الشاعر الروائي عبده وازن كان أول من كتب عن «رسائل أنسي الحاج إلى غادة» الذي أصدرته بهدوء دون ضوضاء إعلامية في «معرض بيروت للكتاب» كانون الأول/ديسمبر 2016. وقال حول رسائل أنسي: «تمثل نصوصاً بديعة لا تقل بتاتاً فرادةً وجمالاً عن قصائد الشاعر ومنثوراته. فأنسي بدا في هذه الرسائل كأنه يكتب لنفسه وعلى طريقته الخلاقة المشبعة بالتوتر والجمال».
ولأن عبده وازن شاعر مبدع وضع يده على المفتاح الأول الذي دفع بي لنشر هذه الرسائل أياً يكن الثمن: فأنا لا أستطيع تمزيق كلمة مبدعة… وأجد أن قتل نص إبداعي يوازي الشروع في قتل طفل.. ثم انني شعرت بالغيرة من صدور كتاب رئيس جمهورية فرنسا «رسائل حب إلى آن» التي استقبلها الاعلام الفرنسي بترحاب.
لا عنصر «فضائحي»!
ورسائل أنسي مزيج متفجر من جماليات اللغة العربية والشعر والحياة بلا أقنعة والحرية والرفض الشرس والاستسلام النابض ولكن بإيقاع خاص.
المهم فيها ليس لمن كتب (إبداعه) بل (إبداعه). ولا أستطيع تمزيق ذلك.. ولم استشر أحداً في أمر نشرها.. هذه قضية أحمل بمفردي مسؤولية الجحيم الذي قد أوقده لنفسي بإصدارها.. وأولادنا ليسوا رهائن في عالم خياراتنا.. ثم أن أنسي كتب لي في رسالته الأخيرة يقول: «لم أتزوج بعد. لم تتزوجي بعد. أرجوك أن تأتي إليّ».
وهكذا، فالعنصر (الفضائحي) الـــــذي لا يرى البعــــض سواه ليــــس موجــــوداً في الرسائل فثمة فقط العامل الإبداعي..
«بقعة ضوئية» على مشهد طريف
اتصل بي أنسي الحاج بعد اكثر من عامين من تاريخ الرسائل لدعوتي إلى ندوة في انطلياس منبثقة الحركة الثقافية في الدير المنفتح على التجارب الأدبية.. وقال إن الشاعر عمر أبو ريشة قادم لإلقاء شعره هناك.
قلت له ان الشاعر صديق لوالدي وأعرفه منذ طفولتي ولطالما زارنا في بيتنا في دمشق وسوف أتصل به لأحضره معي في سيارتي إلى لقائه الشعري..
وتواعدت مع الشاعر الكبير أبو ريشة أمام باب فندق «البريستول» في بيروت ـ وكنت لا أزال طالبة في الجامعة الامريكية ـ واصطحبته إلى مكان محاضرته في سيارتي ويبدو أنني كنت أقودها بسرعة في نظره ولم يخطر ذلك ببالي، وحين وصلنا إلى مكان الندوة كان أنسي وسواه بانتظارنا امام الباب، وعجز الشاعر الكبير أبو ريشة عن الهبوط من سيارتي إلا بمساعدة أنسي وآخرين.. أنسي كان مستمتعاً بالمشهد وكأنه يتوقعه وسألني ضاحكاً: ما الذي فعلته به في الطريق؟ قلت له الصدق: لا شيء.. يبدو انني كنت اقود سيارتي بسرعة في نظره وأخافه ذلك.
قال أنسي: هذه أنت.. لا تطاقين لكنك محببة!
جاء وقت العودة.. وحين عرضت على الشاعر أبو ريشة اعادته معي في سيارتي هرب مني مذعوراً كما لو كنت شبحاً.. وقال أنسي: ساعود انا معك.. وهكذا كان..
في طريق العودة من انطلياس إلى بيروت وأنسي معي شعرت ان صلتنا بدأت تستقر على «سكة الصداقة النقية» وهي في نظري أجمل من الحب لأنها تدوم دونما عواصف رعدية مفاجئة.
ما تقدم ومضات من ذكريات تعيدنا الرسائل اليها.. كذكريات زياراته لي ولزوجي في «قصر الداعوق» حيث اقمت بعد الزواج، وقبل الرحيل إلى باريس وصلة المودة الجميلة بينهما..
متشابهان كنا أنسي وانا بمعنى ما: نتقن إخفاء جحيمنا الداخلي كملكية مسوّرة لا ينازعنا فيها أحد.. ولا نثقل بها على احد. ولن أنسى شهادة أنسي الجميلة بي بعد زواجي بعامين ونيف وصدور كتابي «رحيل المرافئ» إذ كتب في ملحق النهار قائلاً «بعد زواجها قيل سوف تهجر التأليف.. وكالعنقاء قامت من رمادها واذا بالزواج تجربة جديدة حولتها الكاتبة بموهبتها الأكيدة إلى مركز إلهام إضافي».
ضد محاكمة النوايا
البارحة، سألني صديق بعد اطلاعه على الرسائل: ألهذا نشر أنسي لفترة لكاتبة عادية لمجرد «تشابه» في الأسماء؟.. أهو انتقامه؟
بالتأكيد لا. وصداقة رائعة ربطتني دائماً بأنسي رغم البعد ثم إنني أكره محاكمة النوايا. وكل ما أعرفه أنني لن أمزق كلمة مبدعة فالكلمة المبدعة ضربة برق سحرية على الرأس تُسخّرنا لحمايتها.
وثمة لحظة رائعة عشتها مع أنسي وأعجز عن نسيانها، حين وقفنا معاً على شرفة «دير انطلياس» للاستماع إلى الصديقة الخالدة فيروز وهي تنشد بصوتها الملائكي المذهل في مناسبة دينية: أنا الأم الحزينة.. وما من يعزيها..
تراني سأنشر رسائل الحب كلها التي في حوزتي؟ بالتأكيد لا، سأنشر المبدع منها أو الآتية من مبدع ما في حقله مثل بليغ حمدي مثلاً المبدع في حقل الموسيقى.
الحرب الوقائية التي شنها البعض ضد نشري لرسائل غسان لم تخفني بل زادت في تعرية الطبيعة البشرية أمامي والرياء الاجتماعي حيث اللغة العربية لغتان واحدة سرية للصدق وأخرى للرياء الشائع المكرس الذي يلوكه البعض في كل مناسبة.
ببساطة: أنا متمردة على القوالب الجاهزة التقليدية المثقلة بالمحرمات و(التابو) في أدبنا العربي وأحاول المساهمة في إدخال اللون الناقص في لوحته أي «أدب الاعتراف» بأنماطه كافة: الحميم من الرسائل، المذكرات وسواهما، الشائعة في آداب الغرب والذي نفتقر اليه مقصرين بذلك عن اجدادنا التراثيين الذين لم تقم قيامتهم حين تغزلت جدتي ولادة بنت المستكفي بالحبيب الشاعر ابن زيدون وتغزل بها حتى الثمالة والجنون.
___
*القدس العربي