محمد معتصم
غالبا ما نصف الكتابة بأنها عملية نسيان، وعملية محو، وكأن ما نكتبهُ من محدثٍ يلغي السابق عليه، وينسيه من الذاكرة ويمحوه من الوجود. في حين أن الكتابة مرادف للتدوينِ والتسجيلِ والتقييدِ والتزميمِ، وكلها مترادفات تعني التثبيت والتأكيد على الوجود والالتزام، والارتباط. أي أن كل محدثٍ لا يلغي ما سبقه في الوجود، ومن ثمة جاء الحديث عن الطروسِ، جمع طِرْسٍ؛ وهو “الصحيفةُ، الكتابُ الذي مُحِيَ ثم كتبَ ثانيةً”[1]، لقد ورد الحديث عن الطروس، في النقد الأدبي في معرض حديثِ عن “المتعاليات النصية” وفي تعريف “التناص”، وفي تعريف “النص”، كما ورد الحديثُ عنه بصيغ ثلاث في معرض الحديث عن “السرقات الشعرية” عند ابن الأثير في كتابه “المثل السائر”[2]، ولأن السرقات الأدبية عموما، هي كتابة على كتابة، في محاولة محو اللفظ وحده دون المعنى، أو محو المعنى دون اللفظ، أو محاولة إعادة صياغة اللفظ والمعنى بما يغاير أصلهما، وكل ذلك يدخل في باب المحو والنسيان، وقد أطلق على تلك العمليات الثلاث ابن الأثير المصطلحات الآتية: النسخ، والسلخ، ثم المسخ.
إذن، هناك أنواع من الكتابة؛
-
الكتابة، بمعناها العام، وهي تسجيل وتدوينٌ وتقييدٌ، وهدفها حفظ المعلومات من التلف والضياع، وغايتها التذكر في حال النسيان، فهي مرجعٌ للتذكر والتثبت من أمر أو أمور مر عليها الوقت أم تم نسيانها بعد الإهمال. وهذا هو المعنى الأصل للكتابة.
-
الكتابة الأدبية، وهي التي يمكن اعتبارها نسيانا ومحوا، لأن النص في معنى من معانيه، ليس سوى نتيجة لمجموع النصوص السابقة عليه. إنه تحديدٌ شمولي وعام، لا يمكن الاستدلال عليه قطعيا وتعميمه على كل النصوص المكتوبة والمنتَجَة. لأن النص ليس فقط معلومات أو مواضيع ومواقف وأحداث، فحسب، بل هو أسلوب وطريقة في التفكير والتعبير والتحليل، وهذه ليست متماثلة، بل منطقها العام الاختلاف، باختلاف المتكلم وثقافته ووسطه ومحيطه، وأهدافه…
-
الكتابة، تنفيسٌ وبوحٌ، من خلال تدفقها من الذاكرة واسترسالها كتيارٍ هادرٍ يجرف معه وفي طريقه الخاص كل العوالق، كل ما يعترض طريقه، تقومُ الكتابةُ بعملية تفريغ النفس من تباريحها، وفي الآن ذاته تقتلع الموانع التي تحبس النفس وتكبتها. إنها رياضةٌ وتمارين للذاكرة، تمارين لترويض اللاوعي على الاستيقاظ والتنَبُّه.
-
الكتابةُ، تحفيز وتنشيط للذاكرة، تقوم الكتابةُ بوظيفة ترميم الذاكرة وملء الفراغات والثقوب السوداء التي قد تطرأ على الأحداث والمعلومات المُخَزَّنَة والخبرات المكتسبة خلال مراحل تطور الذات العُمْريَّةِ، وهي بذلك انتقائية، تتمسك بأي حادث أو خبرٍ يطفو على سطح الذاكرة، وتعيد تصفيفه وتنضيده من أجل إعادة الانسجام لما اضطرب وتناثر في لحظة من الزمان.
عندما يختم الشاعر والكاتب حكمت النوايسة سيرته الذاتية “سجون” بهذه العبارة:” إننا بالكتابة نمحو”[3]، فهو لا يتحدث عن مفهوم الكتابة، بقدر ما يتحدث عن وظيفة الكتابة، لأن الكتابة في السيرة الذاتية، وظيفية، ودرجة التخييل فيها كما في النص التاريخي، صفر، كما يقول جون مشيل آدم[4] ، إلا أنها تتحايلُ ذلك بابتداع طريقتها الخاصة في صناعة تخييل مختلف، تخييلٍ يقوم على الأدوات التي تكتبُ بها السير الذاتية.
إن كاتب السيرة الذاتية الإبداعية التي تتمتع بدرجة مهمة من التخييل الأدبي، دون أن تسقط في مفهوم التخييل الذاتي، وتحافظ على حد منطقي للمرويات والمحكيات من الوقائع والأحداث، والشخوص والشخصيات، بالاشتغال على السرد، أي على طريقة ترتيب الأحداث وإعادة صياغتها، بمنطق جديد، وهذه واحدة من التقنيات التي وظفها حكمت النوايسة في روايته الأولى “الرجيف”[5]، واستعاد توظيفها في سيرته الذاتية الحالية “سجون”؛ إنها المحكيات الاستئنافية، وسأختار التدليل على ذلك بمحكي صديقه “حاتم” الحلاق، فقد بدأ محكي حاتم في المقطع/المسرد المعنون “سجن المنفذ: ثقب في الصورة”، عندما مر بمحل حلاقة، يقول:” فوجئتُ به، صديق أو رفيق قديم، دخلتُ لأحلق شعري، وكان منهمكا بحلقه زبونا”[6]، ثمَّ أفاض الحديث عن الصورة المعلقة على الجدار، وعي محفز قوي لتذكر الليلة التي ستخترق فيها القذيفةُ سقف الغرفة، محدثةً ثقبا هائلا، كأنه ثقبٌ أسود في الذَّاكرة، فالشيء بالشيء يذكر، والوقائع في التَّذَكُّرِ تأخذ صفة “التماثل” الرياضي (التقابل المِرْآوي). السارد سيؤجل ملء الثقب الأسود إلى حين لقاء رفيقه بمقهى “خبروني”، ليبدأ الحوار عاديا، “إلى أن وصلنا إلى تلك الليلة التي كنا فيها في تلك الغرفة التي ثقبتها قذيفة من وسط سقفها، ومَذَّ الله علينا أننا لم نكن موجودين فيها لحظة سقوط القذيفة”[7]
والسيرة الذاتية “سجون” مليئة بالمحكيات المتضمَّنة، منها المحكي التام، الذي يمنه الاستقلال بذاته، كما يمكنه أن يكون نواة لسرد مطول أو مركب من محكيات أخرى كبيرة أو صغيرة، تامة أو ناقصة (غير تامة)، ومثال ذلك محكي الأستاذ الجامعي الذي أحب فتاة وبادلته الحبَّ، لكن أهلها رفضوه، فبادلهم الرفض، بأن استقال من الحياة العامة، وأقام بالبيداء في بيت من الشَّعر، يكابد محنة اختياره، وقد دون الكاتب هذا المسرد في المقطع المعنون بـِ”سجن المخيلة: لا يدفع الحب إلا الحب”[8]، وهي تناص وتقابل مع المثل القائل “لا يفل الحديد إلا الحديد”، هكذا تلتئم الذاكرة، عبر التقابل، والتماثل، والتحفيز، والاستدعاء، والإثارة والاستجابة (الفورية أو بطيئة أو المخاتلة).
يقول الكاتب:” إنني أتدربُ على الكتابة”[9]، أي أستعيد مهارة الكتابة التي فقدتها أو جزءا مهما منها، لكنني في الوقت ذاته، أستدعي الذَّاكرة، أستحثُّ الأحدثَ على العودة من العتمة التي لاذت بها، أود هنا القول، إنَّ ما حدث للذاكرة لا ينبغي أن نعتبره “تخريبا”، فالذاكرة لا تخرَّبُ، وإن خربت فلا أمل في عودة مخزونها، إنما الفيروس (الجرثومة) تعمل عمل الفيروسات في الحواسيب، فهي لا تدمر الذاكرة، ولكنها تعمل على حجبها، وتعمية المحركات الباحثة عنها، بتضليلها، لكن متى ما تم التخلُّصُ من تأثير الفيروس وسحره، تسترجع الذاكرة نشاطها، ومع التدريب والتمهير تتقوى موصلاتها.
يسترجع الكاتب محكي “العاشق”، في صيغة الحلم. يقول:” نهضتُ، ودونتُ ما كان من الحلم، لعل له دلالة، أو لعلي أفيد منه في قادم أيامي. لكن، هل دونته بأمانة، أم أنني أضفت إليه شيئا، لا أعلم..”[10]. أولا، تعود الكتابة، إلى معناها الأصلي “التدوين”، فالكاتب يدون “الحلم” على الورق، على الصحيفة، على الطِّرْسِ، أي أن الكاتب لا يتعمد النسيان، بل يحفز الذاكرة على التذكر، لكن الطريق ما تزال طويلة، لذلك يلتبس عليه الأمر، هل ما دونه كان صادقا في تدوينه، ألم يخالطه بعض الخيال الذي يفسد الاعتراف والبوح وصدق السيرة الذتية، هنا يقفز الوعي إلى الواجهة، وهي المرحلة الأهم في الكتابة، وهي النقطة الفاصلة بين الكتابة التدوين والتسجيل وبين الكتابة النسيان والمحو، فالوعي هو الدليل الأقوى على أن الذاكرة في حال فقدان الذاكرة، لا تصاب بالخراب، وإنما يتم طمسها وحجبها عن الإدراك، ومتى ما تم إدراك الحقيقة بالتماثل أو التَّيَقُّنِ العيني، كما هي حال الكاتب مع مسقط رأسه (المزار)، مثلا، أو مقر سكناه وعمله، وعموما مع الأمكنة، إن الإدراك يقود حتما إلى الوعي، كما تقود الأحلام، بحسب فرويد[11]، إلى اللاوعي ومخزونه ومكنوناته، فهي الطريق الملكي الذي يقود إليه. ومما يدلُّ على أن الذاكرة في حال فقدان الذاكرة لا تصاب بخراب ولا تدمير المحكيات الصغرى الطريفة التي يرويها الكاتب معتمدا على “ذاكرته الخارجية”، أعني زوجته، التي قدم فيها “مديحا عاليا”، يحتاج إلى وقفة لوحده، ومنها، أنه لم ينس مخزونه اللغوي، ولم ينس مخزونه من سور القرآن، فقد كان يصوِّبُ وهو في الغيبوبة، أخطاء قريبه الذي يقرأ عند رأسه القرآن الكريم، إنما الذاكرة تحجبُ معلوماتها ومخزونها، بفعل الإصابة، لو أصيبت الذاكرة بخراب، لا قدر الله، لما تم استرجاعُ قدراتها لاحقا.
في مسرد حلم العاشق، يكتب الكاتب من موقع الارتياب، هل دونت الحقيقة كما رأيتها أم أنني اختلقت بعض أجزائها؟ هو سؤال مهم جدا، يجيب عن إشكالية، مميزة في كتابة فرانز كافكا، خاصة في “المحاكمة”، وكذلك في “مستوطنة العقاب”، مع العلم أن حوار المسرد الحلم، يتحدث عن “السلطة”، عن ألاعيب السلطة، عندما تَذهب نحو التشكيك في الفرد، وزرع الفتنة. يقول:” هل فعلتُ ما يدفعني أن أكون خائفا كل هذا الخوف؟ وهل أنا مِمَّن يفعلون ما يخيف، أو ما يجعل أي جهة تحقد عليَّ، أين فلسفتي في هذه الدنيا التي أراها مجرد رحلة تافهة لا تعني شيئا؟ مر هذا الهاجس كلمح البصر بين إجابتي وسؤاله الآخر”[12].
إن السؤال المرتابَ ينبعث من الثقب الأسود الذي أحدثته الإصابةُ (المرضُ)، لكنه في الوقتِ ذاته سؤال يجيب عن الانتقال من الواقع إلى الكتابة، فالكتابةُ تدوينٌ، لكنه تدوينٌ متخيل ووجود لغوي، لذلك يبعث على الطمأنينة، لأنه يخلق عالما متماثلا، يخلق شبه يقين للواقع، لا يعكسه تماما، ولكنهُ يحدِّدُ الحدود التي يحتاجها الوعي من أجل التثبت. بينما السلطة، والتشويه وبعث الريبة، والفتنة بين الرفاق، وزعزعة اليقين، تخلق نوعا من سوء الظن في النفس، والتوفز، والحذر، والخوف من السقوط في دوامة التبرير، تبرير ذنب غير مرتكب، مثل جوريف (ك)، لديه يقين تام في داخله بأنه لم يرتكب أي جريمة أو خطيئة، ومع ذلك سقط في محاسبة النفس ومعاقبتها. لماذا؟ ربما لمخلفات سابقة كما يرى إريك فروم، يبدأ الحلم بالتوقيف[13]، والحقيقة أن كافكا كان يرى أن حياته متوقفة؛ فشل في علاقاته، فشل في مواجهة بطش والده، فشل في مواجهة حقيقة عمله، لذلك كان التوقيف أهم ما يشغله لاوعيه. وكذلك الكاتب، فله يقين تام في الكتابة، لأنها تدوين وتسجيل وتقييدٌ، وكذلك محكي حلم العاشق، منسجم ومقنع، لكنه ينبني على الشك والريبة، لقد وصل الكاتب (الشخصية في الحلم) عاريا تماما، ليس على جسده رداء، لأنه تخلص من ملابسه، خوفا من أن تكون بها أجهزة تنصت ومراقبة ومتابعة، هذا أولا، وثانيا، المكان خلاء، أي عراء، إلا من بيتٌ مِنَ الشَّعر (خيمة)، ثم أنه لم يتوقف عن الشك في أن يكون الشيخ مخبرا متنكرا، في صورة فقير معدم ومنعزل زاهد في متع ملاذ الحياة:” هل يعقل أن يكون هذا الشيخ من مخبريهم؟”[14]. إن الارتياب نابعٌ من حالة الشك في قدرة الذاكرة على التذكر، إنها حالة تشمل المتن السير ذاتي وجل محكياته.
من طبيعة الذاكرة، أنها تلعب مع صاحبها ألعابا خطيرة، فتغيِّبُ عنه فجأة أحداثا مهمة، وفي أحيان أخرى تنسيه شخصا معينا، وتفاجئه في لحظات بعينها بالريبة والشك، فيقترب من شخصٍ على أنه صديق قديمٌ ورفيق طفولة أو عمل، أو غيرهما، فيتبيَّن لصاحبها أن الشخص ليس بقريب ولا رفيق، ولكنه شُبِّهَ لهُ، أو أنهُ شخصٌ صادفه في مكان مغلقٍ؛ مقهى، حافلة، قاعة عرض مسرحيات أو لوحات تشكيلية، أو قريب يزور جيرانه في فترة من السنة. لا توجد ذاكرة بدون ثقوب سوداء، والأحداث والشخوص ترتب بحسب درجة الأهمية والقرب، وبالتالي، هناك طبقات مردوم عليها تراب كثير، أذكر في حوار مع الممثل الشهير أنطوني كوين، عندما سألته عن اسم زوجته الأولى، لم يتذكره، لقد نسيها تماما، وهو بذلك يناقض قول أبي تمام الشهير كذلك “ما الحبُّ إلا للحبيب الأول”[15].
فما الذي لم تنسَهُ ذاكرةُ الكاتب، وذاكرة أي إنسان؟
إن ما يميز الذاكرة نسيانها أو تناسيها بعض الحوادث والشخوص، بسبب تباعد الصلة زمنيا، بينها وبين استعادتها، فتهمل، أو ما تغيرت شروط وجوده، أو ذكريات الطارئة والحديثة العهد، التي لم تتح لها فرصة الرسوخ في الأعماق، لذلك ما لم تغفله ذاكرة الكاتب أصناف نذكر منها؛
-
الذكريات العميقة والبعيدة، من قبيل محكيات الطفولة.
-
الذكريات الغريبة والمدهشة، من قبيل سلوك الكلبة التي رباها الكاتب وكانت تجمع ما سقط من أغراض الناس وما أهملوه.
-
الذكريات المؤلمة والجارحة، من قبيل السلوك الشاذ والعنيف والحاقد من عدد من مدراء المدارس التعليمية التي عمل بها الكاتب، وخاصة، السلوك الحاقد وكراهية بعض “الأعدقاء”- الأعداء في صورة أصدقاء- الذين كانوا يخافون على مناصبهم ومواقعهم في الجامعة فاعترضوا طريقه استنادا إلى مسببات واهية ووهمية، يتخفون خلفها حماية لكراهيتهم وأحقادهم وضعفهم. هؤلاء لم تنسهم الذاكرة لشدة تأثيرهم، والذاكرة تأبي، أية ذاكرة، نسيانهم، لأنها تصبح في حال من الحذر منهم.
-
الذكريات المرتبطة بلحظات الفزع والخوف الشديدين، من قبيل الطفل والبئر والأفعى.
-
الذكريات المرتبطة بالانتقام، وهو لحظة وعي وإصرار، من قبيل انتقام التلاميذ من مدير مدرستهم في عنزته
-
الذكريات المرتبطة بالذات، من قبيل حبس الكاتب نفسه في الحمام، كي لا يكشف حميميته أمام الأغراب، وهذه من الصفات السلوكية ذات القيمة الأخلاقية التي تترسخ في الذاكرة منذ الطفولة الأولى.
-
الذكريات ذات الصلة بالإنتاج الإبداعي، مثل القصائد الشعرية، وهذه بدورها متصلة صلة شديدة بالذات، وهي جزء منها، فيصعب نسيانها، أو حجبها طويلا.
وغير ذلك. والملاحظ أن الذاكرة لا تنسى كل فعل مرتبط بالسلوك، أي تلك الأفعال والمواقف التي تترسخ في اللاوعي، وتتحول بالعادة والزمن والممارسة والاحتكاك اليومي إلى “سلوك”، وإلى صفة من الصفات المميزة للشخصية.
ومن الأشخاص الذين يصعب نسيانهم، كذلك؛
-
الأم، لأنها تختلف عن كل الكائنات، فالأم “ليست امرأة”[16]، أي لا يمكن أن نَحُدَّها بحدود الكائن البشري، حدودا مادية، وقياسات رياضية (الطول والعرض والارتفاع)، الأم الكينونة في حد ذاتها. الأم التي تحب ابنها حكمت أكثر من إخوته وأخواته، وتتمنى لم فاستطاعتها إيقاف الطائر التي تقله في السماء فوق بيتهم. تفعل لو تستطيع.
-
الزوجة، الرفيقة، والأم، والذاكرة الخارجية الجديدة، والموثق والحافز والصبر على قدمين:” الزوجة الحبيبة هي الإنسان الذي أقابله بابتسامة كلما دخلت الغرفة، عنها وعنهم، هكذا رووا لي، وأيدت، ولا أتناول الطعام إلا من يدها، يبقى الطعام لا أحد يستطيع أن يعطينيه إلا هي، وكالطفل كانت تطعمني، كالطفل تماما، كانت هي الكون كله، وما زالت الكون كله، حتى بعد ذلك، تنافسها واحدة أخرى…”[17]
-
مايا، الابنة، الحبيبة تنافس أمها:”…تنافسها واحدة أخرى لم يسعفها جسدها لكي تكون معها، أمي، وأما بقية خلق الله، فقد أخذتهم الحياة، والحياة لص لا نعرف عنها هذا إلا عندما نمر باختباراتها الصعبة“[18].
-
الأصدقاء الأوفياء والأصفياء، ه ؤلاء يبقون قريبين من الذاكرة حتى في حال نسيان ملامح وجوههم أو تداخلها مع وجوه أخرى، في لعب من ألعاب الذاكرة، سواء في حال المرض أو الصحة.
تحتاج سيرة “سجون” الذاتية والأدبية للكاتب الشاعر والباحث الأردني حكمت النوايسة إلى أكثر من قراءة ودراسة تحليلية، وباستعمال مقاربات نقدية متعددة، لأجل استكناه خباياها، وتجلية مخزونها، سواء ما تعلق بالكتابة أو الذاكرة أو الإنسان في علاقاته، وفي صلته بمحيطه وبمكتسباته، ثم هناك أمرٌ مهمٌ جدا، لا يمكن أن يدركه إلا من مر بالمحنة ووضع على المحك، ودخل “التجربة”، إنه اليقينُ، اليقين الذي ينفض الغبار عن أوهامٍ كثيرة يتسابق الناس عليها، في غفلة وحمية، ويلهثون وراء أوهامها والأماني التي يصنعها خطاب إعلاميٌّ كذَّابٌ، وخطابات مغرضة شتى، تنشئ ثقافة وهمية وتعرضها على أنها الحقيقة، من قبيل التمثيل لا الحصر، صراع المواقع والمناصب، وحمى التموضع في الصفوف الأمامية للعبودية وفقدان القيمة الجوهرية للإنسان: الكرامة والحرية.
[1] المعجم العربي الأساسي، مجموعة من المؤلفين، منشورات لاروس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ALECSO)، 1989م، ص، (790).
[2] المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ضياء الدين بن الأثير، تقديم وتحقيق وتعليق، د. أحمد الحوفي ود. بدوي طبانة، منشورات دار نهضة مصر، الفجالة-القاهرة، القسم الثالث، ص، 218…
[3] السجون؛ سيرة ذاتية بين المرض والمخيلة، حكمت النوايسة، منشورات الجيدة، عمان- الأردن، ط.1، 2020م، ص، (157).
[4] Linguistique et discours littéraire, J.M. Adam et J.P. Goldenstein, Editions Larousse, coll »L », Paris, 1983, P : 307.
[5] نحو المحكيات السردية، محمد معتصم، منشورات دار فضاءات، عمان- الأردن، ط.1، 2018م، ص، 169…، “المحكي السردي الشامل”.
[6] السجون، مرجع مذكور، ص، (22).
[7] السجون، مرجع سابق، ص، (139).
[8] السجون، مرجع سابق، ص، (120)…
[9] السجون، المرجع السابق، ص، (70).
[10] السجون، المرجع نفسه، ص، (133).
[11] Psychanalyse, Freud, (Textes choisis), PUF, Paris, 1965, P : 65, in « La science des rêves », Alcan, Paris, 1900.
[12] السجون، مرجع مذكور، ص، (132).
[13] اللغة المنسية، مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، إريك فروم، ترجمة؛ حسن قبيسي، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، ط.1، 1992م، ص، (224).
[14] السجون، مرجع مذكور، ص، (128).
[15] البيت : “نقل فؤادك حيث شئت من الهوى/// ما الحب إلا للحبيب الأول”.
[16] السجون، مرجع مذكور، ص، (145)
[17] المرجع نفسه، ص، (61).