عن {ليتراري ريفيو} (7 سبتمبر، 2020)
- عن الشرق الأوسط