لا تختلف الكتابة النسوية في الجزائر عن نظيرتها في البلاد العربية الأخرى من حيث الإشكاليات والمآزق والتحديات المطروحة. إنها مجال نقاش يفلت من سياجات المسألة الأدبية بحصر المعنى ليطال عمقَ البنية الثقافية والاجتماعية لمُجتمعاتٍ لم تخرج، إلى اليوم، من سياج الذكورة باعتبارها فضاءً وإطارا مرجعيا قام على مركزية الفحل وأحادية الصوت الذي يغيبُ معه صوت الأنثى. لم تكن الأنثى في تراثنا الأدبي والثقافيِّ شهرزاد تمتلك صوتا فحسب، وإنما مشروع قتيلةٍ لا تنتظرها إلا جلجلة المحو على مذبح الذكورة الطاغية. وربما كان أقصى ما تستطيعه الأنثى هو أن تتماهى مع صوت الذكورة المُهيمنة من أجل انتزاع نوع من شرعية الحضور أو المكانة ضمن مجتمع يتأسَّسُ نظام قيمه على سيطرة الفحولة. إنَّ «الجنس الثاني» لم يغيِّر موقعه، بكل تأكيدٍ، في المجتمع العربيِّ وهذا ما يجعل الكتابة النسوية أيضا ظلا لأصداء الذكورة الطاغية في ثقافةٍ ظل نظامها الرمزي يتمحور حول المطلق والمتعالي فكريا، وحول الأبوية سياسيا واجتماعيا.
ربما لم تحصل الخلخلة الجزئية إلا بداية من تعرّف العربيِّ على الآخر المُستعمِر الذي أنجز حداثته الأولى القائمة على الليبرالية والأنسنة وجموح العقل وامتدادات الكوجيتو اجتماعيا وسياسيا. ولكنَّ الذي يهمنا، هنا، هو هذا الاغتراب الذي ظلت تعانيه الكتابة النسوية العربية بعيدًا عن القدرة على إنتاج النص المختلف الذي يحدث القطيعة مع مدارات الذكورة الطاغية. هذا ما يُفسِّره، جزئيا، بقاءُ الكتابة وظيفة مرتبطة بالذات السيدة وبقدرتها على البوح. فأين الأنثى العربية من هذا؟ لقد ظلت الكتابة امتيازا وخروجا من الظل إلى ضوء تحقيق الذات وازدهارها وحضورها على مسرح الحياة. ومن المعروف أنَّ مجمل القيم المؤسِّسة للكتابة في المجتمع العربيِّ التقليدي كانت من نسج الفحولة وتعكسُ رؤيتها للعالم وموقفها المبدئي من الأشياء. وهذه الرؤية الثقافية قائمة، تحديدًا، على العنف والسيطرة وعلى إقصاء الأنثى من كل فاعليات الإنسان في الفضاء العام. هذا، أيضا، ما يفسِّرُ إلى حدّ ما ذلك الحضور الباهت للكتابة النسوية في العالم العربي وفي الجزائر بخاصة. فمن الناحية الكمية يمثل عدد الكاتبات نسبة ضئيلة جدا؛ ومن الناحية الكيفية لا تخرج هذه الكتابات عن الرغبة المحاكاتية للحضور الذكوري المهيمن في المجتمع بمعزل عن هاجس التميز وإبراز شرعية الاختلاف وغنى الإنساني الذي طمسه الاختزال الراجع، في بعض صوره، إلى هيمنة الثقافة البطريركية لقرون.
ليست الكتابة النسوية عملا إبداعيا تقوم به الأنثى في المشهد الثقافيِّ وفي الفضاء العام لإنتاج الآثار الجمالية أو اقتحام أسئلة المعنى والقيمة فحسب. إنها، أساسا، مساءلة عميقة لنظام عمل الثقافة السائدة ومراجعة لشرعيتها وكشفٌ لهوامشها المنسية المُغيبة عن الفعل والحضور ونعني بذلك المرأة تحديدًا. وبالتالي فهذه الكتابة تندرجُ ضمن خط خلخلة المركز الذكوريِّ وإبراز الفروق والتباينات الثقافية وأشكال الاختلاف التي ينضحُ بها الواقع الإنساني الشامل. ربما هذا ما قد يُسهمُ، أيضا، في تجاوز الأساطير المُؤسِّسة للثقافة الذكورية وهي تجعل من حواء مخلوقا من ضلع أعوج للرجل الأول. فهل نتحدثُ عن كتابة نسوية في الجزائر أم عن نساء كاتبات؟ هل الكاتبة الجزائرية هي الخنساء أم فرجينيا وولف؟ هذا ما يجبُ، برأينا، أن ندقق فيه قليلا. فأن يتكاثر عدد الكاتبات عندنا لا يعني، على الإطلاق، أننا نملك كتابة نسوية حققت شرط استقلالها وتميزها عن أصداء الموروث الذكوري ومنظومة القيم المتمحورة حول الثقافة البطريركية. هذا ما يُشيرُ إلى إمكان وجود نسوةٍ كاتبات يُسهمن في إطالة أمد الحساسية التقليدية في النظر إلى العالم باعتباره صنيعا للذكورة. تكون الكاتبة، هنا، جارية في السَّراي الثقافيِّ المهيمن ولا تمثل خطرًا داهما على مركزية الذكورة في الثقافة السائدة.
يتم النقاشُ غالبا عندنا في الجزائر حول الكتابة النسوية من منظور لا يُقدِّرُ حجمَ القضية باعتبارها مشكلة نضال ضدَّ بعض تناقضات المجتمع وثقافته السائدة التي رسَّخت آليات العنف والتهميش والهيمنة ودونية الأنثى بوصفها طبيعة. ولكنَّ الأمر الملاحظ في الجزائر -ومعظم البلاد العربية أيضا- هو أنَّ هناك انتصارا نسبيا لهذه الثقافة الأبوية يتمثل في انجراف الكثير من الأصوات النسوية إلى فلك الذكورة ومحاولة احتلال موقع فيه. هذا هو وضع الخنساء تحديدًا: أن تكون الأنثى فحلا أدبيا. تكون الثقافة الذكورية، هنا، مرجعا ومعيارا ومنظومة قيم تغيبُ عن مجالها صورة الأنثى باعتبارها إنسانا مختلفا. ومن الملاحظ أنَّ الكثير من التيارات الفكرية الأصولية والاتجاهات الدينية لا يخرجُ عن هذا الذي ذكرناه باسم معصومية المرجعية الفكرية السائدة تاريخيا. إنَّ الكتابة النسوية الحقيقية -خلافا لذلك- ليست هرولة وراء محاولة اكتساب الشرعية الأدبية والفكرية من الأستاذية الذكورية وإنما هي عمل ضديّ تتم من خلاله مساءلة الينابيع الأولى للكينونة قبل أن يتمَّ اغتصابُ حقيقة الإنسان من خلال فعل عنفي اختزالي.
يبدو لي، شخصيا، أنَّ تناول مسألة الكتابة النسوية في الجزائر بمعزل عن هذا الذي أتينا على ذكره قد لا يذهبُ بنا بعيدًا في استقصاء الواقع الأدبيِّ وفهم المشهد الثقافيِّ كما يجب. إذ يبدو من غير الدقيق الحديث عن الكتابة النسوية في مجتمع لم يعرف حِراكا كبيرًا على مستوى نظام عمله وعلاقاته التقليدية بين الرجل والمرأة. فلم يعرف المجتمع العربيّ ولا الفكر العربيّ ثورته النسوية المنشودة وإنما بقي منشغلا بانتكاساته المتتالية وهو يشهدُ انهيارَ مشاريع الوحدة والاشتراكية والتقدم. ليست الكتابة النسوية، في عمقها، إلا انعكاسا لجهد الانعتاق من قمقم الثقافة السائدة ومعاييرها وسلطتها الرمزية. الكتابة فعل كلام وحضور وتميّز ومغايرة. إنها كوجيتو الكيان وإعلان الذات عن وقوفها على ركح تراجيديا العالم. الكتابة غبطة الميلاد وأوجاعه. فهل ولدت عندنا المرأة؟ هل انبثق كيانها الحر وأصبح بإمكانها أن تمتلك صوتا؟ تبقى هذه الأسئلة مفتوحة -على ما نرى- دون أن نُبديَ رأيا نقديا في متن إبداعيّ جزائري أصبح يتميز بحضور لافت نسبيا روائيا وشعريا.