أنا وروحي وحنين: في الهويّة الأجناسيّة: بين العتبات والمتن السّرديّ

سفيان بن عون*

تمهيد
أصدرت سامية إبراهيم الحاجي كتابها هذا ” أنا وروحي وحنين” سنة تسع عشرة وألفين وقد وسمته بذاك العنوان وقالت أنه رواية. نحن إذن أمام نصّ سرديّ روائيّ بامتياز هو ليس عملها السّرديّ الأوّل، فقد أصدرت قبله نصوصا سرديّة أخرى (قصص) ولكنّه عملها الروائيّ الأوّل.
كان بالإمكان اختيار أيّ زاوية من زوايا هذا العمل للاشتغال عليها سواء من ناحية المحكيّ أو من ناحية الخطاب، فالنص من الحجم الكبير (237ص) وهو حتما مثير لقضايا وإشكاليات متنوّعة وكثيرة، ولكن و حين نشرع في عمليّة القراءة و الّتي هي حتما إعادة بناء و إنتاج للنّصّ نجد أنفسنا أمام حيرة كبرى، هل نحن فعلا أمام رواية خاصّة و أنّ الكاتبة زادت من حيرتنا حين و ضعت كلمة رواية على غلاف كتابها بين قوسين * هل قصدت بذلك أنّها لا تعتبر عملها رواية بالمفهوم المتداول و المعروف؟! هل هي بصدد المغامرة والتجريب ونحن نعلم أنّ الأدب لا يكون تجريبيّا إلاّ “إذا جدّد في الأشكال وكان صريح الرّفض لسنن الإبداع
والقراءة “(1).


فهل كانت الكاتبة حاملة لهذا المسعى ولهذه الغاية؟ أي هل كان هناك فعلاً منحى تجريبيّ في هذا العمل؟
الإشكال ليس قائما فقط في شكل الكتابة او نوعها (تاريخيّة، نفسيّة، ذهنيّة…) وإنّما أيضاً في علاقة هذا العمل بأنواع أخرى.
ألا يمكن مثلا أن نتحدّث في هذا العمل عن سيرة ذاتيّة لعدّة أسباب سنفصّلها في إبّانها. واذا ما أفلت العمل من هذه الخانة ألا يمكن أن يسقط في خانة “السّيرة الرّوائية”* أو في باب أدب الرّحلة أو الاعترافات او حتى المذكّرات. بل أكثر من هذا، ألا يمكن أن يكون منفلتاً عن التجنيس؟، أفليس” المزج بين الأجناس أو الاستخفاف بها يمثّل في حد ذاته جنسا من الأجناس. ” (2)
في الهويّة الأجناسيّة: لا يبدو الحديث في هذه المسألة أمراً سهلاً فالمجال شاسع واسع تداول فيه النّقّاد والفلاسفة منذ عهد أرسطوّ و أفلاطون مروراً بغوته و هيجل و صولا الى النّقد الحديث اليوم و إنّ المدارس والآراء فيه متنوّعة و متداخلة و سنحاول أن نوجز في هذه المسألة كي نستطيع أن نوظّف ما سنصل إليه و نعتمده كجسر إلى المتن الذي سنشتغل عليه.
كارل فيتور والمقاربة النّمطيّة: يعتبر “فيتور” في أغلب أبحاثه ومقالاته (3) بأنّ مسألة الأجناس الأدبيّة نتاج فنّيّ من أشدّ الأصول غموضاً و أنّ القول الفصل فيها أمر عسير وصعب ، لكن واعتماداً على الأدب
الألماني يقترح تقسيما ثلاثيّا للأجناس هي “الملحمة والمأساة والشّعر الغنائيّ” وهو نفسه التّقسيم الأرسطي الأفلاطوني القديم وقد وقع استبدال عبارة “دراما” ب “مأساة”.”
“فالّدراما تطابق وضع الإنسان بما هو رغبة وفعل ،أمّا الملحمة فهي تناسبه بما هو كائن يعرف ويتأمّل و أمّا الشعر الغنائيّ فيطابق و ضع الإنسان بما هو كائن شعور نذر للتغيير”(4) لكن ماهي مكوّنات جنس أدبيّ ما؟ هل هو المضمون وحده؟!
يرفض فيتور هذا الطرح ليصرّح بأنّ “تحديد جنس ما من خلال المضمون يبدو أمراً غير دقيق
والجزئيّات الّتي تحدّ بين الأجناس يبدو أنّها حينها تختفي كلّيًّا “(5) ولكنّه يقرّ بأهمّيّة الجانب الشّكليّ في تحديد الأجناس، فما يميّز الجنس هو جملة من الخصائص الشّكليّة ” فالأجناس تعني حلقة من الإمكانات الشّكليّة “(6) والجنس الأدبي لا وجود قبليّ له وإنّما ينشأ عبر تراكمات إبداعيّة ولا يمكن أيضا أن نقول أنّ أثرا ما يمثّل الصّورة الفضلى لجنس ما وهو تقريباً نفس ما يذهب إليه قوته ف ” لن نجد في أيّة لحظة أثرا يمكن أن نقول عنه إن النمط يتحقق فيه وأنّه الجنس في تمام اكتماله “(6)
ويصبح الحديث عن النموذج أمرا نظريّا لا غير إذ أنّ الحصول عليه يتطلّب جرداً تاريخيّاً لكلّ الأعمال
وهو ما يقود إلى كتابة تاريخ الأجناس، لكن أصلاً ما هو تاريخ الأجناس؟!
ولكن وفي كلّ الأحوال “فإنّ الجنس يظهر بالفعل في التّاريخ مع الآثار الفرديّة لكنّه لا يذوب فيها بل يتعالى عليها…”(7) فالنّموذج في حقيقة الأمر ليس إلاّ نموذجا نظريّا و “نحن نحصل على نموذج لجنس أدبيّ معيّن من خلال معاينة كلّ الأعمال الفرديّة الّتي تنتمي لهذا الجنس. “(8)
والجنس يبدأ بالأعمال الفرديّة، ولكنّه لا يقف عندها. فمن وجهة تاريخ الأدب الجنس ليس موجودا حقيقة إلاّ داخل الأعمال الفرديّة.
جيرار جينات والمقاربة النقديّة: يرى جيرار جينات أنّ ثمّة ثلاثة أشكال أجناسيّة شائعة: الشّكل الغنائيّ والملحميّ والدّراميّ، وينفي أن يكون هذا التّقسيم عائداً إلى أرسطو كما يعتقد الكثير من النّقّاد أمثال
“وليك وارن” و “فراي ” و ‘فيليب لو جون” وأيضا “باختين” و “تود وروف. (9)
يعود “جينات” إلى تصنيفيّة “أفلاطون ” وهو مؤسّس علم الأجناس حسبه وليس أرسطو، ففي جمهوريّته تحدّث أفلاطون عن المأساة والملهاة والملحمة، وقد اعتبر الناّقد نفسه أنّ تصوّر كلّ من أرسطو وأفلاطون لنظريّة الأجناس ” عمّق الغموض والالتباس اللّذين رنا عليها طيلة قرون” (10)
ويعتبر جينات أنّ الأجناس هي الأصل، وأنّ الأنواع متفرّعة عنها، ومقولة الجنس هي بالأساس مقولة ادبيّة. ومن خصائص بحث جينات اعتباره أنّ كلّ جنس قادر على احتواء عدّة أجناس ” فالأنماط الكبرى المتتالية الّتي تقابل في الغالب منذ غوته بينها وبين الأشكال الصّغيرة والأجناس المتوسّطة ليست سوى طبقات أوسع وأقلّ تخصيصاً لهذا السّبب قد يكون لامتدادها الثقافي إمكان أن يكون أكبر لكنّ مبدأها ليس أكثر أو أقلّ تاريخيّة من الأخرى.” (11)
: يقرّ شافير بصعوبة البحث في مجال الأجناس ويعتبر أنّ “جان ماري شافير “ووجهة النظر التّفسيريّة
” أغلب النّظريّات الأجناسيّة ليست نظريّات أدبيّة حقّاً، بل هي نظريّات في المعرفة.” (12) ناقداً البحوث السّابقة والّتي خلطت بين البحث في تعريف الجنس والعلاقة الرّابطة بين النّصوص والجنس، فيطرح السّؤالين الآتيين: ما العلاقة الّتي تربط النّصوص بالأجناس؟
ما العلاقة الّتي تربط نصّاً معيّناً بجنسه؟
وهذا المبحث أي المبحث الأجناسيّ هو بحث في الأصول والكلّيّات ما يجعل حسبه العمل يحيد عن عالم الأدب إلى عالم الفلسفة والأنطولوجيا لذلك يحوّل شافير النّقاش إلى ما يلي.
هل تنمّي الأجناس جوهر الأدب أم أنّه بعكس ذلك لا يوجد حقّاً إلاّ النّصوص الفرديّة؟ وإذّاك تكون الأجناس مجرّد تصوّرات زائفة؟ أم أنّ الأمر ليس هذا ولا ذاك. أهو الاثنان معاً؟ وهذه الأسئلة كما يرى شافير ليس لها ” موضوع حقيقيّ “(13). ويدعو إلى القطع مع اعتبار الأجناس أمراً متعالياً على النّصوص، ويرى أنّ العلاقة بين النّصوص والأجناس إنّما هي علاقة انتماء إلى طبقة نصوص. فماهي العلاقة الّتي تربط نصّا بجنسه؟
إنّ النّصّ عنصر من عناصر الطّبقة أو هو مادّة تاريخيّة في لحظة معيّنة وأمّا الجنس فهو مقولة للقراءة يضمّ مكوّنا تقنيّا فهو معيار قراءة
أمّا اهتمام النقاد العرب بالمسألة الأجناسيّة فقد كان متأخّرا، نذكر من بين من اشتغل على هذا الموضوع خلدون شمعة* وقد اعتبر أن التّحديد الواضح للجنس الأدبيّ من شأنه أن يساهم في توجيه القارئ في فهم العمل الأدبيّ و في نفس السّياق نجد عملاً مهمّا للناقد المغربي عبد الفتاح كليطو و الذي يعتبره د .عبد العزيز شبيل من ” بين أهمّ من تصدّوا لدراسة المسألة الأجناسيّة الأدبيّة. “(14)
ولا يقلّ عمل سعيد يقطين “الكلام والخبر: مقدّمة للسّرد العربيّ” أهمّيّة عن سابقه، ولعلّ أهمّ ما يصل إليه سعيد يقطين اعتباره للجنس حاملا للخصائص الثابتة للكلام أما النّوع فالمقولات المتحوّلة في الكلام فكلّ جنس. “يتضمّن مجموعة من الأنواع تختلف صفاتها البنيويّة عن بعضها البعض وإن اشتركت في البعد الجنسيّ الّذي يجمعها.” (15)
ويظهر من خلال ما تقدّم مدى التّداخل والتّعقيد الّذي يلفّ هذا المبحث ما يكشف عن صعوبة المسألة وشدة الغموض الّذي يلفّ هذا المبحث ما يكشف عن صعوبة المسألة و شدّة الغموض الذي يحيط بها .المسألة إذا حاملة لتصوّرات مختلفة و متعدّدة بسبب حدّة الموضوع و تشعّبه و تفرّعه ف”الأجناس الأدبيّة ماهي إلاّ صيغة خاصّة من صيغ تشكّل اللّغة ” (16) على أن هذا لن يربك اشتغالنا على النصوص السردية باعتبار أنها تدخل ضمن باب كبير هو الدراما والذي يمكن أن يتفرع عنه جملة من الأنواع أو الأنماط :القصة/الرواية/السيرة/السيرة الذاتية…وسنسعى إلى النّظر في عمل سامية الحاجة في أي خانة يمكن وضعه و إلى أي جنس /نوع أدبي ينتمي؟ هل هو فعلا ينتمي لجنس الرواية كما أشرت هي نفسها على غلاف كتابها أم أن النص ينزاح إلى جنس آخر لعلّه “الرّحلة” او “السّيرة” أو “السّيرة الذاتية” أو حتى” الرسالة “؟ أو لعلّه كلّ هذه الأجناس/ الأنواع مرّة واحدة…مفرد في جمع و جمع في مفرد …نصّ هارب ،هجين بلا هويّة أفليس “المزج بين الأجناس أو الاستخفاف بها يمثّل في حدّ ذاته جنساً من الأجناس.” (17)
-2 “أنا و روحي و حنين “: بين العتبات و المتن الحكائيّ هويّة صارخة أم إلغاز أجناسيّ: نروم في هذا المستوى من البحث تحديد خصائص العمل الدراميّ الّذي أطلقت عليه صاحبته و منذ البداية اسم رواية. فهل هو فعلا كذلك؟ وهل يستجيب لخصائص هذا النّوع إذا ما اعتبرنا أنّه متفرّع عن نوع السّرديّات.
أم أنّه يقترب أكثر من نوع /جنس آخر يتماهى معه ولكنّه في نفس الوقت مختلف عنه بخصائص مميّزة(يمكن هنا أن نستعير عبارة “دي سوسسير” في اللّغة حين يتحدّث عن السّمة التّمييزيّة ) والمقصود بذلك طبعا جنس السيرة الذاتية و لعلّنا نمارس هنا وجها من وجوه ما أطلق عليه “جورج ماي ” مكر القارئ فالقارئ حسبه ماكر بطبعه فحين تقدّم له رواية فإنه سيسعى بكل جهده أن يبحث فيها عن الوقائع التي تطابق الواقع وما يمكن أن يتماهى فيها من أحداث مع ما يمكن أن يكون قد وقع في حياة الكاتب نفسه كي يقول لك أنك تكتب سيرة ذاتية و تتخفى خلف رواية ، وإن قدّمت له سيرة ذاتيّة فإنه سيبحث و بكل قوته عن الخيال في النص، وعمّا لا يتطابق مع الوقائع كي يثبت أن العمل قائم على التخييل لا على تسريد الوقائع الشخصية وأحداثا تاريخيّة عاشتها الذات في مرحلة من تاريخ حياتها
ومن ثمّة ينزاح بالعمل إلى مجال الرواية نافيا عنه أن يكون سيرة ذاتية…أكثر من هذا ألا يمكن أن نكون في هذا العمل أمام أدب الرّحلة؟ أوليس السفر /الرّحلة مكوّنا أساسيّا من مكوّنات الحكاية في هذا العمل؟!
1-رواية أم سيرة ذاتيّة: لن نخوض في هذا المستوى من العمل في المتن السّرديّ وما يحتويه بل سنركّز أكثر على ما يحيط به وهو ما اصطلح على تسميته ب “
أو “المصاحب النّصّيّ” كما عرّبته د. جليلة طريطر* و يتوزّع هذا المصاحب النّصّيّ على “ Paratexte
” أي ” الحاشية، أو محيط النّصّ ” Peritexte”فرعين
وفيها اسم المؤلّف / العنوان / العناوين الدّاخليّة وكل ما يوجد في صفحة الغلاف الرابعة أمّا الصّنف “أي المصاحب النّصّي الخارجيّ وهو ما يرد خارج النّصّ: Epitexteالثّاني فما يسمّيه جيرارجينات ب كلّ ما يقوله المؤلّف بشأن نصّه في الحوارات الأدبية أو في وسائل الإعلام وهي نوعان
مصاحب نصي تأليفي خاصّ بالمؤلّف.-
.مصاحب نصّيّ نشريّ خاص بالناشر –
إنّ المصاحب النّصّيّ فضاء هامّ فرغم ما يبدو عليه في الظاهر من انحسار إلاّ أنه أوسع ممّا نتوقّع فهو “منطقة غير محدّدة أي واقعة على تخوم الدّاخل(النّصّ ذاته) و الخارج (الخطابات الخارجة في حدود المتن التي تتحدث عن النّصّ).”(18)
إ نّ العتبات ما كان منها داخليا أو خارجيا مساهمة في تفكيك النص و تأويله و لعل المصاحبات الخارجية ذات تأثير أكبر و فاعليّة أوسع في هذا المجال باعتبار اتّساعها و لا محدوديّتها إذ هي ” كلّ الملابسات السّياقيّة و التّاريخيّة الّتي تكشف بدرجات متفاوتة عن معلومات أو وقائع خارجيّة من شأنها أن تؤثّر في عملية تفكيك النّصّ . ” (19)
أ – المصاحب النّصّيّ الدّاخليّ و مؤشّراته الأجناسيّة: لن أخوض في هذا المستوى من العمل في التّفاصيل الدّقيقة الّتي تميّز بين الرّواية و السّيرة الذّاتيّة و لن أدقّق كثيراً في خصائص الكتابة السّير ذاتيّة فقد عنيت دراسات و بحوث كثيرة بهذه المسألة * سواء في الدراسات الغربية أو العربية .لكن يكفي أن نعلن أن هذا المبحث مبحث جديد و لا يزال موضوع بحث إلى اليوم و القول فيه لم يحسم بعد ولكن رغم ذلك يمكن أن نشير إلى ثلاث خصائص أساسيّة يمكن اعتبارها حدّا فاصلاً بين عالمي الرّواية و السّيرة الذّاتيّة الّتي هي بالأساس خطاب استعاديّ نثريّ يروي فيها الكاتب /البطل تفاصيل حياته و تاريخ وجوده…هذه الخصائص المميزة هي :
-العقد السّير ذاتيّ
-المطابقة بين المؤلّف والسّارد والبطل
-تكتب السّيرة الذّاتيّة مبدئيّا الحقيقة /التّاريخ، في حين تقوم الرّواية على عنصر الخيال
نجد على غلاف الكتاب اسم مؤلّفه و هي سامية حاجي إبراهيم وفي الصفحة الرّابعة نجد صورة للمؤلّفة نفسها كما نجد اسما آخر في غلاف الكتاب و هو لصاحبة لوحة الغلاف و اسمها ماجدة الحاجّي وهي أخت المؤلفة أما في الفصل التاسع عشر فيرد تحت عنوان “برهوم” و المقصود به حتماً إبراهيم وهو اسم الأب في واقع الحياة كما هو والد الشخصية البطلة /السّاردة في النّصّ فهل هي صدفة أم هو سعي من المؤلفة إلى تدوين تاريخ والدها النضالي…تقول ” والدي إبراهيم أو برهوم كما أناديه…كان غارقا في أحداث فلسطين وهو يطالع كتابا عن صديقه أبو فيصل…” (20) و سنكتشف أن أبا فيصل ليس في الحقيقة سوى “حسن مرزوق” و هو شخصية بطلة في النص و لكنّها تحيل على خارجه باعتبارها شخصية مرموقة في مدينة قابس و قد صدر في المدّة الأخيرة كتاب يتابع سيرة حياته للصّحفيّ نورالدين بالطيب* و عساه هو عينه الكتاب المتحدّث عنه في “أنا و روحي و حنين “. صحيح أنّ التّطابق لا يحدث بين المؤلف والبطل في العمل (وفي ذلك كسر صريح لشرط مركزي من شروط السيرة الذّاتيّة) ولكنّه يحدث في الوظيفة ” أجدني أجلس قبالة المكتب عوض الخلود للنّوم، إنّه هاجس الكتابة الّذي يلحّ عليّ منذ مدّة للمصالحة.. امتثلت لهذا النداء…”(21)
يظهر في النّصّ مؤشّر آخر على التّقارب القائم بين “حمامة سراج ” الكاتبة البطلة في القصّة وسامية الحاجّي المؤلفة وهي ” ماجدة” شخصيّة تظهر لماماً في النّصّ ولكن حضورها البرقيّ لافت ومثير فهي الدّوّامة على لوحة الغلاف و هي الصّامتة في النّصّ لا تتكلّم إلاّ قليلا خنقتها حمامة سراج و أسكتت صوتها …. يكفيها رسمها لوحة الغلاف…”ماجدة هي محبّة للحياة…هي رسّامة فلولا كسلها لاستطاعت أن تدخل هذا الباب ومن أوسعه. “(22) فهل من باب المصادفة أن تكون ماجدة الحاجي صاحبة اللوحة كما هو مكتوب في أسفل صفحة الغلاف من الجهة اليمنى و الذي يأتي في شكل إمضاء مصحوبا بتاريخ الرسم (2013) هل هي مجرد صدفة إذا و تشابه في الأسماء لا غير أم أنه فعل متعمّد واع أنجزته الكاتبة ممعنة في التلاعب بالقارئ من أجل مزيد إرباكه و دفعه إلى البحث في مقاصد العمل و تفكيك شفراته ليرتقي الفعل القرائي إلى “مرتبة الفعل الإنتاجي أي المنجز لدلالة ممكنة تنشأ بفعل قراءة عبر نصية أبرز سماتها تفعيل شبكة الرّموز و كل الأنساق اللّفظيّة الّتي يمكن للنّصّ أن يدخل معها في علاقات تفاعليّة سياقيّة.”(23)على أنّ من المصاحبات النّصّيّة المصاحبة و المثيرة للحيرة في هذا العمل ما ورد في آخر الكتاب و بعد انغلاق “الرّواية” و نهايتها نعثر على رسالة من روحي و حنين إلى حمامة سراج تهنئانها فيها على عودتها إلى عالم الكتابة هذا نصّها” إلى حمامة سراج و غدا عدت إلينا لكتابة الرواية بعمق حجمك و بعبق الحرّيّة. بدفء الحبّ السّعيد المطمئنّ ووفرة الكون. ” وفي الحقيقة فإن مثل هذا المصاحب النّصّيّ لا يزيدنا إلاّ حيرة و ينأى بنا بعيدا عن الجنس الذي توقعنا أنهه الأقرب إلى مضمون هذا النص، فهذه الخاتمة غير المتوقعة حملتنا إن بشكل او بآخر إلى فن الترسل، هي رسالة قصيرة، صحيح أنها خالية من الدّيباجة و التخلص و الخاتمة كما عهدناها عند القدامى و لكنّها حاوية لمرسل و مرسل إليه ومضمون و غرض إضافة إلى الخاتمة فهل يؤشر هذا المصاحب النّصّيّ إلى بداية نص جديد؟ هل هو نصّ موازٍ للرّواية؟ هل هو تتمّة لها؟ الإجابة صعبة، فقط يمكن أن نقول أنّه مصاحب يزيد من إرباكنا ويكثّف من حيرتنا أمام هذا العمل…
(Epitexte)-ب: المصاحب النّصّي الخارجيّ
نذكر أنّ المقصود بالمصاحب الخارجيّ كل ما يقال عن النص ولا يكون موجودا فيه وهو على نوعين
خاصّ بالكاتب: “مصاحب نصّيّ تأليفيّ””-
خاص بالناشر: “مصاحب نصي نشريّ” “-
و بما أنّ الكاتبة في هذا العمل هي النّاشر نفسه فإنّ النّوع الثاني غير قائم بالنّسبة لنا ، ما يبقى إذا هو المصاحب النّصّي التأليفيّ. يتوزع المصاحب النصي الخارجي التأليفي على نوعين
– مصاحب نصّيّ مكتوب: و قد ورد في جريدتي “الدستور ” الأردنية و “لبنان اليوم ” * و فيهما تتحدث الكاتبة عن روايتها و تسعى إلى تصنيفها فتعتبرها رواية تاريخية و ذهنية و سيرة و هي أيضا مذكرات باعتبار أنها تتحدث عن مذكرات الأب في رحلته للقتال و المقاومة في فلسطين و سوريا .و هذا المصاحب النصي لا يؤشر في الحقيقة إلا على هذا التداخل النوعي الموجود في النص(في الحقيقة لا نرى اي بعد ذهني قائم في العمل يمكن أن يحملنا إلى اعتبارها كذلك.)
وفي مصاحب نصي مكتوب ثان وإن لم يكن في الحقيقة مطولا باعتباره كان حوارا قصيرا بيني وبينها أكدت لي فيه أن والدها سافر فعلا إلى فلسطين وأمّا أختها ماجدة فقد أكدت لي أنها فعلا ترسم، هذه “المصاحبات المكتوبة” تؤكد تسلّل الواقعي/التاريخي إلى النص الرّوائيّ و ان ماجدة التي تحاور حمامة سراج في الرّواية و تشجعها على الكتابة ليست في الحقيقة إلاّ الأخت خارج النّصّ كما داخله…لكن هل يكفي هذا كي نعتبر النّصّ سيرة ذاتيّة؟
ج – مصاحب نصّيّ خارجيّ مرئيّ
هو المصاحب الوحيد من هذا النّوع الّذي عثرنا عليه و يتمثّل في حوار متلفز أجرته الكاتبة في برنامج صباحي* في التلفزة الوطنية التونسية الأولى و يدوم ثلاث دقائق و بضع ثواني و ما يهمّنا فيه هو إقرار الكاتبة نفسها أن الكاتب لا يمكن له في كتابه الأوّل أن يبتعد عن سرد وقائع سيرته الذاتيّة ،ولذلك تقول أنّها فضّلت أو اختارت أن تكون عمليّة السّرد بضمير الأنا ، كما لاحظنا تماهٍ واضح حادث في ذهن المؤلفة بين السّاردة و الكاتبة فهي تقريبا لا تجد حرجا في أن تعترف ان حمامة سراج ليست إلا هي نفسها أي سامية إبراهيم الحاجّي ولعلّ جعل الاسم ثلاثي التكوين في كلا الحالتين ليس إلا انعكاسا لهذا التماهي و التداخل بين الكائنين (الورقيّ و السّياسيّ) في ذهن الكاتبة. يقرب كل هذا الأثر من السّيرة الذاتية دون أن يكونه بسبب غياب شرط مركزي و محوري في نص سامية الحاجي و هو شرط العقد السير ذاتي وهو مالا يتوفر مطلقا في “أنا و روحي وحنين ” كما تستوجب كتابة السيرة الذاتي شهرة صاحبها “فهي عادة فن أدبي لا يكتبه إلا المشاهير من أهل الثقافة و السياسة و الحياة العامة. ” (24).
وهو شرط غائب أيضا كذلك هو شأن التطابق بين المؤلف والسّارد والبطل، فاسم البطل/ السارد مختلف كلّ الاختلاف عن اسم المؤلف، وهو ما يجعلنا رغم ما صرّحت به الكاتبة في حوارها التلفزي نتهيّب من اعتبار التطابق قائما.
إذا كنا أمام نص ليس بالسيرة الذاتية فما عساه يكون و قد احترزت الكاتبة نفسها على اعتباره رواية حين وضعته بين قوسين على لوحة الغلاف فهو رواية كلا رواية ، رواية مفارقة لعالمها عائدة إليه ،هي رواية من ناحية باعتبار توفرها على العناصر الإنشائية الأساسية لذلك الجنس و لكنها في نفس الوقت مفارقة له و لكنها أيضا تنأى بنفسها عن ذلك النوع/الجنس بسبب الكم الهائل من الواقعي و التاريخي سواء كان شخصيا متصلا بالكاتبة نفسها أو الآخر…(والدها /محسن مرزوق صديق الأب)…فهل يمكن أن يحملنا هذا إلى اعتبار النص مهاجرا إلى جنس جديد بدأت ملامحه تتشكل في بعض النصوص العربية و نقصد بذلك السيرة الذاتية الروائية…أو هي بكل بساطة كتابة متمردة على الأجناس خارجة على القواعد و القوانين تبني لنفسها عالما خاصا عالم شديد التعقيد و التنوع واللايقين ف “روح الرّوائيّ هي روح التعقيد فكل رواية تقول للقارئ إن الأشياء أكثر تعقيدا ممّا تظن .ّ “(25) وفي هذا النص كثير من التنوع و التعقيد : تاريخ/سيرة/رحلة/ رسائل /ملامح سيرة ذاتية…كثير من الحيرة و التساؤل و محاولة لفهم الذات و الآخر دون تقديم أجوبة أو ادّعاء اليقين ، تقول السّاردة محاورة نفسها متسائلة عن معنى الكتابة و أسبابها و غاياتها ” هل نحن ندوّن الواقع ام نبحث عمّا نفتقده لندوّنه…ولكن كيف أستطيع الكتابة عن شيء مختلف عن الموت و مرادف للحياة …” (26)
خاتمة:
لم يكن من اليسير كما تبيّن محاصرة هذا العمل لسامية الحاجّي ووضعه في خانة أجناسيّة بعينها بسبب هذا التداخل الأجناسي/النوعي الكبير القائم فيه ،فقد حاولت الكاتبة أن تتحدّث عن ذاتها وعن رحلتها في الحياة وعالم الكتابة فجعلت من بطلتها كاتبة (حمامة سراج) أعيتها الكتابة و خنقها العجز، فصارت الرّواية في جزء منها واصفة لنفسها (الميتاروائي) باحثة بذلك عن ماهية الكتابة و خصائص الإبداع فحاولت التّخلّص من القواعد السّائدة و أعلنت تمرّدها لكن ظلّ السؤال قائما في مستوى المتن السّرديّ دون أن يمرّ إلى تجريب حقيقي يتخطّى المألوف و القائم، فباستثناء هذا التداول بين الحكايات والّذي كسر نمطيّة و خطّيّة السّرد لا نجد تمرّدا فعليّا على الشّكل السّائد ” فالأدب يكون تجريبيًّا إذا جدّد في الأشكال وكان صريح الرّفض لسنن الإبداع و القراءة. ” (27) و التجريب كما نعلم مشروع نظرت له “الرّواية و لا يبدو مطلقاً Telquelالجديدة وجماعة
العمل الذي نحن بصدده قد تماهى معه أو ارتكز عليه أو اعتمد بعض قواعده أنّ
إنّ تفرّع الحكاية وتشتتها وهذا في الحقيقة ليس إلاّ صورة من تشظّي الذات و عدم قدرة السّاردة على تقبل هذا الواقع الصادم والمتقلب (زادته الثورة إرباكا و اهتزازا) جعل النص ينمو مشتتا تتجاذبه الأجناس و الأنواع وتتداخل فيه الحكايات دون نظام واضح.
إن تشظي الذات الساردة وانكسارها قد أدّى حتما إلى هذا التيه والإلغاز الأجناسي. لكن ألا يمكن أن نعتبر هذا الإلغاز الأجناسي ميزة هذا النص وعلامته الفارقة… ف” المزج بين الأجناس أو الاستخفاف بها يمثّل في حدّ ذاته جنسا من الأجناس.” (28)
سفيان بن عون
قابس/تونس

الهوامش
نعود إلى هذه المسألة فيما سيأتي من البحث.*
(1) رشيد ثابت: التّجريب وفنّ القصّ .
(2) جيرار جينات : مدخل لجامع النصّ .ص29 تعريب عبد الرّحمن أيّوب.
Theorie de genresيرد هذا المقال في ( 3)
ن.م : ص 12( 4)
(5 ) ن.م : ص 21
(6 ) ن.م : ص13
(7) ن.م : ص 22
( 8)عبد العزيز شبيل :نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري .ص22
كارل فيتور:ن.م :ص26 (9)
(10) انظر جيرار جينات مدخل لجامع النص .ص ص 17/18/19/20/21.
(11) عبد العزيز شبيل :نظريات الأجناس الأدبية في التراث النثري. ص 29
(12) جيرار جينات مدخل لجامع النص ص42
(13) عبد العزيز شبيل: نظريات الأجناس:مقال من النص إلى الجنس: ماري شافير. ص179
*خلدون شمعة: مقدمة في نظرية الأجناس الأدبية مجلة المعرفة عدد177. سوريا
(14) ن.م : ص 64
(15) ن.م : ص 128
(16) فرج بالرمضان الأدب العربي القديم و نظرية الأجناس . ص
(17) جيرار جينات: مدخل إلى جامع النص .ص 92
(18) جليلة طريطر:أدب البورتريه :النظرية و الإبداع .ص 14
ن.م : ص156(19)
*انظر مثلا :فيليب لو جون “السيرة الذاتية الميثاق و التاريخ الأدبيّ”/جورج ماي: “السّيرة الذاتية”./د.محمد الباردي “عندما تتكلّم الذّات:السّيرة الذّاتيّة في الأدب العربيّ الحديث”./د. جليلة طريطر : “مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث”…إلخ.
ن م : ص16(20)
انظر تقديمه لكتاب “حسن مرزوق من قابس إلى فلسطين.” *
سامية الحاجي: “أنا وروحي وحنين” ص ص 90/91 (21 )
ن. م: ص1 (22)
ن .م:ص22(23)
) د. جليلة طريطر :أدب البورتريه .ص1724)
2014/04/15:جريدة الدستور الأردنية بتاريخ*
جريدة لبنان اليوم بنفس التاريخ
. برنامج نسمة صباح: على القناة الوطنية التّونسيّة الأولى*
د. محمد الباردي: “عندما تتكلّم الذّات ” ص57 (25)
ميلان كونديرا: “فنّ الرّواية ” ص24(26)
(27) سامية الحاجي :”أنا وروحي وحنين ” ص98
جيرار جينات: “مدخل لجامع النّصّ “ص 92(28)

  • كاتب من تونس
  • عن المجلة الثقافية الجزائرية

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *