قراءة في كتاب محمد مصطفى القباج “الحبابي الفكر المتحرك”

*خاص – ثقافات

* د. عزيز الحدادي

“اذا أردنا أن نسهم في تكوين فرع التاريخ المعاصر و أن نسهم في الحضارة يجب أن نكون جديين ولا نفتخردائما بالماضي، ونتقاعس عن العمل في الحاضر “

               محمد عزيز الحبابي

كيف يمكن للفلسفة أن تجعل من الحاضر اشكالية ؟ بل كيف يمكن لسؤال الحاضر أن يحول الفلسفة الى خطاب حول الحداثة و التنوير ؟ الا يكون القباج قد أدرك بأن زمن الحبابي امتزج بزمن الفلسفة المغربية و أوضحى كذلك الظل الكبير ؟

من أجل الحبابي، و ضد النزعة العدمية التي تخترق الراهن أصدر مصطفى القباج كتابه الجديد حول مسار الفيلسوف عزيز الحبابي ،و نظرا للعمق الفكري و الاخلاص الروحي الذي يسود هذا المتن المتعدد بأصناف مختلفة تجمع الفلسفة بالفن ، فان ما كان يهم المؤلف ليس تجاوز المزاعم والسير نحو الأسئلة العميقة ، باعتبارها هدفا للثورة العقلانية التي كانت الحلم الكبير للفيلسوف المغربي ،عندما أعلن عن قدوم بومة مينيرفا الى الجامعة المغربية ، ولعل القباج قد احتفل بهذه اللحظة الحاسمة في مؤلفه ، و لذلك نشعر بأنه يتساءل مندهشا : فمن أين يأتي الأمل اذا فقدت الفلسفة المغربية أحد روادها ؟ و لماذا أن العقلانية فقدت بريقها بعد موته ؟ وكيف استطاع أن يشيد مدرسة فلسفية تحمل اسمه ؟

ياله من رجل عظيم ، لا يمكن لمن يقرأ كتبه أن لا يجد نفسه أمام لحظة حاسمة في تاريخ الفكر والحقيقة ، و بما أنه اكتشف أن الروح المغربية كانت فقيرة و مغلفة بقشور التراث ، فانه وجد الترياق في الفكر الفلسفي الرشدي الذي يجب تحديثه بأسئلة الحاضر ،وانسجاما مع هذا المطلب، فان الدفاع عن النهضة العقلانية تحول الى غاية الغايات . ولن تتحقق الا بواسطة تدريس الفلسفة في الجامعة، ونشر الخميرة العقلانية في الجيل الجديد .

  ولعل هذا ما يسميه القباج بالفكر المتحرك ، حيث أن لحظة الحبابي تجاوزت الزمنية بالأبدية ، و لذلك كان يتنبأ بأن المحصول سيكون وافرا خلال تلك السنوات التي كان يدرس فيها الفلسفة ويشجع الطلبة : ” ألم أوصيك بأن تلتحق بشعبة الفلسفة في كلية الأداب ” هكذا خاطب الحبابي القباج، ثم ودعه قائلا : أنا في انتظارك ، و الحال أن الفلسفة هي التي كانت تنتظره ، لأن الحبابي كان مثل سقراط يحاور الناس في الطريق يعلمهم طريقة طرح السؤال ويدعوهم الى معرفة انفسهم بانفسهم ذلك ان العودة الى النفس وانقاذها من الجهل كان هدفه . فمن العبث ان يظل الانسان جاهلا لنفسه ويعتقد بانه يعرف الاخرين , لم يستطيع مؤلف كتاب الفكر المتحرك ان ينجو بنفسه من الغرق في هذا الحب الافلاطوني الذي يجعل من الفلسفة مجرد اخلاص للزهد الروحي والحب المطلق . فالذي لا يحب لن يعرف الحقيقة بلغة افلاطون .فثمة علاقة محبة تفيض من بياضات هذا الكتاب ,وكاننا امام رسالة اعتراف بالجميل بعث بها القباج الى الحبابي ,ذلك ان جمع هذا المتن المتنوع والحرص على وحدة ايقاعه ,والسعي الى تقديمه للقاريء بشكل جميل ورائع من اجل الامتاع والمؤانسة ,كان هو الشغل الشاغل للقباج الذي مزج بين سيرته الذاتية وسيرة الحبابي الى درجة اننا لم نعد نميز بينهما , كما هو الحال مع ابن باجة وصديقه الامير في رسالة الوداع .لكن الم يكن القباج يستحضر ما قاله ابن الصائغ ان هناك نوعان من الاجداد من ولدوا ارواحنا ومن ولدوا اجسامنا ؟ الم يولد الحبابي جيلا من فلاسفة المغرب اذكر منهم الجابري جمال الدين يافوت القباج ….؟

   يقول ابن باجة :” و السعداء قلما يوجدون في هذه المدن ، فاذا وجدوا كانت لهم سعادة المتوحد، وكانت حالهم أشبه بحال الغرباء ” فهؤلاء السعداء يتميزون عن الجمهور و النظار، بافراطهم في المحبة ، محبة الحكمة ، محبة بعضهم البعض ، و لذلك نصادف هذه النزعة الباجية عند القباج، الذي كان يكتب تحت سلطة العاطفة ، و لم يكن يهمه ما قاله اندري جيد : بالعواطف الجميلة ينشأ الأدب الردئ ، لأن القباج جعل من حبه للحبابي موضوعا للكتابة ، مما جعل كتابه ينمو مع نمو الروح ، و نشوة الفلسفة ليست شيئا آخر سوى هذا النمو للروح في أحضان الحوار بين الفلاسفة .

  ومهما يكن من أمر ، فان ما أثار انتباهي و أنا أقرأ هذا الكتاب ، ليس هو غنى مواضعه ، بل جينيالوجية أسئلته التي تريد أن تحقق في فلسفة الحاضر كما تركها الحبابي ورغب القباج في تعميم محصولها على معاصيره ، و كأننا أمام شجرة ديكارت التي قام الحبابي بسرقتها من الغرب ،وزرعها في المغرب ، وحين أثمرت جاء القباج ووزع ثمارها علينا ، يقول ديكارت : ” الفلسفة شجرة ،جذورها الميتافيزيقا ، وجذوعها الفيزيقا ، والفروع التي تتفرع من الجذع هي سائر العلوم  . فهل كان الحبابي هو البستاني الذي يرعى هذه الشجرة ؟ وهل ورث القباج عنه هذه المهمة ؟

  ينبغي التفلسف ولو مرة واحدة في العمر هذه هي وصية الحبابي لطلابه ، لأنه ظل مخلصا لروح المعلم الأول الذي كان يقول : ” إما أن التفلسف ضروري ، ولا بد عندئذ من التفلسف ، إما أنه غير ضروري ، و لا بد أيضا من التفلسف لإثبات عدم ضرورته وفي الحالتين ينبغي التفلسف”.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *