ثقافات – حمدان الجبيلي*
من الثابت أن عناصر القص ضمن أي جنس قصصي إنما هي أربعة : زمان يؤطّر الأحداث ومكان يحتويها وشخصيات تتحرك في الفضاءين السابقين، وأحداث تدور فتُكسب جميع العناصر السابقة قيمة وأهمية ودلالة نصية سياقية ، وعلى هذا الفهم والأساس أكاد أجزم أن الحدث أسّ “القصة ” ؛كل قصة باعتباره يجعل بقية العناصر حية نابضة فاعلة متفاعلة، سواء فيما بينها أو ضمن العنصر الواحد ، فحدث “التعاون” على سبيل المثال في قصة ما ،قد يسهم في كشف العلاقة بين الإطارين كما يسهم في كشف العلاقة بينهما وبين الشخوص ، وهو بدوره (الحدث) يكشف العلاقات بين الشخصيات ضمن نفس العنصر.
والحدث الذي رمنا البحث فيه خلال عملنا هذا هو ” القتل” بالمعنى المجازي الفني للكلمة : أي القتل الذي يمارسه الراوي ومن ورائه الكاتب على أحد شخوص “قصته” ، وذلك بأن يجعله يموت ضمن خطته السردية ، سواء عبر الموت الطبيعي أو الانتحار أو القتل العمد أو القتل على وجه الخطأ أو عبر حادث ما ،وللتدقيق أكثر سنركز على “قتل الأب” أي موت الأب في الأقصوصة .
من المركوز في الأدب أن الكاتب يقتل الشخصية الخيّرة التي يرفع من شأنها، ويعلي من قيمتها ،حتى يكون وقوعها انهيار بنيان يفعل فعل الإثارة والتأثر في المتلقي، ولكن قد نتفاجأ بقصة يقتل الأديبُ فيها البطل الشرير قتلا جزاء ما روّع وزرع ، ولكن حدث القتل / الموت هذا يخلف في أنفسنا شعورا عجيبا غريبا متداخلا وغير مفهوم …تموت الشخصية التي قَـتَّـلَتْ سواء على الحقيقة أو على المجاز والاستعارة، لأن إهمال العيال في تقديرنا قتل لهم، ” أب بائس متخل لا يبذل إلا لجلساته الخمرية ” يعتبر قاتلا . ولكننا لا نشعر بالتشفي والارتياح بل يفتح علينا موتها أبوابا مشرعة للتيه والتأمل والتبصر والأسى والأسف …
ولتناول مسألة ” قتل الأب” في الأقصوصة العربية بالدرس ، رأيت أن أقف على نصّين مختلفين مؤتلفين ، أحدهما قَـتَلَ الأب الخيّر اللطيف ، وثانيهما قَـتَـلَ الأب” العضروط” العربيد المزعج ، وهما نصان معاصران :
أحدهما يعود إلى أواسط القرن الماضي وهو نص للعبقري المصري يوسف إدريس الذي يعتبر ” علما من أعلام الأقصوصة العربية الحديثة ومحطة بارزة في تاريخ هذا الفن لا يمكن تجاوزها ” ( حاتم السالمي ص15) والنص المعتمد هو أقصوصته ” اليد الكبيرة ” الصادرة ضمن مجموعة ” حادثة شرف ” .
وثانيهما نص حديث جدا صادر سنة 2020 بعنوان : ” شركس ” ضمن مجموعة ” قرية بوتيرو ” للكاتبة التونسية التي ما فتئت تساير نهر السرد بثبات ورسوخ قدم ، تنحت في ثنايا الواقعية بأسلوب مخصوص قوامه الخيال الفياض واللغة الشعرية الساحرة . وهي التونسية لمياء بوكيل .
1/ اليد الكبيرة وموت الأب الخيّر :
رغم أن صورة الأب في الأدب العربي الواقعي هي مرآة لصورته المرجعية باعتباره رمز الصرامة والحزم والصلابة والشدة من جهة ، ومصدرا للمال والعطاء والكرم من جهة أخرى ،أو كما قال ميخائيل نعيمة ” هو مصدر مال وإزعاج* ” فإن يوسف إدريس في أقصوصة ” اليد الكبيرة ” قد استطاع أن يكسر هذه الصورة النمطية الكلاسيكية ، فحقق مصالحة بين الراوي الشاب الطالب الجامعي وأبيه العجوز البدوي ، هي علاقة وصال وعاطفة جياشة ، وبوح واندفاع دون تحفظ ،رغم أننا نعلم أن الأب التقليدي كتوم ، يصطنع الغلظة والشدة ولو كان قلبه يتفطر حبا ورقة لأبنائه ، قدره أن يخفي مشاعره داخل الأسرة … ولكن الاستثناء يحدث في ” اليد الكبيرة ” ليوسف إدريس ؛ يصف الشاب لحظة وصوله إلى القرية ودخوله البيت ، فيقول ” أنا دائما مشتاق إلى أبي …أنا ابنه الكبير وحبيبه الكبير أيضا …….كنت دائما أحن إلى أبي إلى طفولتي …وكنت أحب أبي …أدخل من الباب فأجده قد أفاق مما كان يفعله على عجل ، واقفا يرتدي جلبابه ورأسه عار وصدره مفتوح وهو حائر فرحان يبحث هنا وهناك عن شيء يضعه في قدميه كي يسرع ويقابلني ، فقد كان هو الآخر يحبني ، يحبني أكثر من أي شيء آخر في الوجود …وأندفع إلى حضنه، ويندفع إلى حضني، وكم حضنته وكم احتضنني ، وطول عمري كنت أودّ أن أظل أحتضنه ….وها أنا ذا أصبح أطول منه وأحبه أكثر مما أحببته . ص63 ….أبي لا يريد أن ينهي العناق …وأمي أعرف أنها في تلك اللحظة متناومة تنتظر مني أن أذهب إليها ….وأبي فرحان فرحة لا توصف ،فيضع وراء ظهري مسندا ، أو يجعلني أقوم من مكاني لأجلس في مكان آخر أكثر راحة ، وهو من فرط فرحته نسي أن يرتدي في قدميه مداسا ، ..” ص64 …..وأبي سعيد بيننا كالإله ، كلنا نحبه ونذوب في حديثه ، ما أجمله حين يتحدث ….”ص 65.
القارئ العربي ينام ويصحو على ” أحن إلى خبز أمي* ” ، أما الحنين إلى الأب فخجول مسكوت عنه، لا أعلم أديبا عربيا استطاع أن يرسم صورة عاطفية للعلاقة بين الابن الشاب وأبيه كالتي رسمها يوسف إدريس ، هي صورة كسرت أسطورة العقدة الأوديبية ، وحققت مصالحة بين الأب والابن . ولو أعدنا صياغة هذه الفقرة الوصفية السابقة فغيرنا الأفعال المسندة إلى الأب لنجعلها مسندة إلى الأم، لكانت الصورة في نظر الكثيرين أنسب ،لأن الأم في واقعنا وتاريخنا وأدبنا وسيرنا هي رمز العاطفة الجياشة واللهفة إلى لقيا الابن الحبيب بشوق طفولي ينسيها أن تضع في قدميها مداسا . لقد ارتفع يوسف إدريس بالأب وجعله بؤرة حبه وجنونه ،كما جعله هو أيضا محبا ينكر ذاته في سبيل “ظلّه الممتد” ، وكنّى عنه بـــ ” اليد الكبيرة ” اليد التي تسع الجميع ،ويطال عطاؤها القريب والبعيد ،اليد الجديدة التي تربّت وتحضن ولا تصفع ، اليد التي تشمل الخير عطاء والجمال حنانا . فعلا ،لم يكن الأب في أقصوصة يوسف إدريس يدا كبيرة وحسب ،بل هو يد كبيرة وقلب كبير وعقل بصير وروح مفعمة بكل القيم الربانية السامية ، لذلك شبهه بالاله قائلا :” وأبي سعيد بيننا كالإله” . إن العدول والانزياح في هذه الصورة الجديدة للأب البدوي الريفي كامنان في هذه الليونة وهذا اللطف اللذين تسربا إليه ،واستقرت في كيانه رغم شظف العيش وبؤس الحال . أ فبعد كل هذا السمو بالأب إلى مرتبة الحلم والأمل “يقتل” يوسف إدريس البطل /الأب / الإله ؟
ليس في الأمر غرابة ولا شذوذ ، فالكاتب منخرط في تصور اجتماعي وحضاري عام يسود فيه اعتقاد أن ” الجَـــمِــيـلِــيــنَ ” وحدهم هم الذين يموتون ، وأن المرء إذا لان طبعه وحسن خلقه فاعلم أن رجله في الركاب ، أمّا الأشرار فهم الأقدر على البقاء ،مهما تمنى لهم الجميع الفناء . يقول عبد الوهاب البياتي :” وكلّ ما نحبّه يرحل أو يموت* “.
ويقول أبو تمام في السياق ذاته راثيا محمد بن حميد الطوسي :
عليك سلام الله وقفا فإنني رأيت الكريم الحرّ ليس له عمر*
وفاء لهذا التصور السابق سوف تنتهي الأقصوصة بعودة الابن الشاب من المدينة حيث يدرس إلى القرية حيث أسرته ، ومنها إلى البيت والأشواق تحدوه، ظانّا أن الوضع الأصلي لــ”القصة”مازال على حاله ، لكن عودته هذه المرة كانت مخالفة ، صادمة ، مرعبة . لأن الراوي سيجد المنزل قد خرب بحدث قاصم للظهر غير منتظر،ألا وهو موت الأب؛ عماد الدار ووتدها ، يقول الراوي :” ووجدت باب البيت مفتوحا هو الآخر ، ولا أحد على الباب ، ولا أحد في الداخل ، ولا أحد ينتظرني ، وكل شيء مهمل ….وأحسست أن بيتنا قد خرب ” ص68 .
إن تواتر النفي المطلق بــ “لاء النافية للجنس” في هذا المقطع ، يدل على العدم واللاشيء لأن الأب كان كل شيء ، به وحده كان المنزل المتواضع مزدحما.
” أبي هنا إذن تحت هذا التراب “
“كيف تموت قبل أن أشبع منك” ؟
لقد فزع الراوي بآماله إلى التكذيب والإنكار ، وغلب الوهم والخيال الحقيقة البشعة ، وماضي الوصل هزم لحظة القطيعة والفراق الأبدي ، كيف يموت الأب الذي جعله الكاتب في بداية الأقصوصة مشرق شمس الأمل ومبعث الوئام والفرح ومدار التئام الشمل والاتحاد ، وها قد مات :”فما كان موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدم*
لموت العزيز وقع نفسي وسردي عظيم ، ولــ ” القتل” إذن مشروعية سردية تأثيرية خطّط لها الكاتب من البداية ، أليس غاية الغايات التي يروم كل كاتب تحقيقها أن تسكنك القصة بعد قراءتها ، وقد فعل يوسف إدريس ،وقد وفق أيما توفيق ، فلو كان ” القتيل” غير الأب لفتر التشويق وضعفت الحبكة ، ولو كان الأب على غير تلك الصورة ما كان لموته وقع . إذن فما جدوى أن “نقتل” الأشرار في أقاصيصنا ؟ وهل يكون لموت الأشرار وقع على المتلقي ؟
” شركس” وموت الأب الشرّير :
المشهد في “شركس” مخالف تماما ، ففي غياب الأب لم يكن البيت قد خرب هذه المرة ،بل كان يعمّه الفرح والحبور ومظاهر الاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة ، وئام ليس مثله وئام :” انطلقت الشماريخ والهتافات ، ماجت الحلبة المستديرة ،الصاخبة بالمحتفلين يهللون ويتبادلون القبل، استدارت(الصبية) نحو أمها ولفّت ذراعها حولها ، غمرتها بالقبل ، بين الضمة والضمة تقول :” يا ميمتي الغالية ، الله لا يحرمني منك (لم تعد كل فتاة بأبيها معجبة ،ولم تناصب أمها العداء غيرة على أبيها ،بل الفتاة بأمها مفتتنة مغرمة عالقة ) ،” حاصراها(ابناها وليد وهاجر) بالدفء والقبل….احتضنتهما بقوة ضاغطة ، كأنها تودّ لو تعيدهما إلى بطنها ..” (ص9)
كل هذه الأفعال الوصفية حمّالة دلالة ودّ والتئام شمل ،وانصهار وجداني أسري لا ينغصه منغص في لحظة صفاء مكتملة ، وفي غياب الأب طبعا ،الأب الذي بدخوله ستفسد لوحة الصفاء ويلوطها السواد ،وتغيب عنها الطمأنينة : ” لكنها انتفضت فجأة ، سي منجي يعود آخر الليل ، ربي يستر لقد أثقل هذه الليلة ” . الأب شخصية معرقلة ؛ معرقلة بأحوالها وصفاتها وهيئاتها: “العضروط” ( صفة: في الدارجة التونسية تطلق على الرجل الطويل الضخم )، يستردّ بأسه وتوازنه ، متهالك ، مترنح، اشتعلت عيناه كالشرارة ،… “، الأب شخصية معرقلة بأقوالها أيضا :”يا ولد الكلب ،ملّي ريتك ما ريت خير” ( متوعدا القط شركس) ،شخصية معرقلة بسلوكاتها وأفعالها المزعجة، المفسدة لكل مظاهر الهدوء: ” أعرض عن كريم ودفعه بشدة ، دفع الباب بكلتا يديه ،أزاحها من طريقه بدَفعة قاسية متوحشة أردتها أرضا….” .
بين الأب الدخيل وبقية أفراد الأسرة( العنصر الأصيل) قطيعة أيما قطيعة، يربك حضوره (دخول شخصية جديدة) الوضع ويفسد الود، ويثير اشمئزاز الجميع ،حتى يُرجى لو استمر غيابه ، وصورة الأب المزعج هي للأسف صورة واقعية من رحم الواقع الاجتماعي ، فقد يتزوج شاب طائش إثر نزوة أوخطيئة ، ثم يستمر في غيّه وتيهه وإدمانه كل أنواع المسكرات والمخدرات ، تعصف بلبه وجسمه وبجميع علاقاته الاجتماعية والشغلية والربانية .وتتضاعف المصيبة إذا أنجب أطفالا . عندما يسكر الأب يتحول إلى شخصية غريبة عن نفسه وعن أهله ، تتفجر إلى السطح منه كل الشرور الآدمية من سب وشتم وعنف أعمى ..ويزداد العنف مرارة عندما يمارس أمام بنت صبية تتلاطم بها أمواج الصبى والمراهقة (هاجر)، وهي تبحث عن حضن شاطئ عليه تنفث كل ضيقها وهمومها وتوقها وأحلامها وتطلعاتها … ولكنها تنكسر على صورة مَثَلِهَا الأعلى : ” بسرواله المرتخي والمبلل ، وقميصه الفاقد لكل أزراره ، وسيجارته المتدلية من فمه الأدرد ” .
المرارة كل المرارة أن تجد الصبية أباها يمارس عليها وعلى أمها وأخواتها أبشع أنواع القتل النفسي …إنه وقد فعل ما فعل ، فكأنما ركلها، وسحبها من شعرها، وعرّى نهديها ،وهتك سترها ، وألقى بها في شوارع الطيش والانحراف …لم يسلم من هيجان الأب “العضروط” لحظة عصفت الخمرة بمداركه أحد ؛ لاالبشر(زوجته وأبناؤه) ولا الحيوان (القط شركس المسكين) ولا الحجر (الجدران) و لا حتى الخشب ( الأبواب)…لذلك حري بهذه الشخصية أن تعود إلى غيابها ، حري بالسارد / الكاتب أن ” يقتلها ” كي يعود الهدوء ويكتمل الحفل وتنعم الصبية . وفعلا يستجيب الراوي ومن ورائه الكاتب لهذا الرجاء فيعجّل قتله:” قتلا على غير الصيغ السردية و على غير المعتاد الروائي” *.
ولكن هل كان الأب شريرا حقا ؟ هل يحقق حدث موته الهدوء النهائي المرتقب ؟
نبأ موت الأب ” العضروط ” أربك المتلقي وهو متلقّ محايد ،لا ناقة له في الاحتفال برأس السنة ، ولا جمل لديه كي يعبّ من مشروب هذا الاحتفال ؟ فكيف إذن سيفعل نبأ الموت بالصبية هاجر وبالأسرة كلها ؟
حقيقة – وقد يكون حكما انطباعيا- استطاعت الكاتبة بحرفية نادرة ، وبصورة لا تقوى عليها إلا ريشة كبار الرسامين، أو عدسة مصور محظوظ وموهوب كي يلتقط الصورة في آنها ومكانها ، أن ترسم لوحة وصفية تخييلية فظيعة ، هي لوحة صارخة في صمتها، مفعمة بالحياة والاحتجاج في موتها ، وهي لوحة موت الأب ممسكا بمعصم ابنته هاجر، وهي مائلة برأسها على جسمه دون أن تدري أنها تستند إلى جثة هامدة : ” كانت هاجر ما تزال نائمة ، ومائلة بوجهها الملائكي على جسد أبيها دون أن تحس بقبضته وهي تشدّ على يدها ،ودون أن تنتبه إلى وجهه الممتقع وعينيه الجاحظتين وجسده الهامد فوق بركة من الدماء تحت رجله ” لوحة تجعل القارئ على يقين أن الأب المزعج سكرانا ليس هو عين الأب مدركا صاحيا ، ولو كان المقام مقاما روائيا لأطنبت الكاتبة في إحاطة ” العضروط ” وصفا وتعريفا ؛عبر الوصف الباطني النفسي وأحلام اليقظة والحوار الباطني الانفجاري انفجار المكلومين ، الهذياني هذيان الأبطال التراجيديين وعبر الاسترجاع والاستطراد (هذه العناصر تتسع لها القصة والرواية)…ولكن مقام الأقصوصة أقصر من أن نضيعه في التفاصيل على حد تعبير الدكتور حاتم السالمي :”ولما كانت الأقصوصة محكومة بزمن وجيز فإنها تبني الشخصية بناء يلائم ما يتميز به هذا الجنس القصصي من اقتصاد في العبارة وإيجاز في تصريف الكلام الفني ،ومن هذه الجهة يبدو التعامل مع الشخصية في الأقصوصة على قدر من الصعوبة كبير طالما أنها تعيش داخل الانقطاع ، الباحث إذن ليس بوسعه الإمساك المحكم بخاصة الشخصية الأقصوصية ما لم يقارنها بنظيرتها الروائية(حاتم46).” ، لذلك جاء الأسلوب واللغة إيحائيين مختزلين في نص لمياء بوكيل .
مــا بـيــن النـصـيــن :
صحيح قتل الأب في أقصوصة لمياء بوكيل مخالف تماما لقتل الأب في أقصوصة اليد الكبيرة ، فهنا قتل مريح مزيح لمن أدخل الازعاج والنكد ، بينما هناك موت بحجم الواقعة لأنه غيّب الجمال في أجلّ معانيه، ولكن القارئ العميق لن يتشفى من الدم النازف من قدم “الشرير العابث”(الأب المنجي) ،ولن يتلذذ بالجثة الهامدة للعربيد . إنه أب ، قد يكون ضحية اجتماعية ،قد يكون ابنا لطفولة منتهكة تم إلقاؤها في مزابل المجتمع ،قد يكون ضحية زوجة ظالمة مستطيعة بغيرها مستبدة بالقانون. قد يكون ضحية عنف سياسي في ظل نظم قادرة على اكتساب جميع المعارف واشتراء كل البرمجيات الباهضة التي تحول المتزنين من معارضيها إلى مختلين، والنمطيين إلى عابثين ، والمحافظين إلى نوكى متهتكين ( ميشال فوكو السلطة والمعرفة )، إذن “القتيلان” سيان ، رغم أن يوسف إدريس قد قتل الأب الحنون المنتصب في الأسرة كالإله ،وقتلت لمياء بوكيل الأب ” العضروط” الذي لم يسلم من أذاه حتى القط التركي المستكين .ظاهر المشروعين تباين ،ولكن باطنهما تشابه والتقاء ،ذلك أن “القتل” أي الموت مهما كانت كيفيته يعتبر من الأحداث القوادح التي يمكن التعويل عليها في البناء السردي .
مفهوم الموت والحياة في الأدب إنما هو مفهوم بنيوي فني لا دلالي ، فموت الأب الاله ،الأب اليد الكبيرة كان موتا حتميا إيجابيا حتى يفسح المجال للابن الأكبر أن يتلألأ سرديا ويتفرد بالفعل والبطولة ، فهو لم يشعر بقزميته إلا في حضرة والده العظيم ، موت الأب اليد الكبيرة موت مفعم بالرضا لأنه أعطى ووفّى ولم يستبق شيئا ، فهو إذن موت بحجم الخلود . وموت الأب الشرير في أقصوصة “جركس” ، هو موت جسدي فحسب، لأن الأب الروح والرمز كان ميتا من زمان ، وحالة اليتم سابقة للحظة الموت ، كانت الصبية تشعر بغربة و بفقدان الأب وهو حي يرزق ، و الموت وحده من حقق لحظة الالتقاء بينهما ، لحظة موت “العضروط”هي لحظة حياة أيضا. لأنه قد يلقن ابنته بموته ما لم يلقنها إياه بحياته ، فلحظة استفاقتها على مشهد الموت وأبوها يشد بمعصمها وقد نزف دمه حتى شكل بركة ، ستكون فاجعة تظل محفورة في ذاكرتها ووجدانها ، ستكفر بالإدمان وتحاربه، ستجهد أن لا ترى من بنيها وبني جلدتها أحدا يشابه أباها في مصيره ، إن الأب وقد استنجد بالبنت كي يموت بالقرب منها لم يكن أحد يعلم أنه يستغيث ويستنجد أن: ” خلّصوني من مخالب الوحش الذي نخرت مخالبه كل شيء فيّ” ، كان يفر إلى الأسرة ويهرب وهو يعربد، كان يصرخ بأعلى صوته المكتوم : كيف الخلاص؟
لئن هيّأ يوسف إدريس البطل لتقبل نبأ الفاجعة بوصف المكان :”كلبنا نائم على فروة الصلاة، والحمام يهدل هديلا ممدودا قبيحا ” ونقل السارد في الطريق المؤدية إلى المقبرة” رأيت نفسي أمشي ، تهت …بدت لي بلدتنا بلدة أخرى ..وصلت ، لم أجد أحدا…كان الاسمنت لا يزال أخضر” ، الحركة الجسدية تهّون من اللوعة النفسية وزمن الانطلاق من البيت الخرب نحو المقبرة أذهب شيئا من أحزان الراوي وهيّأه لقبول الحقيقة حين جعله يتوقع أمرا خطيرا :” كان صدري فارغا موحشا كئيبا والدنيا من حولي لا تجذب انتباهي ” ، فإن لمياء بوكيل ستصدم هاجر وبقية أفراد الأسرة وستصدم القارئ ، لأنها استفادت من تطور الأقصوصة العربية واستفادت من فارق التوقيت بينها ويوسف إدريس، فركزت على قوة النهاية و السقوط الحر فيها ، وجعلت الأقصوصة لا تبوح بسرها وخاتمتها إلا للأسطر الأخيرة ، هي إذن تجعل القارئ فاغرا فاه متسائلا تأخذه النهاية القوية الصادمة نحو احتمالات وتأويلات شتى .
موت الأخيار لا يخلف الأسى ،فقد أعطوا وما استبقوا ، وموت الأشرار لا يعقبه التشفي فقد تركوا بابا للإشفاق مشرعا وبُــنَيَّــة .
اختلفت الأقصوصتان في البناء السردي فالتقتا دون سابق إضمار في طَـرْق موضوع واقعي اجتماعي ملحّ ألا وهو موضوع الأسرة ومنزلة الأب فيها . الأقصوصة واقعية أو لا تكون .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حمدان الجبيلي* ناقد تونسي