خاص-ثقافات
د. علياء الداية
احتفت روايات عربية عديدة على مدى سنوات وعقود بظاهرة العجائبي، ونقلتها من حيّز المفهوم الشعبي والمتخيّل والتصور المستقبلي العلمي أحياناً إلى الحيّز الأدبي، وتتنوع اهتمامات هذا النوع من الروايات وتتدرج بين الواقعية السحرية والتصوف والفانتازيا والرعب، ومنها ما يقترب من المتلقي من خلال بناء الرواية المتين المتماسك، ومنها ما يبتعد عنه بسبب تفكك روابط العناصر الأدبية نفسها داخل الرواية.
وتسعى هذه الدراسة إلى تركيز البحث في جانب الماورائيات الذي ينضوي روائياً في عباءة العجائبي، ويحتفظ في الوقت نفسه بسمات تصنيفية تجعله خاصية متفردة جمالياً نجدها في روايات ذات طابع عجائبي ولا نجدها في روايات أخرى، وتتناول الدراسة في هذا المجال ثلاث روايات من عقود متتالية، هي كل من: “مدينة الرياح” للموريتاني موسى ولد ابنو-1996، و”البعد الخامس” للسوري طالب عمران-2000، و”بعد الحياة بخطوة” للأردني يحيى القيسي-2018.
إنّ “العجائبي يقتضي أن تكون شروط ثلاثة منجزة. أولاً لا بد أن يحمل النص القارئ على اعتبار عالم الشخصيات كعالم أشخاص أحياء وعلى التردد بين تفسير طبيعي وتفسير فوق-طبيعي للأحداث المروية. ثم، قد يكون هذا التردد محسوساً بالتساوي من طرف شخصية؛ على ذلك يكون دور القارئ مفوضاً إلى شخصية وفي نفس الوقت يوجد التردد ممثلاً، حيث يصير واحداً من موضوعات الأثر؛ ويتوحد القارئ مع الشخصية، في حالة قراءة ساذجة. أخيراً ينبغي أن يختار القارئ موقفاً معيناً تجاه النص”(1)، و”لا يدوم العجائبي إلا زمن تردد: تردد مشترك بين القارئ والشخصية، اللذين لا بد أن يقررا ما إذا كان الذي يدركانه راجعاً إلى “الواقع” كما هو موجود في نظر الرأي العام، أم لا”.(2)
أما الماورائيات فهي تلمس أبعاداً فلسفية وجودية لا يتطرق إليها العجائبي النمطي: فـ”المعرفة التي تقع في الماوراء… عرفت باسم “الترنسندنتالية” أو الفلسفة المتسامية، وعندما نلصق صفة التسامي أو التعالي بفلسفة ما، فإن ذلك يكون في العادة بسبب قولها بدعاوى ميتافيزيقية لمعرفة أعلى وأكثر صدقاً تُجاوز بطريقة ما التجربة الحسية البشرية المألوفة، ومن ثم لا يمكن بلوغها إلا عن طريق العقل أو الحدس”(3)، وقد “صارت الميتافيزيقا تعني المبحث الخاص بالمبادئ “المتعالية”، أي المتعالية على الحس والتجربة، على العالم المرئي”.(4)
ولعل الماورائيات ستتجلى في الروايات المدروسة بتفردها عن غيرها من التصنيفات، فهي مرتبطة بالمعتقدات المضمرة في نفوس الشخصيات أبطال الروايات، قلما تطفو إلى الخارج حيث المجتمع، بسبب كونها تَصوراً لعلاقة الشخصية بالكون أو الوجود المحيط بها، وهذا الوجود يصبح ذا مستويات متعددة، وليس مستوى مدركاً واحداً. هناك مستويات زمنية كما في “مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو، ومستويات من القدرات الخارقة في تنقّل الذات والمعلومات والقدرات عبر الأزمنة والأمكنة كما في “البعد الخامس” لطالب عمران، ومستويات من مُشاهدات العالم الآخر في حالة البطل بين الحياة والموت، كما في “بعد الحياة بخطوة” ليحيى القيسي. إن التباين الشديد جداً بين الخبرة الروحانية للشخصيات الروائية أو الواقعية، والخبرة العلمية القابلة للقياس والتجربة في المجتمعات الروائية والواقعية، هو تباين شديد كفيل بنشوب الصراع بين الطرفين.
ومن القدرات الخارقة العجيبة المتكررة في الروايات الثلاث هذه المصطلحات: “التخاطر: تبادل المعلومات بين عقلين أو أكثر دون استخدام الحواس العادية. الكشف البصري أو الاستبصار: إدراك معلومات موجودة على مسافة بعيدة خارج نطاق الحواس الخمس… وتسمى هذه الظاهرة أيضاً: الرؤية عن بُعد… تجربة الخروج من الجسد: تجربة شعورية بالانفصال عن الجسم، عادة ما تكون مصحوبة بتصورات بصرية تشبه الكشف البصري. تجربة بداية الموت: تجارب يرويها أحياناً أشخاص انتعشوا من حالة دخلوا فيها في بداية مراحل الموت، وفي الغالب تعود هذه التجارب إلى تجربة رئيسية موحدة تتضمن إحساساً بالسلام أو شعوراً بالانفصال عن الجسم والتواجد خارجه، ورؤية أنوار”.(5) وهي جميعها تحتوي خبرة إضافية على مستوى الوعي الجمالي لدى أبطال الروايات، إذ يرون أبعاد الحياة بعين جديدة، ويكون إدراكهم وشعورهم في حالة قصوى من الحماسة أو المعاناة أو التعجب، في الميل إلى أسباب الجمال والسعي إليها، والانسحاب من القبح والانفصال عنه. إن “الفن لا يكتفي بأن يكون موجوداً، لأنه… طريقة في تقديم العالم، في إظهار عالم رمزي موصول بحساسيتنا، وحدسنا، ومخيلتنا، واستيهاماتنا… يتنزل الفن، في الإجمال، في الواقع، من دون أن يكون واقعاً بالكامل، ناشراً عالماً متوهماً يحلو لنا العيش فيه أحياناً -لا في صورة دائمة- بدلاً من الحياة اليومية”.(6)
وهناك علاقة وثيقة تربط بين أبطال الروايات الثلاث والسماء، ترقـّباً وصعوداً ورحلة وتجوالاً وحركة، وبعضهم في الرواية يقترب إلى حد ما من مفهوم الشامان أو ما يشابهه من المعلمين الروحيين، وآخرون تكتفي الرواية بخوضهم تجربة استثنائية، “إن التحليق في الأجواء يعبـّر تعبيراً جميلاً عن أهلية أفراد من أصحاب الامتياز في هجر أجسادهم، عندما يحلو لهم أن يفعلوا، وفي الارتحال بـ”الروح” إلى المناطق الكونية الثلاث: السماء والأرض والجحيم… ومن الواضح أن طيران الشامان يعادل “موتاً” طقسياً، لأن روحه تهجر الجسد بصورة رمزية، وتحلّق إلى أبعاد يتعذر على سائر الناس، إدراكها”.(7)
وقد تميزت هذه الروايات بكونها جسدت الصراع بأشكال مختلفة ولكنها متكاملة كثيراً ما تنحو لأن تكون صراعاً بين الجميل والقبيح، بين الإيجابي والسلبي، بين الصراع ذي الطابع الذاتي في “مدينة الرياح”، والصراع ذي طابع التحدي لربط الماورائي الروحاني بالواقعي المباشر في “البعد الخامس”، والصراع ذي الطابع الاجتماعي في مواجهات البطل مع محيطه في “بعد الحياة بخطوة”. إذ “هناك نوعان من الأفعال، النوع الأول هوالأفعال الجسدية التي يقوم فيها البطل بعمل شجاع في المعركة أو في إنقاذ حياة. أما النوع الثاني فهو العمل الروحي الذي يتعلم فيه البطل أن يمارس حياة روحية إنسانية خارقة تتجاوز المستوى الطبيعي، ثم يعود بعد ذلك حاملاً رسالة”.(8) والرواية بوصفها فناً توصل للمتلقي رسائل وتتيح له التواصل مع تجارب شخصياتها عبر مكونات السرد، إذ “إن مضمون الفن يحوي كل مضمون النفس والروح، وإن هدفه يكمن في الكشف للنفس عن كل ما هو جوهري وعظيم وسامٍ وجليل وحقيقي كامن فيها. إنه يزودنا، من جهة أولى، بتجربة الحياة الواقعية، وينقلنا إلى مواقف لا نعرف شبيهاً لها في تجربتنا الشخصية وقد لا نعرفه أبداً، كما ينقل إلينا تجارب الأشخاص الذين يمثلهم؛ وبفضل مشاركتنا في ما يقع لهؤلاء الأشخاص نصبح، من الجهة الأخرى، قادرين على أن نحس إحساساً أعمق بما يجري في داخلنا”.(9)
إن جزءاً من تفسير سبب اختلافات الصراع هو انتماء الروايات إلى عقود مختلفة، فـ”مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو تنتمي إلى عقد التسعينات من القرن الماضي، و”البعد الخامس” لطالب عمران تنتمي إلى العقد الأول من الألفية الثالثة، و”بعد الحياة بخطوة” ليحيى القيسي جاءت في العقد الثاني من الألفية الثالثة، وجاءت الأدوات الروائية ومؤثرات المجتمع وتفاعل الفرد معه متباينة بحسب معطيات العصر الذي تمثله وتندرج فيه، من حيث الشواغل النفسية للمبدعين، ومجمل الثقل الاقتصادي والثقافي والأحداث العالمية المتضمنة في زمنهم. فالحال بالنسبة إلى المبدعين عموماً وأبطال الروايات الماورائية خصوصاً تكمن في أن “البديل عن السعي وراء أسلوب عيش مشترك مع الإدارة هو بالانغماس في الروحانيات. قد يختارون بين الإدارات البديلة التي تنشد أهدافاً مختلفة… هذه هي الحال لأن المفارقة محل الدراسة تنبثق من حقيقة أن مبدعي الثقافة والمديرين… ملزمون باقتسام الفضاء نفسه والتشارك في المسعى نفسه، وتزاحمهم هو تزاحم الأشقاء، فهم يسعون خلف الهدف نفسه، ويقتسمون الغاية نفسها أي أن يجعلوا العالم مختلفاً عما سيكون عليه أو عما سيؤول إليه لو ترك وشأنه”.(10)
وستمضي هذه الدراسة إلى تتبع الماورائيات في الروايات الثلاث من خلال كل من: المُسبّب الفيزيائي، والانفصال عن الواقع المادي، والتقنيات الماورائية، والمصطلح الصريح.
1 ـ المسبب الفيزيائي :
لا تخلو رواية من مسبب فيزيائي أدى إلى خروج الشخصيات على بيئتها، وكان حافزها إلى رحلة تغيير ما بها، فكان الألم وشظف العيش ومعاناة العبودية السبب الأول في “مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو، وكان تكرار الألم والحسرة والشعور بالاغتراب السبب الثاني في الرواية نفسها. لقد اعتقد البطل بأنه سيلغي الألم الفيزيائي من حياته، وبأنه قد يدخل حالة سحرية حين يبدل زمنه، وأنه سيحصل على الجمال والكرامة والراحة، غير أنه لقي الخذلان مرتين.
وكان الفضول هو الدافع الأول في رواية “البعد الخامس” لطالب عمران، والشوق للقاء الجدّ الغائب منذ سنوات، ومما لا شك فيه أن هذه الدوافع نفسية ووجدانية وليست فيزيائية، غير أن دافع الحفاظ على الوجود والرغبة في المعرفة من أجل الحصول على كنز الخلود هو الدافع الفيزيائي الذي برز مع نهايات الرواية، فالدكتور ماهر لم يتمكن من تخطي شروط الزمن مثل بطل “مدينة الرياح”، ولكنه يسعى إلى الحصول على الطريقة التي تكفل له ذلك ومن أجل التمتع الروحي بوجود صافٍ، وإن يكن المجهول يكتنف قدراً كبيراً منه.

وفي “بعد الحياة بخطوة” ليحيى القيسي، يختلف الأمر عن الروايتين السابقتين، فالبطل فعلياً حزين لأنه قد عايش حالة الطمأنينة والرفاهية والسعادة المطلقة في عالم آخر، ثم حُرم من التمتع بها، واكتشف أن ما مرّ به يكتسي شكل الحلم، فهو لم ينفصل عن واقعه إلا بشكل موجز ومختصر، فكان المسبب الفيزيائي هو المرض والعجز والضعف، مما أدخل جسمه في حالة من السكون الظاهري القريب من الموت. أما المسبب الفيزيائي الثاني الذي كان يدعو البطل إلى تمني الموت طمعاً في العودة إلى السماء حيث الشعور المريح الجميل الذي عايشه سابقاً، فهو معاناته الفقر والفاقة في واقعه، إنه نموذج من أشخاص كثيرين من أهل وجيران وأقرباء لا يمتلكون ما يكفي لتحقيق طموحاتهم المادية الدنيوية، والحلمُ بعالم آخر يمكن أن يخفف الكثير مما يحسون به، ويدفعهم إلى الرضا كي يسموا بأرواحهم بدرجة كفيلة بدخولهم مكاناً كالفردوس.

إن هذا المسبب الفيزيائي سوف يَظهر وجهٌ آخر له يكتشفه البطل داخل العالم السماوي نفسه، فهناك شخصيات صادفها هناك، وقيل له بأنها لم تكن ذات سلوك إيجابي في حياتها، فمُنحت فرصة أو فرصتين، فهم “لم يكونوا جهلة بل جاؤوا بمعارفهم الأرضية، لكن بأرواح تائهة. بَدَوا مثل قافلة من الدواب العطشى كانت تحمل الماء على ظهورها طيلة حياتها السابقة دون أن تستطيع الشرب منه، حتى إذا وصلوا هنا أخيراً، ظل الجدل بينهم لا ينتهي، وأصبح السخط زادهم اليومي! الاقتراب من أي واحد منهم، وسماع ذلك الحوار المشحون بالشتائم بينهم يجعل المرء يتفطن إلى تلك الحياة السابقة التي عاشها هؤلاء”.(11)
2 ـ الانفصال عن الواقع المادي :
تتميز الروايات الثلاث بانفصال كلّي لأبطالها عن الواقع المادي المباشر الملموس بالخبرة والتجربة، وذلك خلال فترات محورية زمنياً، وفي أمكنة خاصة تتسم بتوفير عزلة كاملة بدنياً ونفسياً، الأمر الذي يقرّب الشخصيات من الحالة الروحية لاتصالها بعالم ماورائي تكمن فيه رغبات الأبطال في تحسين حياتهم وحياة من حولهم.
إن الجبل أو التلة المرتفعة أو الصحراء والعزلة هي المكان الذي يقصده بطل “مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو، كي يغوص داخل نفسه، ويحاول التطهر من آلامه، والقبح الذي يعاني منه، والتعرض لأكبر قدر من التفجع على واقعه المؤلم “مع الصبح سيكون أثري الخفيف قد مسحته الرياح نهائياً.. سيثبط ذلك عزيمة من يفكر في ملاحقتي، وسيكون بوسعي أن أبدأ خلوتي على قمة الكدية دون تشويش من أحد”(12)، وهناك يحظى بنوع من الكشف فيتجلى له “الخضير” الذي يملك مفاتيح تحقيق رغبة البطل. وكأن الرواية تعطي إشارات بأن البطل لا يمكنه أن ينفصل عن الواقع المعيش لزمن طويل، أو يقيم كالخضير في مكان وزمان غير متناهيين، ولكن البطل يعوّض ذلك بالحلم بأن يكون إنساناً من نوع آخر، إنساناً خارقاً لقوانين الزمان والمكان، يطوي الزمن لعله يحسّن من حاله، أو يستطيع أن يقدّم أفضل ما لديه لمن حوله؛ “وكنت أنا هابطاً من قمة جبلي، أفتش عن بشرية أفضل، عن أمة أعدل، كنت عارفاً أنها فرصتي الأخيرة، وأن السعي والتوق إلى الكمال على وشك أن يصل إلى نهايته، طبقاً لميثاقي مع الخضير”.(13) وكأن الرواية أيضاً تلتزم قوانين الفيزياء المعروفة لدينا حتى الآن، في أن الماضي قد مضى ولا رجعة إليه، ليس في وسع البطل الرحيل إلى الماضي الذي قد يكون أجمل لأننا نعرفه ويمكننا اختيار الجميل منه، فالممكن هو الذهاب إلى المستقبل فحسب: “انتهت رغبتي في الوقوف على أطلال أوداقوست، لا بد أن أهرب من هذا الشيطان الذي يطارد الأشباح، في أول فرصة، ألم يقل لي الخضير: إذا لم ترغب في البقاء في المحطة المقبلة، افعل كما فعلت الآن، اعتزل البشر، انفرد في الصحراء، وانتظر أمر ربك”. لكني إن فعلت سأفقد إمكانية السفر خارج الزمن، وماذا لو فقدت؟ هل من الممكن أن تكون أي محطة قادمة أسوأ من هذه التي أنا فيها الآن؟”(14)
أما رواية “البعد الخامس” لطالب عمران ففيها عدة أمكنة يتم فيها انفصالُ أكثر من شخصية عن واقعها المادي الخارجي، ويمكن النظر إلى الهند على أنها المكان الأوسع الحاضن لهذه الإمكانية، أما دمشق فهي المكان الأضيق الذي اكتَشَفت شخصياتُ الرواية بأن الدكتور حامد طبّق فيها تجارب لاكتساب سرعة الحركة الخارقة وطي المكان والزمن. في الهند عاشت شخصيات عدة في الرواية تجارب متكررة لاختراق شروط الفيزياء، أي لتحقيق دخول في الماورائيات، ولكن هذه التجارب جمعتها أماكن اتسمت بالخصوصية، فهي إما غرف في دور قديمة شعبية في قلب المدينة، أو زوايا في حدائق مليئة بالأشجار وذات طابع تراثي، فهناك تركيز على صفة القِدم في المكان والبعد عن المظاهر المعاصرة من تكنولوجيا أو أثاث فخم حديث، وهناك تركيز على الطبيعة الجميلة التي يعد القرب منها والتفاعل النفسي معها والارتياح إليها من معززات الدخول في حالة الطمأنينة الروحية الممهدة لبناء علاقة مع الماورائيات الغريبة.
ففي الغرف القديمة شاهدت شخصياتُ الرواية الظواهرَ الخارقة كارتفاع “غورديب سينغ” عن الأرض، “تمدد الشيخ على ملاءة، ووضع فوق صدره غطاءً رقيقاً مع قضبان من الخشب، غطّاها بغطاء آخر، ثم بدأ يرتفع عن الأرض طائراً بهدوء. نظرت إليه لينا مدهوشة، وبعد دقائق انخفض بهدوء. همسَت: شيء لا يصدق إنه متقدم في السن، كيف يقوى على ذلك؟
ـ لا علاقة للتقدم في السن بهذا العمل. إنها الخبرة والمعرفة والقدرة على التحكم بالجسد. أراها الشيخ كيف تنخفض ضربات القلب إلى نبضتين في الدقيقة، وكيف يدخل في مرحلة الليتارجيا ـ السبات”(15)، وفي الحديقة التقى الدكتور ماهر بجده الدكتور حامد للمرة الأخيرة.
وتحفل رواية “بعد الحياة بخطوة” ليحيى القيسي بالأجواء الغريبة في مكان مركزي واحد هو السماء، حيث يجد البطل كل ما يدهشه من لقاء الراحلين من أحبابه وأفراد أسرته المقربين، وصولاً إلى جدّه الذي يشغل مكانة مهمة هناك. وكما في الروايتين السابقتين، فإن البطل يشعر بأنه واعٍ تماماً في المكان الذي هو فيه، وكأنه في حالة من الوعي الكامل الذي يفيض فيشمل كل ما حوله، لتدخل البيانات إلى ذهنه بشكل تلقائي وسريع ومنساب، فهناك حجم كبير من المعلومات يتعرض له البطل في لحظات قليلة، وهو كذلك يقارن بين ما يراه الآن، وما يراه بعد برهة قصيرة، حيث إنه يرى مصائر مختلفة للناس، وحيوات عديدة يحياها الشخص الواحد، وفرصاً متعددة لمن لم يتمكن من الوصول بجدارة للسكن في “المستقر” أي السماء: “أخبرته أمه حين هدأ من اضطرابه، أن كل من يصل هنا يتعرض لهذه المراجعة الذاتية لحياته السابقة، وما عمل فيها، ويحسّ بما جرى هناك بكل تفاصيله الدقيقة. يأكله الندم أحياناً على ما فرّط من وقته الثمين، وعليه أن يعرف أين أخفق وأين أصاب في هذه الرحلة، وفي حالة فشله الذريع في مهمته، قد يتم منحه فرصة ثانية للعيش على الأرض في ظروف أكثر صعوبة كنوع من القصاص، وعليه أن يثبت نجاحه فيها، أما في حال فشله مجدداً، فإنه يتم إرساله إلى أرض أخرى تدعى “الحضيض” سيحدّثه عنها جده حين يأتي أوان ذلك!”(16)
إن مهمة البطل تشبه نسبياً ما في الروايتين السابقتين، من الحلم بحياة أفضل، غير أن البطل هنا كان يرغب في البقاء داخل الحالة الجميلة في السماء بين الغيوم وبين أحبابه، ولكنه علم بأن قرار انتقاله للسكن في السماء لم يحن بعد، وبأن رحلته وزيارته كانت بهدف نقل ما شاهد وخَبِر إلى الناس على الأرض، في عالمه المادي المباشر الذي اكتشف مدى مشقّته مقارنة بالعالم الآخر.
3 ـ التقنيات الماورائية :
تنوعت التقنيات المستخدمة في الروايات الثلاث سردياً في سبيل الوصول إلى حالة الماورائيات، وربط الشخصية بها في إطار مقرب ووطيد، فكان الدعاء هو التقنية الساطعة في “مدينة الرياح” لموسى ولد ابنو، “كنت على رأس الكدية أُصلـّي الليل والنهار، جوعان، عطشان، تطمع في الذئاب والنسور، وكنت أرى أسفل الكدية مدينة جميلة الدور، تحيط بعماراتها الحدائق الكارعة في المياه، وكلما نزلتُ تجاه هذه المدينة، يستقبلني الرجل الدميم ذو الهامة، يسد الطريق أمامي ويمنعني من النزول، ويكرر علي بلا انقطاع نفس العبارة: “اعتزل البشرية، انفرد في الصحراء، وانتظر أمر ربك”. أرجع إلى مكاني، وأنهمك في صلاتي تحت أعين النسور”(17). لقد بدا البطل في حالة روحانية فاضت عن البؤس والأسى اللذين يشعر بهما، فكان الوصول إلى الحالة القصوى من توهج الأحاسيس الداخلية، وسيلة للتواصل مع الإيقاع الكوني الواسع الذي أدى إلى اختراق فيزياء الزمن والجغرافيا والمكان، وأسهم في ظهور شخصية الخضير التي اعتمدتها الرواية ممثلة لتقنية الخلود. كما أن التقنية الروائية تمثلت في تقسيم الزمن إلى أربعة أقسام متتابعة غير متوازية، شغل البطل فيها حيزاً من الزمن التاريخي، والمكان الجغرافي، وصفحات متلاحقة من الرواية، متفاعلاً مع الأشخاص بمشاعرهم المُحبة والمتمردة والوحشية والمندهشة.

ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!


كيف أراسل د علياء الداية
محمود سعيد
روائي عراقي