القصبة.. قلب الجزائر العاصمة: ملهمة الأدباء والفنانين

  • عباسية مدوني

كانت مدينة الجزائر تُدعى (إكوزيوم) في زمن الفينيقيين، حيث كانوا أول من أسس المدينة. وتقع مدينة الجزائر شمالي وسط جمهورية الجزائر، وتطل على الجانب الغربي من البحر الأبيض المتوسط، وتتكون من جزأين: جزء يعرف بالقصبة، ويمتد على حافة تلة شديدة الانحدار (122 متراً فوق سطح البحر)، وجزء حديث يقع على مستوى الساحل القريب من البحر.

جميلة بوحيرد

وقد توسعت المدينة نحو الشمال الغربي على سفح جبل (بوزريعة) الذي يبلغ ارتفاعه (400) متر، وامتدت نحو الشرق خلف مصب (واد الحراش) على حساب الأراضي الخصبة لسهل (متيجة)، وذلك على طول الخليج باتجاه الجنوب والجنوب الغربي على التلال المنحدرة نحو الساحل. ومن أهم مسميات الجزائر العاصمة؛ نجد: البهجة المحروسة والجزائر البيضاء، كما تكتنز فيها العديد من المعالم الأثرية والتاريخية، على غرار حديقة التجارب، وكنيسة القلب المقدس، وميناء سيدي فرج.. وغيرها.

ويعد حي القصبة من أهم المعالم الأثرية والتاريخية، التي تستنشق منها عبق الماضي، فهذا الحصن العثماني الذي يشبه متحفاً تاريخياً أصيلاً قائماً في الهواء الطلق، أو قلعة مليئة بالأسرار التاريخية الجميلة والصور الفنية القديمة، يتحدث عن تاريخ ساكنيه أثناء المرحلة العثمانية، ثم مرحلة الاحتلال الفرنسي للجزائر، فالقصبة، أو (حي البسطاء) كما تسمى في الجزائر، كانت ولاتزال ملهمة للأدباء والفنانين الجزائريين، ومؤدي الأغاني الأندلسية والمالوف والشعبي، وحتى أصحاب الحرف والجمعيات والفرق الرياضية المحلية.

كان في القصبة ما يقارب عشرة آلاف بناية في العهد العثماني، وتقلص عدد المباني إلى ألف مبنى، بسبب محاولة التجديد الفرنسي للمباني بعد الاحتلال، الذي أوجد أحياء جديدة على أنقاض المباني العثمانية، فتداخلت المرحلتان العثمانية والفرنسية، وأخذت المباني العثمانية والفرنسية تتعايش في القصبة لتحولها إلى ما يشبه المتحف الحي، الذي يجسد المرحلتين معاً في آن، وقد قامت منظمة اليونيسكو سنة (1990) بتصنيف القصبة العتيقة في الجزائر ضمن التراث العالمي، ما شجع السلطات الجزائرية على اتخاذ إجراءات لإحياء القصبة من جديد، وإعادة ترميم مبانيها.

والقصبة؛ حسب بعض الإحصاءات، عبارة عن ألف بناية، تعود إلى زمن الوجود العثماني في الجزائر و(450) بناية أسست زمن الاستعمار الفرنسي، عرفت عدة تحولات مع بداية الاحتلال الفرنسي سنة (1830)، حيث تم هدم شطر كبير منها لفسح المجال للمدينة الأوروبية الجديدة. والغريب أن القصبة العتيقة صمدت أثناء حدوث الزلزال القوي، الذي ضرب الجزائر العاصمة يوم (21 مايو 2003)، والذي تسبب في انهيار العديد من البنايات الجديدة، وتجلب القصبة كل سنة أكثر من مليون سائح ‏من دول مختلفة، وتستقبل أكثر من (500) ألف مواطن يومياً، نظراً لأهميتها التاريخية والاجتماعية، كما يزورها العديد من المؤرخين وعلماء الآثار الأجانب لدراسة ‏معالمها التاريخية.

حسيبة بن بوعليالقصبة La Casbah… التحفة التاريخية التي لاتزال تلهم الأدباء والفنانين الجزائريين حتى الآن، (العاصمة القديمة) كما يسميها بعضهم أيضاً، مازالت صامدة لقرون طويلة في قلب مدينة الجزائر البيضاء، وهي رمز خصوصية العاصمة الجزائرية اليوم، تقف شاهدة على تفاصيل المرحلة العثمانية ومرحلة الاحتلال الفرنسي، والثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي الذي دام (132) عاماً، فبرغم قدم أحيائها، ظلت تحافظ على تراثها التاريخي المنقوش داخل البيوت والمحلات، وفي الأزقة، وعلى الجدران والنوافذ والأبواب القديمة التي تحكي ألف حكاية وحكاية.

إنها القصبة التي ألهمت الكاتب الجزائري الراحل محمد ديب في ‏رواياته الشهيرة، وألهمت المجاهد الجزائري ياسف سعدي في إعداد كتابه الشهير (معركة الجزائر)، وألهمت مغنّي الشعبي والأندلسي، الذين تغنوا بجمالها في الكثير من الأغنيات الشعبية الجميلة، كأغاني محمد العنقي، فحي القصبة بموقعه ومعالمه وهندسته الفريدة، يعتبر أكبر تجمع عمراني للمباني القديمة التي يعود تأسيسها إلى العهد العثماني قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة (1830).

وهي مبنية على طراز تركي عثماني، تشبه المتاهة في تداخل أزقتها، بحيث لا يستطيع الغريب الخروج منها بمفرده، وجميع تلكم الأزقة تنتهي بأبواب المنازل، وشوارعها عبارة عن أزقة ضيقة وأنفاق تحت العمارات والسلالم، كون مدينة الجزائر مبنية بالتدرج على هضبة تمتد من البحر إلى القمة.

وتعني كلمة (القصبة): المدينة المحصنة والمحاطة بالأسوار، ولها أبواب معروفة وتحكمها قوانين معيشية خاصة وصارمة، من أهمها مواعيد فتح وغلق الأبواب الكبرى، وقصبة الجزائر، هي على غرار القصبات الأخرى الموجودة في الجزائر من الناحية العمرانية، مثل قصبة بجاية وقصبة قسنطينة وقصبة ورقلة في الجنوب الجزائري.. وغيرها، أو القصبات المعروفة في الدول العربية كتونس والمغرب وسوريا.

لـ(قصبة الجزائر) خمسة أبواب هي: باب جديد، باب دزاير، باب عزون، باب الواد، باب البحر، وكانت الأبواب تغلق عند غروب الشمس ولا تفتح إلا عند طلوعها، وتتحول القصبة منذ طلوع الصباح إلى سوق مفتوح مليء بالمحلات ودكاكين الحلي والتحف والملابس والخضر والفواكه، وسط تلك الأزقة الضيقة.

محمد ديبولاتزال قصور القصبة موجودة إلى يومنا هذا، مثل: قصر مصطفى باشا، وقصر دار الصوف، ودار عزيزة بنت السلطان، وقصر الداي، وقصر خداوج العمياء، وهي ابنة الداي حاكم الجزائر أيام الوجود العثماني التركي في المدينة، وقصر سيدي عبد‏الرحمن.. وكلها مبانٍ تروي حكايات أسطورية جميلة حدثت داخل القصبة ووسط بيوتها وقصورها، إضافة إلى قصر دار الحمرة الذي تحول اليوم إلى دار للثقافة، وقصر أحمد باي الذي أقيم فيه المسرح الوطني (محيي الدين بشطارزي) بالقرب من ساحة بورسعيد اليوم، فأضافت هذه القصور الكثير لمدينة الجزائر التي صمدت هويتها برغم جملة الاحتلالات الأجنبية المتعاقبة عليها. وفيها عدة أزقة أهمها: زنيقة العرايس، زنيقة مراد نزيم بك. كما تشتهر بعدة عيون مشهورة، كالعين المالحة في باب جديد، وبئر جباح في قلب القصبة، وزوج عيون في أسفلها.

كان السكان داخل بيوت القصبة يعتمدون نفس النمط العمراني في البناء، لذلك تجد منازل القصبة جميعاً، منازل ذات طابقين أو ثلاثة طوابق، وفوقها سطح كبير، وتتوسط المنزل ساحة صغيرة أو كبيرة بحسب مساحة المنزل، تدعى الحوش، أو وسط الدار، وتوجد فيه نافورة المنزل، وفي جانبه بئر المنزل، إذ تشبه منازل القصبة في الكثير من تفاصيلها المنازل الشامية العريقة، وفي الطابقين الأرضي والأول توجد حجرات المنزل، من (بيت الضياف) أو (السقيفة)، إلى حجرات النوم والمطبخ. وكانت نساء القصبة العتيقة يستخدمن ساحة المنزل لغسل الثياب، حيث توجد في الحوش وسط الدار، بئر المنزل، وكنّ يستخدمن سطح المنزل لنشر الغسيل.

علي لابوانتوالملاحظ أن السكنات في القصبة، كانت كلها تتربع تحت بعضها بعضاً، فلا يسمح لمن هو أسفل من الآخر، أن يأخذ لنفسه ببيته طبقات أعلى، قد يحرم بها جاره من هواء البحر البارد أو منظر البحر الجميل. وفي القصبة أيضاً الكثير من القصور والمنازل الفاخرة ذات الطراز العربي الإسلامي، كما تلفت أشكال النوافذ الجميلة نظر كل زائر لجمالها وروعة صنعها وإتقان تشييدها، حيث أقيمت بواسطة أوتاد خشبية قصيرة وأخرى طويلة.

ومن أبرز المساجد التي تشتهر بها مدينة القصبة العتيقة بالجزائر هناك: المسجد الكبير، ومسجد كتشاوة، ومسجد علي شنتير، و‏كان قصر دار سبيطار في حي القصبة العتيق يمثل معقلاً للثوار المجاهدين من رجال ونساء الحركة الوطنية، أمثال: ‏علي لابوانت وأحمد زبانة وجميلة بوحيرد وياسف سعدي و
حسيبة بن بوعلي وزهرة ظريف وعمار ياسف.. وغيرهم من المجاهدين الجزائريين.

القصبة؛ المعلم الأثري الذي مايزال يقاوم، يعد أنموذجاً عريقاً للعمران، ورمزاً ثقافياً صادحاً، وبؤرة إلهام فني وحضاري، ومعقلاً للحرف التقليدية المتوارثة، والتي لاتزال الجهات المهتمة بالتراث والتقاليد، تسعى جاهدة كي تحافظ على نبضها وهويتها.

  • عن مجلة الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *