-
هشام روحانا
*(ما الذي تقوله الصورة)*
سأتناول هذه الصورة لزيارة ماكرون وهي الصور المعتمدة والتي عممتها للصحافة ريما ابنة فيروز القائمة على تواصل الفنانة مع العالم الخارجي. وأول ما تلتقطه العين الرائية للحيز داخل الإطار، وبعيدا عن الشخصيتين الحيّتين والمتقابلتين هو تواضع غرفة الاستقبال وما توحيه من انسجام وتناظر معمول عليهما برأفة فنان. كنبة شعبية ذات توشيحات شائعة تعود الى الاثاث المتداول والبسيط، تتوسط المشهد. على كل جانب، طاولة صغيرة تحمل كل منها صور العائلة الرحبانية، نستطيع أن نميز بينها صورة لزياد بربطة عنق حمراء وصورة لعاصي شابا، وصورتان بالأسود والأبيض واحدة لفيروز تعتمر قبعة والثانية ربما لمنصور. مسبحة زرقاء يوحي الجو العام بأنها مسبحة صلاة لسيدة مؤمنة. لا نستطيع أن نتحقق ما هي القطع الموجودة على الطاولة المقابلة، لكن على هذه وعلى تلك نرى لمبة كهربائية مضاءة.
تتوسط الجدار لوحة فنية لفيروز نعود إليها لاحقا. التناظر المتعوب عليه يتحقق من خلال مرآتين توأمتين بيضاويتين، في وسط الشكل البيضوي مرآة رباعية الأضلاع واحدة على يسار الصورة والأخرى على يمينها، تقفان كعامودين يتوجهما تاج على شكل مثلث وكأنه مأخوذ من مدخل عمارة الخزنة -البتراء النبطية. تخدم المرآتان وظيفة شمعدانين يحملان شمعا كنائسيا غير مضاء، فيكتفي المشهد بالاضاءة الكهربائية. على كل جانب من اللوحة ثلاث أيقونات بيزنطية. أزح كلا الشخصيتين الواقفتين، ينبني أمامك رويدا رويدا مشهد يعيدنا الى فيروز- زنوبيا على مسرح مدينة تدمر القائمة من تحت الرماد.
الأيقونات البيزنطية الحاضرة على جانبي اللوحة الفنية تعود الى تقاليد الكنائس الشرقية والأرثوذوكسية تحديدا. على الجانب الأيسر للناظر ترتفع أيقونة “يسوع ضابط الكل” – واحدة من أشهر الايقونات الارثوذكسية. العبارة المكللة للرأس تعني “أنا الكائن”. يجلس فيها إبن الأنسان على عرش الجلالة الالهية، يبارك بيده الناظر الى الايقونة ويشير إلى نص في الكتاب المقدس المفتوح، ويقرأ في العادة: “لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكمًا عادلاً” “لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون” (يوحنا 7: 24 ومتى 7: 2). إبن الانسان هنا محب عادل يدعو الى المغفرة والتجاوز. هذه هي الايقونة الوحيدة ليسوع على حائط فيروز. بجانبها تماما نجد ايقونة “سيدة قازان” وهي أيقونة خاصة بالكنيسة الارثوذكسية الروسية ذات شهرة واسعة وتتمتع في المعتقد الديني الشعبي بخصائص شفائية وعجائبية، وهي حامية الايقونة الحامية لروسيا أمام الغزو الاجنبي وتعود إلى عام 1569 على الأقل، حيث عثر عليها في مدينة قازان. الأيقونة الإضافية على هذا الجانب هي أيقونة الأم المرضعة وربما يعود تاريخ ايقونات الام المرضعة الى الكنيسة القبطية، يظهر فيها يسوع الطفل وهو يرضع من ثدي أمه العذراء التي تحتضنه بحنان «ذلك أن المسيح الطفل يبكي هو أيضا مثل سائر الأطفال، ويُعاني مثلهم آلام الطبيعة، الجوع والعطش والخوف والوحدة»، بحسب أحد الشروح اللاهوتية. يظهر الطفل يسوع هنا بثوب أبيض مزين بالأحمر وبرداء ذهبي في رمز للألوهية. يشار الى السيدة العذراء باليونانية “والدة المسيح” و “كلية التسبيح”.
على الجانب الآخر من اللوحة الفنية لفيروز؛ أيقونة للعذراء تحيط بها مشاهد من البشارة مع الملاك جبرائيل، يظهر فيها القديسان متر وجريس (جرجس،Saint George) وهما من القديسين الشهداء حسب الكنيسة الارثوذوكسية، اما القديس متر (ديمتري) فهو يوناني من مواليد تسالونيكي اشتهر بوصفه الجندي الشجاع والمقدام المدافع عن مدينته وحاميها. وله يرتل: “أنت الحافظ مدينتك غير متصدّعة، لأنك أنت ثباتها” و”توسل إلى المسيح الإله، أن يهب لنا الرحمة”.أما القديس جريس أو مار جريس فهو فلسطيني المولد وما زالت تحتفظ مدينة اللد الفلسطينية حيث ولد برفاته. مار جريس هو قاتل التنين الذي بحسب الاسطورة الشعبية كان يطلب كل يوم ضحية من أطفال المدينة طعاما له، فعندما جاء الدور على ابنة الملك توسل اليه ملك المدينة فأنقذها بقتله التنين. ويشير مغني الحدادي الى هذه الاسطورة في الموروث الشعبي الفلسطيني على شكل اهزوجة فلكلورية تغنى في الأعراس ويتلو هو أبياتها ويردد وراءه الحضور “يا حلالي يا مالي” ويجيئ فيها ذكر مار جريس يتيم الأب الذي يرتحل وأمه إلى بيروت لضيق ذات الحال وهناك بحسب بعض الروايات تدور أحداث الاسطورة، يشدو الحدا في الأعراس, ويردد الحاضرون بعد كل بيت من أبياتها (يا حلالي يا مالي). بداية هذه القصيدة وبعض أبياتها على الشكل التالي : أول مـانـبـدى نـمــدح فـي مارجريـس سيـدنـا… بو جريس راح الحرب ومات خلف لجريـس حسـرات….” الى أن يصل دور الملك ليقدم أبنته ضحية للتنين، “دورك يــا مـلـك دورك مـا حـدا خالـف شـورك… قــدم بنتــك دسـتـورك، قدمـهـا للـحـيـوان”. وربما لهذا توكل حماية بيروت المدينة له بالاضافة لمدن عديدة أخرى. يقوم البعض بربط مار جريس بالخضر المعروف في الموروث الشعبي في بلاد الشام، لكن صحة هذا الربط تحتاج الى مزيد من التحقيق حيث أنه يذكر باسمه جرجس دون ربطه بسيدنا الخضر لدى كل من الطبري و ابن بطوطة. الا ان معنى الاسم هو الحارث وربما عبر هذا المعنى يمكن الوصول بالتجاوز الى الزراعة والى ذي اليد الخضراء. تعلو هذه الايقونة بشكل طفيف ايقونة اضافية غير واضحة المعالم. الأيقونة الأخيرة هي أيقونة الأم الهادية أو المرشدة، موشاة بالفضة ذات سطح غير مستو في تأثير ارميني واضح، وفيها تدلّ العذراء بيدها الى الطفل يسوع، اشارة الى دورها في إرشاد الناس إلى الطريق أي المسيح. وكما في كلّ أيقونات العذراء، تحاط بثلاث نجوم للدلالة على بتوليتها قبل الولادة، وأثناء الولادة، وبعد الولادة.
إن الحضور الوافر لايقونات السيدة العذراء يشير إلى علاقة فيروز الاستثنائية بها. فهي حين ترتل تراتيل الجمعة العظيمة؛ “أنا الام الحزينة، وما من يعزيها” و”وا حبيبي اي حال انت فيه” أو ” اليوم علق على خشبة” فأنك تكون قائما في خضم الحدث الجلل- المسيح على الصليب، أن قدرتها الروحية والوجدانية لتَمثُل ألم الأم التي يُسلم وحيدها للموت، تفوق إعجاز صوتها الملائكي الحزين.
في المركز لوحة فنية تعتز بها فيروز بشكل خاص. وهذه اللوحة بالألوان الزيتية هي استعادة للوحة سابقة بالفحم وتعود اللوحة للفنانة الكرواتية جوستينا ســـــيسي سرسق زوجة حبيب سرسق اللبناني. بورتريهات السيدة فيروز الثلاثة تظهر شخصيتها متعددة الأوجه؛ الحالمة، الجريئة و المنطوية الى ذاتها. تنزل فيروز من عليائها في بيتها المشحون بالرموز والدلالات والإيحاءات الى ترابية الواقعي المصاب بنترات الأمونيا، سيدة جليلة بوشاح رأس تقليدي يجمع شعرها الذي ما زال كثيفا رغم السنين وترتدي بتواضع عباءة شرقية سوداء موشحة بمنمنمات هادئة من تصميم المصمم اللبناني العالمي إيلي صقر والذي كان قد صمم لها العديد من ملابسها سابقا، وربما تعود هذه العباءة لمجموعته السابقة “الأسود يليق بك”. إن حضورها المتواضع وغير المتصنع ما هو إلا تعبير عن الألفة التي يضفيها على صاحب البيت بيتُه؛ وهي بحضورها المثقل حد الإشباع بالرموز الدينية والفنية حضور إجمالي للمسيحية الشرقية الضاربة عميقا في تاريخ المنطقة وهو حضور صاحب البيت في بيته؛ حضور الأصيل النقي الواضح والجليل.
ربما تلقي الصورة الثانية (الصغرى) لنا الضوء على زيارة الكولونيالي بالحلة الزرقاء وهي لماريشال فرنسا ودوق مالاكوف والمسؤول عن إبادة قبيلة بني صبيح -الجزائر- عام 1844، حيث تولى جنوده جمع كميات هائلة من الحطب وكدسوها عند مدخل المغارة التي حملت قبيلة أولاد صبيح على اللجوء إليها مع جميع متاعها وحيواناتها، وفي المساء أضرمت النيران وأخذت كل التدابير، لكي لا يتمكن أي كان من الخروج منها حيا». يقول من أخذ له الصوره: “يملك هذا الوجه تعابير جسارة دموية كالتي لخنزير بري”. بعد هذه المجزرة تمت ترقيته ليصبح حاكما عاما للجزائر.يعلق ماركس على هذه المجزرة التي يقترفها الكولونيالي الفرنسي كما على موبقات الكولونياليات الأخرى: “الوحشية كأي أمر آخر تخضع هي ايضا لتقلبات الموضة، فتختلف باختلاف المكان والزمان”.
يبدو لنا الآن أن حضور السيد ماكرون، هنا، حضور طارئ يزعج سكينة البيت. حضور كلمة فرنسية على بيت عتابا معتق (كما علق المبدع زياد على احد ابيات العتابا)
أنا هنا لأجلك\ لأجلكم – يقول ماكرون، أنت هنا لأجلك -تقول الصورة.
المصادر:
1) الماء في التراث الشعبي الفلسطيني عوض سعود عوض ؛ يُنظر أيضا في؛ البرغوثي. عبد اللطيف ـ الغاني العربية الشعبية في فلسطين والأردن جامعة بيرزيت مكتب الوثائق والأبحاث ـ ط1 حزيران 1979. القدس ص : 212 ـ 213
2) مار جرجس وسيدنا الخضر، صحيفة المدن، الموقع الالكتروني.
3) الأب سمير الياس في حديث لل “بي بي سي” يُنظر صحيفة المصري اليوم.
4) جماليات الايقونة في الفن المسيحي ؛ مجلة بابل للدراسات الانسانية المجلد 5 العدد 1.
5) ( Berard (P L): les deux villes de Tenes et Boumaza, Alger, Bastide, 1864,p 165).