*عادل حدجامي
نشر الأستاذ حاتم الصكر مقالا حول النقد الأدبي العربي الحديث، وحول ما شاب هذا النقد من غلو في النزعة “التنظيرية” أحيانا، وهي النزعة التي وسمها بالفلسفية، وقد استدرك على مقال الأستاذ وناقشه بعدها أستاذان هما نبيل سليمان ومحمود عبد الغني.
لست أجد شيئا قد أخالف فيه ما نحا إليه الأستاذ الصكر ولا الأستاذان بعده، ولا شيئا ذا بال يمكن أن أضيفه في “عين” الموضوع، عدا الموافقة العامة، فأنا، وبحكم التخصص، لست مطلعا على ما يحصل في مجال النقد الأدبي العربي الحديث، إذ إني كنت وما زلت “قداميا” في علاقتي بالأدب العربي، وغاية ما بلغته، في أمر هذا النقد، هو ما بقي في الذاكرة من رسيس قراءات قديمة، لعل أهمها ما اشتجر فيه أصحاب محمود شاكر وأصحاب طه حسين حول قيمة الاستناد إلى المنهج الديكارتي في تأويل المتن الشعري العربي القديم، بين داعية له وبين داعية للاكتفاء بالنقد الذوقي الخالص الذي هو ميزة من له بصر بالشعر والعربية، على اعتبار أن الذوق، عندهم، يجعل المرء في غنية عما قد ينفذ إلينا من مناهج “الأعاجم”، بتعبير شاكر الحاد. هكذا فما أجد في نفسي أهلية لقول شيء ذي بال في هذا الأمر، اللهم أن أعترف أني إلى الذوقيين أقرب، إذ للذوق، في تقديري، ما يكفي من الموضوعية “الحدسية” التي تجعله يستغني عن النزعات التنظيرية، خصوصا منها تلك التي تدّعي الجدة والسبق، فالجدة غالبا ما لا تكون إلا اسما آخر للموضة، الإيغال في التجريد غالبا ما لا يأتي إلا بغاية إضفاء ما قد يبدو عنصر “جدية” أو “موضوعية” على القول، أو هكذا يتوهم، بسبب من هيمنة التصورات “العلموية”، التي هي إيديولوجيا هذا الزمان، عند عدد من النقاد، إذ إن عددا من الباحثين، ما زال (وإن لا شعوريا) ينظر إلى الأدب باعتباره مجال المشاعر واللواعج والانفعالات، (الحروف)، في مقابل المجال العلمي التقني (المهيمن اليوم) والذي هو مجال النجاعة والمردودية (الأرقام)، هكذا ولإضفاء بعض “الفحولة العلمية” على النقد، ينبغي اللجوء إلى ما تيسر من المفاهيم والمناهج “الصلبة”، ولا حاجة لأن نبسط ما في هذا التصور من الفجاجة والسذاجة، أبسطها كون الأدب فاعلية فكرية لا علاقة لها باللواعج والمشاعر، فـ”بالمشاعر الطيبة لا نحصل إلا على أدب رديء” كما كان يقول أندري جيد، إنه “خطاب”، أي “نظام إنتاج للحقيقة” مواز لنظام العلم وليس “تحته”، لأنه يملك نمط حقيقته الخاصة، كما سنتبين.
على أنه إن لم يكن لي شيء “تقني” مخصوص لأقوله في أمر النقد الأدبي، فإن تعريج الحديث عند الأساتذة على الفلسفة، بعث في نفسي، بحكم أن انتمائي للفلسفة، الرغبة في الحديث عن هذا الأمر “من الفلسفة”، إذ بدا لي أنه قد يكون من المفيد بأن أعكس الأمر، وأن أتحدث عن “أثر الأدب في الفلسفة”، عوض الحديث عن “أثر التحليل الفلسفي في الأدب”، هذا حتى وإن كان حديثي سيكون مطلقا، أي غير متعلق بالثقافة العربية حصرا.
ماذا عن التوسل بالأدب في الفلسفة؟
من المعلوم أن الأدب (والفن عموما)، كان دائما رهانا فلسفيا، على أن هذا الرهان لم يحضر إلا بصورة مفارقة وغريبة، مفارقة وغرابة يعكسها أول نص معتبر في التاريخ هو لأفلاطون، فهذا الفيلسوف كتب كل فلسفته “أدبا”، أي “محاورات”، لكنه في نفس الوقت الفيلسوف الذي “أحرق” قصائده حين قرر أن يصبح “فيلسوفا”، ودعا لضرورة حرق أشعار القدامى من التراجيديين، لما تبعثه في نفوس الناس من نوازع تتعارض مع الجمهورية “الهندسية” التي يريد أن يقيمها، هكذا نجد الأدب (والشعر خصوصا) منبوذا نظريا، حاضرا عمليا. سيستمر هذا الموقف الملتبس في مجموع الفكر الغربي (كان وايتهيد يقول ليس تاريخ الفلسفة الغربية إلا هوامش على نص أفلاطون)، بوجوه وأنماط متعددة يطول عرضها، وسيمتد إلى حدود المثالية الألمانية تحديدا، أي إلى الفلسفة التي ستحقق “طموح ” أفلاطون بأن تعلن بأن الفلسفة، حتى تكون فلسفة، ينبغي أن ترسي “المفهوم” والنسق، وأن تسعى لأن تكتب بلغة جافة وأسلوب وعر.
لكن السؤال الذي قد يهمنا هنا، هو ما العلة في هذا الأمر؟ ما علة كون الفلاسفة- المثاليين تحديدا- أعلنوا هذا العداء للأسلوب الأدبي؟
العلة هي الخوف من الخطابة وغواية اللغة، والخوف من هذين آت من كونهما كانا منهج السوفسطائية وسلاحها الفتاك، والحال أن مبرر ولادة الفلسفة ابتداء كان هو معارضة السوفسطائية، فكان من الضروري أن تبلغ هذه المعارضة الأداة والمنهج نفسه، فالفلسفة نشأت ضد الخطابة، أي ضد ما كان يسمه أفلاطون بـ”فتنة الكلام والمجاز”، هذا هو السبب “اللاواعي” الذي حرض الفلسفة وحركها، وهذا ما يفسر كون أكبر سبة كان يمكن أن تلحق بفيلسوف “محترف” هي “الخطابية”، وهذا ما جعل هيغل، أي الفيلسوف الذي بلغ معه هذا الأمر ذروته، يقرر مرة، بحسب ما ينقله جورج شتاينر، أنه “ينبغي أن نكتب بشكل منفّر، حتى نكون فلاسفة”. على أن هذا “الموقف” الحاد يعكس، في العمق، حقيقة قوية، وهي الإيمان، وللمفارقة، بقوة الأدب، التي تأتيه من قوة اللغة التي يحرضها، وكأن الفلسفة في إلحاحها على إقصاء الأدب ، تفضح ضعفها أمام هذا الخصم القوي، وتريد أن تمحو شبح قضية فلسفية مهمة، وهي أن الحقيقة، التي نذرت الفلسفة ذاتها للدفاع عنها، هي أولا مسألة “لغة”، وهذا ما وعاه فلاسفة كبار ليس أقلهم نيتشه، (بعد كيركيغارد وشوبنهاور وآخرين)، وهذا بالضبط ما يفسر لماذا اختار نيتشه، حتى يتجاوز أفلاطون وهيغل، أن “يكتب” بذلك الأسلوب خصوصا، أي أن يكتب الشذرة، أن يكتب بالأدب، فمعارضة الميتافيزيقا لا تكون معارضة ما لم تظهر أولا في “الأسلوب”، لأن مقولة الحقيقة هي أولا مقولة “نحوية”، أو كما يقول في تمهيد جينيالوجيا الأخلاق (ننتبه إلى أن هذه القضية انتبه إليها المفكرون العرب، كما في المناظرة الشهيرة بين متى بن يونس وأبو سعيد عند التوحيدي).
إن ما يكشف عنه نيتشه، والعرق الفلسفي الحيوي عموما الممتد من لوكريس إلى برغسون، هو أن الفلسفة، ما دامت تتوسل باللغة الطبيعية، فإنها ستبقى في حاجة للأدب دائما، لأن الأدب هو ما يمنح “الحدوس”، أي ما قد يمنح الفلسفة “وعيها” التراجيدي بشرط الإنسان الوجودي، والفلسفة دون الوعي التراجيدي تصير مجرد ثقافة عامة، والثقافة شرط في الفلسفة، ولكنها ليست فلسفة، لأن الرهان في الفلسفة هو على المعنى والقيمة، وليس على المعلومات.
يُحكى أن هيغل، عند موت صديقه هولدرلين، لم يجد عزاء له إلا أن يكتب قصيدة، لمَ اختار هذا الفيلسوف المفهومي جدا، حين حصل شيء يعنيه “فعليا”، أن يكتب قصيدة؟
لأن الأدب، والفن عموما، هو وحده القادر على عكس معنى التجربة الإنسانية، في تراجيديتها، هو وحده قادر على أن يعكس “حقيقة” هذا الكائن المفارق المشدود كوتر بين عدمين، الكائن الذي يعرف قبل أن يموت بأنه سيموت، فالأدب “يقول” حقيقة الإنسان كما العلم تماما، فقط أن العلم يقول الحقيقة الكمية، بالكليات، في حين أن الأدب يقول الحقيقة الكيفية، بالتفاصيل، والكليات هي ما يتفق حوله الجميع دون أن يعني أحدا منا، والتفاصيل هي ما يختلف حوله الجميع ويعني كل واحد منا.
________
*ضفة ثالثة.