انتحار نعيمة البزاز.. راوية الجيل الثاني للمهاجرين المغاربة بهولندا

عماد فؤاد

“هل الاكتئاب شيء هولندي، أوروبي؟ أم جزء من عملية الاندماج ذاتها؟”- هكذا تساءلت شخصية الأم في قصة “المحرّمات”، للكاتبة الهولندية ذات الأصول المغربية نعيمة البزاز، والتي فاجأت الجميع بانتحارها صباح أمس السبت في العاصمة الهولندية أمستردام، عن عمر يناهز الـ 46 عامًا، بعد سنوات من الاكتئاب الذي خضعت للعلاج منه لفترات طويلة، وهو الخبر الذي أكدته دار نشر “ليبوسكي” في العاصمة الهولندية في جملة قصيرة تقول: “انتحار الكاتبة نعيمة البزاز بعد معاناة طويلة من الاكتئاب، تاركة خلفها زوجًا وطفلتين”.
لطالما اختفت نعيمة البزاز (46 عامًا) عن الأضواء غير عابئة بشيء، لا مكانة أدبية تشغلها أو صراع على الجوائز والمبيعات يؤرق عزلتها. لكنها أيضًا لم تخف امتعاضها، في كثير من المناسبات، من الغبن المسيطر على الساحة الثقافية الهولندية، والذي يبدو أنه ساهم في استفحال اكتئابها المزمن في السنوات الأخيرة، إلى جوار مشاكلها النفسية الأخرى.
كمهاجرة مغربية، عانت البزاز طوال نشأتها من العيش في غيتوهات المغاربة على أطراف المدن الهولندية، وبعد صراع كبير مع تقاليد الجاليات المغربية، قررت البزاز الهروب إلى حي يسكنه الهولنديون فقط، وفي حي “فينكس” الأمستردامي الراقي، اكتشفت الكاتبة أنها تعيش واقعًا من الزيف، حيث جيرانها البيض يعيشون في جزر منعزلة، لا يعرف أحدهم الآخر، لكنهم جميعًا يتلصصون على بعضهم البعض، ومن هنا خرجت روايتها الأهم “نساء فينكس” عام 2010، ليباع منها في غضون أسابيع قليلة ما يزيد عن 60 ألف نسخة في هولندا وحدها، لتصدر الكاتبة بعدها جزأين آخرين بعنوان “المزيد من نساء فينكس” 2012، ثم “في خدمة الشيطان” عام 2013، ولكن ليس في نجاح الرواية الأولى.


الهجرة الى هولندا
ولدت نعيمة البزاز في مكناس المغربية عام 1974، وهاجرت طفلة مع أسرتها إلى هولندا، لتنشأ في أسرة بسيطة لأحد العمال المهاجرين، وفي عام 1995 أصدرت روايتها الأولى “الطريق إلى الشمال” لتحقق نجاحًا ملحوظًا على الساحة النقدية الهولندية، وربما كان مرد هذا الاحتفاء الحس النقدي اللاذع الذي تعمدته البزاز في روايتها لقصة مغربي عاطل عن العمل، وقراره الهجرة من قريته في المغرب إلى هولندا، في هذه الرواية الصغيرة سخرت البزاز من الخلفية الأسرية التي جاءت منها، وانتقدت بقوة سلوك الجاليات المغربية في أوروبا، إلى جوار انتقاداتها الحادة لسياسات الاندماج التي تنتهجها الحكومات الأوروبية منذ ستينيات القرن الماضي، والتي لم تثمر إلا عن نشوء أحراش للجريمة تحيط بكبريات المدن والعواصم الأوروبية. وضعت تلك الرواية الأولى اسم كاتبتها الشابة (21 عامًا حينها) في صدارة كُتّاب هولندا الجدد، وبرزت نعيمة البزاز كأحد الأصوات الواعدة في الجيل الثاني من المهاجرين العرب والمغاربة، ومن بينهم عبد القادر بن علي وحفيظ بوعزة (المغرب) ورمزي نصر (فلسطين) وغيرهم.
من بين جميع هذه الأسماء ذوي الأصول المغاربية والعربية، كانت كتابات نعيمة البزاز هي الأكثر انتقادًا، ربما لأنها لم تكن تهتم بتقديس التابوهات التي يخشى الآخرون الاقتراب منها، تجنبًا للصدام مع المجتمع العربي في أوروبا، على العكس من ذلك، أعلنت البزاز في أحد حواراتها الصحافية قبل عدة أعوام: “يلاحظ القراء على الفور أنني لا أستخدم مصفاة لأفكاري، ما أكتبه هو المادة الخام لما يعتريني من أحاسيس وأفكار ومخاوف، لست بارعة في الحبكات، لكن كتابتي تأتي مباشرة من العقل والقلب”.

الصدام مع  ثقافة الغيتو
بدأت نعيمة البزاز في انتهاج أسلوب أدبي جريء لا يخشى أحدًا أو سلطة منذ عام 2002، فأصدرت روايتها الثانية “عشيقة الشيطان” في العام ذاته، والتي تزامن صدروها مع حملة من مجهولين على الإنترنت، عملت على اقتطاف مقاطع جنسية من الرواية، ونشرها على مواقع الجاليات المغاربية في أوروبا، للتحريض على “تأديب” الكاتبة المغربية، لكن البزاز لم تتوقف، لتصدر بعد عامين روايتها الثالثة “المنبوذة” عام 2006، والتي تحكي فيها قصة حب تجمع بين مغربية ورجل يهودي، لتتلقى الكاتبة عشرات التهديدات بالقتل من متشددي الجالية المغربية في هولندا، ما زاد من عزلتها واختفائها عن الأنظار لفترات طويلة.
في نهاية 2006، وصل الصراع بين نعيمة البزاز ومن يهددونها بالقتل، إلى إدانة شاب مغربي بالتحريض ضد الكاتبة، بعد منشورات له على أحد المواقع المغربية في هولندا، يطالب فيها بـ”رجم” البزاز لأنها “تسخر منا نحن المغاربة”. هذه الحادثة تحديدًا زادت من عزلة البزاز، أسلمتها أكثر فأكثر لسيطرة أدوية الاكتئاب، وهي المرحلة التي سجلتها البزاز في كتابها التالي “متلازمة السعادة” عام 2008، والذي خصصته لرصد مراحل اكتئابها المستمر.
لم تمر شهور قليلة على انتقالها إلى حي فينكس الأمستردامي الفخم عام 2008، هربًا من التجمعات المغربية في العاصمة الهولندية، حتى أيقنت البزاز أن روايتها الجديدة ستكون عن هذا الحي “الأبيض” المزيف، وبدأت في رسم شخصيات روايتها “نساء فينكس” من جيرانها في سخرية لا ترحم، فصورت عادات سكان الحي الذين يتعاملون مع بعضهم البعض باستعلاء وعنصرية واضحين، وأتبعت الرواية بجزء ثان بعنوان “المزيد من نساء فينكس” عام 2012، فرصدت العلاقات الأسرية المتردية بين السكان، والخيانات التي تتم في ضوء النهار ويتعامى عنها الجميع، أثارت الرواية غضب سكان الحي الذين تعرفوا على أنفسهم في شخصيات الرواية، كأنهم ينظرون إلى مراياهم، فجاؤوا إليها للتعبير عن عدم رضاهم، بل إن أحدهم ذهب إلى بيتها يومًا وهو يحمل زجاجة مولوتوف مهددًا بقتلها، ظنًا منه أنها تكتب عنه وعن أسرار حياته الزوجية، وهو ما بررته البزاز لاحقًا بقولها: “نساء فينكس” لم تكن رواية بقدر ما كانت سيرة ذاتية، لذلك يسهل على جيراني التعرف بسهولة على أنفسهم بين صفحاتها”، وأضافت: “أنا فقط كنت الشخص الذي امتلك الشجاعة لتدوين كل هذا الزيف”!

  • عن موقع ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *