خلف نحو أربعين كتاباً اعتُمد الكثير منها في المناهج الأكاديمية الأدبية.
تميّز بلوم – بين المعالم الرئيسية التي وسمت حياته – بكفاحه العزوم الذي بلغ مبلغ الحرب الأدبية من أجل تثبيت ركائز ما صار يسمى المُعتمد الأدبي Literary Canon في الأدب الغربي، وهذه كناية رمزية – برغم حمولتها اللاهوتية الصارخة – عن الأعمال الأدبية التي يراها بعض النقّاد خليقة بالانضمام إلى سجلّ المصنفات الأدبية العظيمة التي تستحقّ الخلود الأبدي لقدرتها على مجاوزة محدوديات الزمان والمكان والبيئة اعتماداً على قيمتها الجمالية فحسب بعيداً عن المؤثرات الأخرى كيفما كانت (دينية، سياسية، اجتماعية…). وبهذا يرى بلوم في النتاج الأدبي العظيم نوعاً من الصنعة الفردية الخالصة المحكومة باعتبارات جمالية تسعى لبلوغ الخلود الإنساني متجاوزة كلّ المقيدات الزمنية. ربما يكون بلوم بهذه الشاكلة قريباً من الناقد الإنجليزي فرانسيس ليفز Francis Leavis؛ لكنه يتمايز عنه بنقده الشديد للمدرسة النقدية التي جاء بها (تي. إس. إليوت) والتي ترى في الأدب (الشعر بخاصة) نوعاً من الممارسة البشرية التي تكثّف التجربة الدينية وتعبّر عنها بطرق أخرى وإن تماثلت معها من حيث الإحساس الخاشع والنشوة السايكولوجية التي تجتاح النفس المسكونة برغبة جعل التجربة الأدبية نمطاً من الممارسة الكونية الشاملة المماثلة للنشوات التصوفية.
عُرِف عن بلوم أنه ناقد أدبي وأستاذ جامعي غزير الإنتاج منذ صدور كتابه الأول المعنون (صناعة أسطورة شيلي) عام 1959؛ إذ قلّما مرّ عام دون أن يشهد صدور كتاب أو اثنين له، وتشمل قائمة الكتب التي أصدرها بلوم نحواً من أربعين كتاباً يُضافُ لها المئات من الكتب الصغيرة التي عمل محرّراً لها أو شارك في تحريرها. ثمة إشارة ينبغي تأكيدها هنا، وهي أنّ الكثير من كتب بلوم اعتمدت في المناهج الدراسية الأدبية في الكثير من الجامعات الأميركية والعالمية، وفضلاً عن هذا فقد تصدّر الكثير منها قائمة أفضل الكتب مبيعاً؛ الأمر الذي قلّما نشهد مثيلاً له لدى ناقد أدبي آخر.
وقف بلوم طيلة حياته الأكاديمية التي عمل فيها أستاذاً للأدب والدراسات الإنسانية في جامعة ييل العريقة منافحاً عن القيمة الجمالية المطلقة في الأدب بوجه النقّاد الذين وصفهم بأنهم ينافحون عن (مدرسة الامتعاض) في النقد الأدبي، وهو يقصد بهذا التوصيف المدرسة النقدية التي ضمّت جميع الكتّاب الذين أعلوا شأن الدراسات الخاصة بالتعددية الثقافية، والنسوية، والماركسية، والبنيوية الجديدة؛ فقد رأى في هذه التوجّهات الحديثة خيانة للأغراض الجمالية التي ينبغي أن يتوجّه إليها كلّ أدب حقيقي جدير بالدخول في حظيرة المُعتمد الأدبي.
ثمة كتابان للبروفسور بلوم حازا على الإطراء الأعظم والإجماع الأكبر على تفرّدهما بين مؤلفات الناقد اللامع، وهذان الكتابان هما: المُعتمد الأدبي: «الكتب ومدرسة العصور» (نُشِر عام 1994)، و«كيف نقرأ ولماذا» (نُشِر عام 2000)، وقد عمل المركز القومي للترجمة في جمهورية مصر العربية على ترجمة هذا الكتاب ونشره عام 2010.
وصف بلوم نفسه بأنه «وحشُ قراءة» يستطيع قراءة واستيعاب كتاب بأربعمائة صفحة في ساعة واحدة!، ويبدو أن هذا الوصف الذاتي لا ينطوي على شيء من الغرائبية أو المفارقة؛ فقد سبق للبروفسور ريتشارد بيرنشتاين أستاذ الفلسفة في جامعة ييل وزميل بلوم أن قال إنّ مشاهدة بلوم وهو منغمر بالقراءة تجربة تبعث على الرعب! وإذا كان أمر بلوم على هذه الشاكلة فليس غريباً إذن أن يودّ مضاهاته بالدكتور صموئيل جونسون، الناقد الأدبي الموسوعي ذائع الشهرة في القرن الثامن عشر.
ناقش بلوم التأثير الأدبي في كتاب مهمّ له أصبح انعطافة مفصلية في تأريخه الأكاديمي والنقدي، وقد نشر الكتاب عام 1973 بعنوان (قلق التأثير The Anxiety of Influence) وتمتّ ترجمته إلى ما يقارب خمساً وأربعين لغة، ووظّف بلوم في هذا الكتاب النظرية الفرويدية عبر تمثيله للخلق الأدبي بصراع أوديبي يكافح فيه الأدباء الصغار التقاليد الأدبية الراسخة ويتطلّعون إلى دفقات من الأصالة المتفجرة التي تميّز الأعمال الأدبية العظيمة عن سواها. لسنا في حاجة للتأكيد هنا أنّ هذه الرؤية التي يعتمدها بلوم بشأن الخلق الأدبي تتقاطع بحدّة مع رؤية مدرسة النقد الجديد التي هيمنت على الأدب الأميركي في منتصف القرن العشرين – تلك المدرسة التي نحّت جانباً السياق التأريخي ومقاصد الكاتب مقابل اعتبار الأدب سلسلة من النصوص التي يتوجب تحليلها عن قرب في الجوانب الخاصة بالمعنى المتضمّن في اللغة والبُنى الهيكلية. أكّد بلوم دوماً أنّ العمل الأدبي ليس مُصنّفاً شبيهاً بوثيقة اجتماعية تتوجب قراءتها بدفعٍ من حمولتها السياسية أو التأريخية؛ بل ينبغي قراءتها بدفعٍ من المتعة الجمالية الخالصة. إلى جانب المتعة الجمالية أعلى بلوم من شأن الغرائبية الغامضة التي ينطوي عليها كلّ عمل أدبي يستحقّ أن يوسم بالأصالة الأدبية.
يفرِدُ بلوم في خاتمة كتابه (المُعتمد الأدبي)، ملحقاً يضمُّ أعمال 850 كاتباً رأى فيهم بلوم القدرة على الاستمرارية والتأثير في الأجيال القادمة. جاء شكسبير في رأس القائمة، ثمّ أعقبه أفلاطون وبروست (ليس ثمة ترتيب زمني في الأسماء، بل جاء الترتيب وفقاً لزخم التأثير كما يراه بلوم)، وثمة أسماء أخرى مثل: إيفو أندريتش، الكاتب اليوغسلافي الذي نال جائزة نوبل في الأدب عام 1961، وطه حسين، الكاتب والمثقف المصري ذائع الصيت. ليس غريباً أن نتوقّع صدور الكثير من الاستجابات المتباينة إزاء هذا الملحق من قبل الكتّاب والنقّاد الأدبيين على مستوى العالم بأكمله؛ فقد سعوا لتفكيك الشفرات الإبداعية التي اعتمدها بلوم في قائمته – تلك الشفرات التي انطوت على الكثير من الخيارات التمييزية الكيفية.
لا أرى بأساً في خاتمة مقالتي هذه أن أورد شيئاً من رؤيتي الشخصية تجاه هارولد بلوم ومعتمده الأدبي فضلاً عن رؤيته الخاصة للفاعلية الأدبية الإبداعية. أرى أنّ هارولد بلوم يتشارك ناقداً ومفكّراً أدبياً آخر هو رينيه ويليك في نظرته إلى الأدب باعتباره مملكة خاصة مسوّرة محكومة بقوانينها الخاصة، ولو قرأنا سلسلة كتبه الستة التي نُشِرت بعنوان (تأريخ النقد الحديث) لشهدنا تحشيداً مكثفاً من الأسماء والوقائع التي تشي بأن الأدب فاعلية محكومة باعتبارات جمالية وشخصية خالصة فحسب.
إنّ نموذج المشتغل الأدبي ذي المواصفات الشكسبيرية لم يعد صالحاً ليكون النموذج المبتغى في عصر الثورات العلمية والتقنية، ولم تعُد الثقافة تمتلك دلالاتها المرجعية بمقدار التمرّس في الدراسات الإغريقية واللاتينية والتواريخ الوثائقية الضخمة وابتداع معتمدات أدبية كيفية تعمل على أسس تمييزية بصرف النظر عن نبالة مقاصدها. هل كان البروفسور ليفز الذي أوردتُ ذكره أعلاه محقاً في قصر الشعر الحقيقي على ثلاثة أسماء: ت. إس. إليوت، وجيرارد مانلي هوبكنز، وويليام بتلر ييتس؟ وما المسوّغات التي يمكن أن يقدّمها البروفسور بلوم لاستبعاد أسماء أدبية على شاكلة إيان ماكيوان من معتمده الأدبي؟
هناك ما تنبغي الإشارة إليه في هذا الشأن: لم يعُد من اعتبار يذكر للرطانات اللغوية والفكرية المتعجرفة التي تدّعي السعي وراء الأفكار الكبيرة والنزعة الجمالية الخالصة؛ بل صار المقياس الحاسم هو التأثير الإجرائي في طبيعة الحياة فضلاً عن الاستجابة الفعالة إزاء المتغيرات الثورية الفاعلة فيها، وفي الوقت ذاته لا يسعنا أن نتوقّع سهولة قبول نقّاد كلاسيكيين – على شاكلة البروفسور بلوم – الانخراط الفاعل في عصر الثقافة المعاصرة؛ فلكلّ عصر مريدوه المنافحون عن سطوتهم الفكرية والاعتبارية فيه. إنّ هؤلاء النقّاد كائنات مسكونة بأثقال نوستالجية تنوء بها كواهلهم وليس يسيراً عليهم التخلي عن مواقع يرونها راسخة لهم.
لم يعُد أقطاب الإبداع الأدبي في عالم اليوم كائنات تتلمّس الخطى الشكسبيرية بقدر ما تلتقط ترجيعات الثورة العلمية والتقنية، ولا أحسب أنّ المعتمد الأدبي للبروفسور بلوم قادرا على حصر الإبداع الأدبي في زوايا ضيقة تجاوزتها الحقائق الفاعلة على الأرض.