من رسائل غادة السمان وغسان كنفاني

محاولة إهداء

(إلى الذين لم يولدوا بعد:
هذه السطور التي أهداني إياها ذات يوم وطنيّ مبدع لم يكن قلبه مضخة صدئة، أهديها بدوري إلى الذين قلوبهم ليست مضخات صدئة، وإلى الذين سيولدون بعد أن يموت أبطال هذه الرسائل، ولكن سيظل يحزنهم مثلي أن روبرت ماكسويل دفن في القدس في هذا الزمان الرديء، بدلا من أن يدفن غسان كنفاني في يافا. )
غادة السمّان

________
(1)


رسالة غير مؤرخة-لا أذكر التاريخ!….لعلها أول رسالة سطرها لي
غادة..
أعرف أن الكثيرين كتبوا إليك، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء خصوصا إذا كانت تُعاش..وتُحس وتُنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين…ورغم ذلك، فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئا واحدا فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته وربما ملاصقته التي يخيل إلي الآن أنها كانت شيئا محتوما، وستظل كالأقدار التي صنعتنا: إنني أحبك.
الآن أحسها عميقة أكثر من أي وقت مضى، وقبل لحظة واحدة فقط مررت بأقسى ما يمكن لرجل مثلي أن يمر فيه ، وبدت لي تعاساتي كلها مجرد معبر مزيف لهذه التعاسة التي ذقتها في لحظة كبريق النصل في اللحم الكفيف…
الآن أحسها ، هذه الكلمة التي وسخوها ، كما قلت لي والتي شعرت بأن علي أن أبذل كل ما في طاقة الرجل أن يبذل كي لا أوسخها بدوري.
إنني أحبك: أحسها الآن والألم الذي تكرهينه – ليس أقل ولا أكثر مما أمقته أنا – ينخر كل عظامي ويزحف في مفاصلي مثل دبيب الموت.
أحسها الآن والشمس تشرق وراء التلة الجرداء مقابل الستارة التي تقطع أفق شرفتك إلى شرائح متطاولة…
أحسها وأنا أتذكر أنني لم أنم أيضا ليلة أمس، وأنني فوجئت وأنا أنتظر الشروق على شرفة بيتي أنني – أنا الذي قاومت الدموع ذات يوم وزجرتها حين كنت أُجلد – أبكي بحرقة.بمرارة لم أعرفها حتى أيام الجوع الحقيقي ، بملوحة البحار كلها وبغربة كل الموتى الذين لا يستطيعون فعل أيما شيء …وتساءلت: أكان نشيجاً هذا الذي أسمعه أم سلخ السياط وهي تهوي من الداخل؟
لا..أنت تعرفين أنني رجل لا أنسى وأنا أعْرَفُ منك بالجحيم الذي يطوق حياتي من كل جانب ، وبالجنة التي لا أستطيع أن أكرهها ، وبالحريق الذي يشتعل في عروقي ، وبالصخرة التي كتب علي ّ أن أجرها وتجرني إلى حيث لا يدري أحد …وأنا أعرف منك أيضاً بأنها حياتي أنا ، وأنها تنسرب من بين أصابعي أنا ، وبأن حبك يستحق أن يعيش الإنسان له ، وهو جزيرة لا يستطيع المنفيّ في موج المحيط الشاسع أن يمر بها دون أن….
ورغم ذلك فأنا أعرف منك أيضاً بأنني أحبك إلى حد أستطيع أن أغيب فيه ، بالصورة التي تشائين ، إذا كنت تعتقدين أن هذا الغياب سيجعلك أكثر سعادة ، وبأنه سيغير شيئاً من حقيقة الأشياء.
أهذا ما أردت أن أقوله لك حين أمسكت الورقة؟ لست أدري..ولكن صدقيني يا غادة أنني تعذبت خلال الأيام الماضية عذاباً أشك في أن أحدا يستطيع احتماله ، كنت أجلد من الخارج ومن الداخل دونما رحمة وبدت لي حياتي كلها تافهة ، واستعجالاً لا مبرر له، وأن الله إنما وضعني بالمصادفة في المكان الخطأ لأنه فشل في أن يجعل عذابه الطويل الممض وغير العادل لهذا الجسد، الذي أحتقر فيه قدرته غير البشرية على الصلابة، ينحني ويموت…
إن قصتنا لا تكتب ، وسأحتقر نفسي لو حاولت ذات يوم أن أفعل ، لقد كان شهراً كالإعصار الذي لا يُفهم ، كالمطر، كالنار، كالأرض المحروثة التي أعبدها إلى حد الجنون وكنت فخورا بك إلى حد لمت نفسي ذات ليلة حين قلت بيني وبين ذاتي أنك درعي في وجه الناس والأشياء وضعفي ، وكنت أعرف في أعماقي أنني لا أستحقك ليس لأنني لا أستطيع أن أعطيك حبات عينيّ ولكن لأنني لن أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد .
وكان هذا فقط ما يعذبني …إنني أعرفك إنسانة رائعة ، وذات عقل لا يصدق وبوسعك أن تعرفي ما أقصد: لا يا غادة لم تكن الغيرة من الآخرين…..كنت أحسك أكبر منهم بما لا يقاس ، و لم أكن أخشى منهم أن يأخذوا منك قلامة ظفرك .
لا يا غادة ….لم يكن إلا ذلك الشعور الكئيب الذي لم يكن ليغادرني ، مثل ذبابة أطبق عليها صدري ، بأنك لا محالة ستقولين ذات يوم ما قلتِه هذه الليلة.
إن الشروق يذهلني ، رغم الستارة التي تحوله إلى شرائح وتذكرني بألوف الحواجز التي تجعل من المستقبل – أمامي – مجرد شرائح….وأشعر بصفاء لا مثيل له مثل صفاء النهاية ورغم ذلك فأنا أريد أن أظل معك ، لا أريد أن تغيب عني عيناك اللتان أعطتاني ما عجز كل شيء انتزعته في هذا العالم من إعطائي . ببساطة لأني أحبك. وأحبك كثيراً يا غادة، وسيُدَمرُ الكثير مني إن أفقدك، وأنا أعرف أن غبار الأيام سيترسب على الجرح ولكنني أعرف بنفس المقدار أنه سيكون مثل جروح جسدي: تلتهب كلما هبت عليها الريح .
أنا لا أريد منك شيئاً وحين تتحدثين عن توزيع الانتصارات يتبادر إلى ذهني أن كل انتصارات العالم إنما وزِعَت من فوق جثث رجال ماتوا في سبيلها
أنا لا أريد منك شيئاً ، ولا أريد- بنفس المقدار- أبداً أبداً أن أفقدك.
إن المسافة التي ستسافرينها لن تحجبك عني ، لقد بنينا أشياء كثيرة معا ً لا يمكن ، بعد، أن تغيّبها المسافات ولا أن تهدمها القطيعة لأنها بنيت على أساس من الصدق لا يتطرق إليه التزعزع.
ولا أريد أن أفقد ( الناس) الذين لا يستحقون أن يكونوا وقود هذا الصدام المروّع مع الحقائق التي نعيشها…ولكن إذا كان هذا ما تريدينه فقولي لي أن أغيب أنا . ظلي هنا أنت فأنا الذي تعودت أن أحمل حقيبتي الصغيرة وأمضي …
ولكنني هذه المرة سأمضي وأنا أعرف أنني أحبك، وسأظل أنزف كلما هبت الريح على الأشياء العزيزة التي بنيناها معاً..
غسان
__________________


(2)

غزة في 29/11/1966 Gaza

غادة

كل هذه العناوين المسجلة فوق، على ضخامتها ، ليست إلا أربع طاولات على شاطئ البحر الحزين ، وأنا ، وأنت، في هذه القارورة الباردة من العزلة والضجر. إنه الصباح، وليلة أمس لم أنم فقد كان الصداع يتسلق الوسادة كجيوش مهزومة من النمل ، وعلى مائدة الفطور تساءلت: هل صحيح أنهم كلهم تافهون أم أن غيابك فقط هو الذي يجعلهم يبدون هكذا؟ ثم جئنا جميعاً إلى هنا : أسماء كبيرة وصغيرة، ولكنني تركت مقعدي بينهم وجئت أكتب في ناحية، ومن مكاني أستطيع أن أرى مقعدي الفارغ في مكانه المناسب ، موجود بينهم أكثر مما كنت أنا.
إنني معروف هنا ، وأكاد أقول (محبوب) أكثر مما كنت أتوقع ، أكثر بكثير . وهذا شيء، في العادة ، يذلني، لأنني أعرف بأنه لن يتاح لي الوقت لأكون عند حسن ظن الناس ، وأنني في كل الحالات سأعجز في أن أكون مثلما يتوقعون مني . طوال النهار والليل أستقبل الناس ، وفي الدكاكين يكاد الباعة يعطونني ما أريد مجاناً وفي كل مكان أذهب إليه أستقبل بحرارة تزيد شعوري ببرودة أطرافي ورأسي وقصر رحلتي إلى هؤلاء الناس وإلى نفسي. إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه ، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب ، ولكن أيضا بذل من طراز صاعق………
ولكنني متأكد من شيء واحد على الأقل، هو قيمتك عندي..أنا لم أفقد صوابي بك بعد ، ولذلك فأنا الذي أعرف كم أنت أذكى وأنبل وأجمل. لقد كنتِ في بدني طوال الوقت ، في شفتي، في عيني وفي رأسي. كنتِ عذابي وشوقي والشيء الرائع الذي يتذكره الإنسان كي يعيش ويعود…إن لي قدرة لم أعرف مثلها في حياتي على تصورك ورؤيتك..وحين أرى منظراً أو أسمع كلمة وأعلق عليها بيني وبين نفسي أسمع جوابك في أذني ، كأنك واقفة إلى جواري ويدك في يدي . أحياناً أسمعك تضحكين، وأحياناً أسمعك ترفضين رأيي وأحياناً تسبقينني إلى التعليق ، وأنظر إلى عيون الواقفين أمامي لأرى إن كانوا قد لمحوك معي، أتعاون معك على مواجهة كل شيء وأضع معك نصل الصدق الجارح على رقابهم. إنني أحبك أيتها الشقية كما لم أعرف الحب في حياتي، ولست أذكر في حياتي سعادة توازي تلك التي غسلتني من غبار وصدأ ثلاثين سنة ليلة تركت بيروت إلى هنا .

أرجوك..دعيني معك. دعيني أراك.إنك تعنين بالنسبة لي أكثر بكثير مما أعني لك وأنا أعرف ولكن ما العمل؟ إنني أعرف أن العالم ضدنا معاً ولكنني أعرف بأنه ضدنا بصورة متساوية، فلماذا لا نقف معاً في وجهه؟ كفي عن تعذيبي فلا أنا ولا أنت نستحق أن نسحق على هذه الصورة. أما أنا فقد أذلني الهروب بما فيه الكفاية ولست أريد ولا أقبل الهروب بعد. سأظل، ولو وُضع أطلس الكون على كتفيّ، وراءك ومعك. ولن يستطيع شيء في العالم أن يجعلني أفقدك فقد فقدت قبلك ، وسأفقد بعدك ، كل شيء.

(إنني لا أستطيع أن أكرهك ولذلك فأنا أطلب حبك) ..أعطيك العالم إن أعطيتني منه قبولك بي..فأنا، أيتها الشقية، أعرف أنني أحبك وأعرف أنني إذا فقدتك فقدت أثمن ما لديّ ، وإلى الأبد..

سأكتب لك وأنا أعرف أنني قد أصل قبل رسالتي القادمة، فسأغادر القاهرة يوم 5 كانون وتأكدي : لا شيء يشوقني غيرك.
غسان
___________
(3)
رسالة غبر مؤرخة ، ولكن سياق الكلام فيها يدل على أنها كتبت في القاهرة أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)وقبل 29/11/1966 بيوم أو اثنين

عزيزتي غادة..

مرهق إلى أقصى حد : ولكنك أمامي ، هذه الصورة الرائعة التي تذكرني بأشياء كثيرة عيناك وشفتاك وملامح التحفز التي تعمل في بدني مثلما تعمل ضربة على عظم الساق ، حين يبدأ الألم في التراجع . سعادة الألم التي لا نظير لها . أفتقدك يا جهنم ، يا سماء، يا بحر. أفتقدك إلى حد الجنون . إلى حد أضع صورتك أمام عيني وأنا أحبس نفسي هنا كي أراك .

ما زلت أنفض عن بذلتي رذاذ الصوف الأصفر الداكن. وأمس رأيت كرات صغيرة منها على كتفي فتركتها هناك. لها طعم نادر كالبهار ….إنها تبتعث الدموع إلى عيني أيتها الشقية. الدموع وأنا أعرف أنني لا أستحقك: فحين أغلقت الباب وتركتني أمضي عرفت ، عرفت كثيراً أية سعادة أفتقد إذ لا أكون معك. لقد تبقت كرات صغيرة من الصوف الأصفر على بذلتي ، تتشبث بي مثلما أنا بك ، وسافرت بها إلى هنا مثلما يفعل أي عاشق صغير قادم من الريف لأول مرة.

لن أنسى. كلا. فأنا ببساطة أقول لك: لم أعرف أحدا في حياتي مثلك، أبداً أبداً . لم أقترب من أحد كما اقتربت منك أبداً أبداً ولذلك لن أنساك، لا…إنك شيء نادر في حياتي. بدأت معك ويبدو لي أنني سأنتهي معك.

سأكتب لك أطول وأكثر…لقد أجلوا المؤتمر إلى 30 ولكنهم سيسفروننا غداً ، الأحد إلى غزة كي نشترك بمآتم التقسيم. يا للهول. ويبدو أنه لن يكون بوسعي أن أعود للقاهرة قبل الرابع . وسأكون في بيروت يوم 6 كانون الأول على أبعد تعديل…إلا إذا فررت من المؤتمر وأتيتك عدْواً..

حين قرأ أحمد بهاء الدين حديثك لي خطفه، بل أجبرني على التعاقد معه لأكتب له مواضيع مماثلة ……قال لي وهو يهز رأسه: أخيراً أيها العفريت وجدت من يُسكت شراستك. سينشر الموضوع في (المصور) التي علمت أنها توزع في كل البلاد العربية أعداداً هائلة وتحوز على ثقة الناس واحترامهم …ولكنني بالطبع لا أعرف متى..
وزعت كتبك.تحدثت عنك كثيراً .فكرت بك.بك وحدك..وأنت لا تصدقين..وأنت حين (أعذب نفسي في المساء) موجودة في الماي فير مع الناس والهواتف والضحك..

حاولي أن تكتبي لي: فندق سكارابيه شارع 26 يوليو .القاهرة فسيكون أحلى ما يمكن أن يلقاني حين عودتي رسالة منك لأنني أعرف أنك لن تأتين..
آه.. يا عزيزة
غسان كنفاني
______________
(4)
20/1/1967
صباح الخير..

ماذا تريدين أن أقول لك ؟ الآن وصلت إلى المكتب ، الساعة الثانية ظهراً ، لم أنم أبداً حتى مثل هذه الساعة إلا أمس ودخلت مثلما أدخل كل صباح : أسترق النظر إلى أكوام الرسائل والجرائد والطرود على الطاولة كأنني لا أريد أن تلحظ الأشياء لهفتي وخيبتي. اليوم فقط كنت متيقناً أنني لن أجد رسالة منك ، طوال الأيام ال17 الماضية كنت أنقب في كوم البريد مرة في الصباح ومرة في المساء . اليوم فقط نفضت يدي من الأمر كله، ولكن الأقدار تعرف كيف تواصل مزاحها . لقد كانت رسالتك فوق الكوم كله، وقالت لي: صباح الخير ! أقول لك دمعتُ

منذ سافرتِ سافرت آني ، وإلى الآن ما تزال في دمشق وأنا وحدي سعيد أحياناً ، غريب ٌ أحياناً وأكتب دائماً كل شيء إلا ما له قيمة …حين كنتِ على المطار كنت أعرف أن شيئاً رهيباً سيحدث بعد ساعات: غيابك وتركيللمحرر، ولكنني لم أقل لك. كنتِ سعيدة ومستثارة بصورة لا مثيل لها وحين تركتك ذهبتُ إلى البيت وقلت للمحرر أن كل شيء قد انتهى.

إنني أقول لك كل شيء لأنني أفتقدك. لأنني أكثر من ذلك ( تعبت من الوقوف) بدونك.. ورغم ذلك فقد كان يخيل إلي ذات يوم إنك ستكونين بعيدة حقاً حين تسافرين.
ولقد آلمتني رسالتك. ضننت عليّ بكلمة حارة واحدة واستطعت أن تظلي أسبوعاً أو أكثر دون أن أخطر على بالك، يا للخيبة! ورغم ذلك فها أنا أكتب لك: مع عاطف شربنا نخبك تلك الليلة في الماي فير وتحدثنا عنك وأكلنا التسقيةبصمت فيما كان صاحب المطعم ينظر إلينا نظرته إلى شخصين أضاعا شيئاً.
متى سترجعين؟ متى ستكتبين لي حقاً؟ متى ستشعرين أنني أستحقك؟ إنني انتظرت ، وأنتظر ، وأظل أقول لك : خذيني تحت عينيك..


غسان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *