ترجمة الأدب الإسكندنافي إلى العربية.. رواية هدم أنموذجا

*شاكر الأنباري

الأدب الإسكندنافي بعيد، بعض الشيء، عن ذائقة القارئ العربي، وهناك معوقات كثيرة تقف أمام ترجمة ذلك الأدب، وتقبله.

والأسماء التي وصلت إلى ثقافتنا تكاد أن تعد على الأصابع، بين مسرح وشعر ورواية وقصة. في المسرح يحضر النرويجي هينرك إبسن، والسويدي ستريندبرغ، وفي الشعر توماس ترانسترومر السويدي، وفي القصة لا يمكن إغفال الكاتب الدانماركي المدهش هانس كريستيان أندرسون الذي سحر الصغار، والكبار، بقصصه الخيالية عن عروس البحر، وثياب الإمبراطور، وفرخ البط القبيح، وعقلة الإصبع، وبائعة الكبريت، وجندي الصفيح.

ولا يمكن إغفال كنوت هامسون، الحاصل على جائزة نوبل، النرويجي المشرد في عاصمته كرستيانيا، وهي الاسم القديم لأوسلو، وقد حضر متقمصاً شخصية بطل روايته الشهيرة: الجوع. ورغم ذلك، يظل المنتج الثقافي الإسكندنافي أوسع من الأسماء التي ذكرت، لما له من خصوصية قد لا يجدها المرء في أدب بلدان أخرى، تبعا لروح البيئة الشمالية الكامنة في الأساطير، والمعتقدات، وبنية مجتمعاتها الساكنة تقريبا للقرنين الماضيين، واللغة اللصيقة بواقعها.

لم تمر تلك اللغة بتلاقحات كبيرة، لقرون عدة، الأمر الذي جعل نبرتها، ورموزها، وإيحاءاتها، وجرسها، متجذرة في المكان والتاريخ بشدة، ويصعب لغريب اقتحامها حتى لو تعلمها في المدارس، أو وفد غريبا إليها. إن ما يخلق ألفة الترجمة، وشيوعها، هو الاحتكاك بين الشعوب والحضارات، ويلاحظ ذلك بالترجمة الوافرة من الفرنسية والانكليزية والإسبانية والروسية إلى اللغة العربية، إذ هنا ثمة تاريخ طويل من الاحتكاك الحضاري بين تلك اللغات مع العربية، وهذا ما لا نجده مع الشعوب الاسكندنافية الواقعة في شمالي الكرة الأرضية، وتعتبر غريبة على الثقافة العربية. عدا ذلك، فإيقاعات الأدب الاسكندنافي ايقاعات خافتة، تستبطن الدواخل البشرية بعمق، ونادراً ما تلتفت إلى رصد أحداث جسام ذات مسحة دراماتيكية. ومرد ذلك قد يكمن، ربما، في الاستقرار التاريخي لتلك المجتمعات، ورسوخ بناها الاجتماعية ومؤسساتها القانونية والسياسية، ودخول الاصلاحات الاجتماعية منذ زمن طويل جدا.

يهتم الأدب الإسكندنافي بالفردانية، والهواجس الداخلية للبشر، فيوحي للقارئ البعيد عن تلك البيئة وكأن لا شيء يحدث، واليوم يشابه الغد، ولا تعبر اللغة سوى عن تأملات لشخوص يتحاورون، أو يقفون عاجزين أمام معضلات روحية وميتافيزيقية ووجودية، فلا يجد المترجم ما يغري بالترجمة للعربية خاصة، لا سيما وهو يترجم عن لغة وسيطة. ولعل رواية هدم، المكتوبة قبل قرن تقريباً، خير مثال على تلك الظاهرة. أكثر من خمسمائة صفحة، بقطع كبير، يكرسها الروائي الدانماركي توم كريستينسن لملاحقة حياة بطله أوله ياستراو في العاصمة كوبنهاغن، وذلك في عشرينيات القرن الماضي، وجاءت بعنوان غريب، حيث قامت بترجمتها عن الدانماركية الكاتبة العراقية دنى غالي، المقيمة في الدانمارك منذ ثلاثين سنة، وأصدرتها المتوسط في نهاية السنة الماضية بدعم من مؤسسة الفنون والآداب الدانماركية.

الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت لها سمات متفردة، لا في الدانمارك وحدها، إنما في عموم أوروبا، ولعل أبرز سمات تلك المرحلة هو هاجس الضياع المستولي على البشر، بعد حرب طاحنة راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر، وهو الشعور المتجذر بعمق في روح بطل الرواية البالغ الثلاثين من عمره، المتزوج وله طفل صغير، ويعمل صحافياً في أشهر جريدة دانماركية تدعى داوبلاذيت. بمعنى أنه يتحدر من النخبة الثقافية للعاصمة كوبنهاغن، ويشتغل محرراً لمراجعات الكتب الأدبية الصادرة في تلك السنين. تميز جيل تلك الحقبة التي رصدتها الرواية بالتمرد، ومساءلة القيم الأخلاقية السائدة، ومنها الإيمان الديني بعد قرون من هيمنة الكنيسة، والإقطاع، والملكية. وتفشى بين الجيل عادة معاقرة الخمر بإفراط، وكأن الخمر قد أصبح بديلا عن حياة فائرة لا هوية لها أمام مفترقات طرق كلها تؤدي إلى المجهول، وكان ذلك هو حال الدانمارك في تلك الفترة. فبعيني الصحافي المثقف أوله ياستراو، ترى انبثاقات الفكر الشيوعي البلشفي، واليساري عموماً، وصراع الحرية مع نفوذ المؤسسة الملكية والأحزاب المحافظة، والحركات الداعية لتحرير المرأة، ونهوض الطبقة العاملة، ووضع المجتمع على سكة الحداثة. ودارت معظم الحوارات بين شخصيات الرواية حول تلك الانبثاقات الجديدة وكأنها تساؤلات المجتمع ذاته.

وكان واحداً من ملامح أوله ياستراو بطل الرواية، حين خاض في ذلك الخضم، هو الحساسية الهائلة تجاه تلك الأسئلة. الأفكار الشيوعية، والتقاليد المكرسة، والنفاق الاجتماعي الضارب الأطناب في نسيج النخبة المثقفة من قضاة، ومحامين، وصحافيين، ومفكرين وشعراء. لتصل تلك الحساسية المرضية حتى نحو اللغة ذاتها، وقد وصفتها إحدى الشخصيات وصفا بليغا: كم هو صعب أن تقول شيئا بدقة بهذه اللغة. إنها مؤلفة بشكل قطعي من أجذاذ همجية مادية. وهو قول يحيل إلى انغلاق اللغة تلك، وجذورها الممتدة إلى عهد الفايكنغ الذين روعوا القارة الأوربية قبل قرون طويلة بعقائدهم الأسطورية، وآلهتهم قبل دخولهم الدين المسيحي منذ ألف عام تقريبا. تدور أحداث الرواية في العاصمة كوبنهاغن، ومن خلال عين البطل، وحركته ضيقة المدار، لا يجد القارئ المعاصر الذي يعيش في المكان كبير فرق بين المدينتين، رغم مرور ما يقرب القرن على الأولى.

راكبو الدراجات، حانات المدينة، شوارعها المعروفة، أبنيتها، ساحاتها، هي نفسها تقريبا، حتى عادات قاطنيها ما زالت متأصلة في نفوس سكانها المعاصرين. واحد من شوارعها الشهيرة وهو شارع استد غاذا المشهور بتواجد العاهرات فيه، وتقع شقة البطل في زاوية منه، لم يزل حتى اليوم يبيع البضاعة نفسها، وإن بقدر أقل، حيث احتلت الفنادق الجديدة والمحلات الحديثة معظم جهاته. وهو اليوم كما قبل قرن، يقع ملاصقا لمحطة القطارات المركزية، وجاء لها وصف واف خلال الرواية، والمحطة ما زالت قائمة بتصميمها الباروكي نفسه. حدائق التيفولي بمسرحها البانتوميم المغطى بستارة رسم عليها طاووس ضخم، وردهة المرايا، والمطعم الشرقي، والتليلات المضاءة بالمصابيح الكأسية الشكل، وكل تلك الممرات الضيقة المتغلغلة بين الحدائق، هي ذاتها منذ زارها أوله ياستراو العابث مع صديقته آنا ماريا وحتى اليوم. وكانت مأساة بطل الرواية أنه يمتلك روحا حساسة تبلغ حد المرض أحيانا، فيجد نفسه دائما خارج الإيمان القطيعي، وخارج لعبة الأقنعة الفاشية في المجتمع. ولا يجد خلاصه من مأزقه ذاك سوى بالخمرة، كما لو أنه يسعى للهروب نحو عوالم يوتوبية تزداد الحاجة إليها كلما توغل في عالم الزيف اليومي، والادعاء، والطهرانية الكاذبة.

بطل الرواية مأزوم بالتأكيد، وحساس بشكل مرضي، ويعيش في عالم غير متماسك، سواء بشخوصه أو غاياته اليومية، أو مكاشفاته، وأدت به تلك الحساسية المفرطة إلى أن يرى الأشياء، بشرا وشوارع وأبنية، بشكل مختلف، وهذا الاختلاف أنتج بعدا شاعريا، تغلغل لا في الألوان، والهيئات الحية، والتكوينات، والزهور، والأشجار، والبحيرات حسب، بل حتى في رصد المفارقات في وجوه البشر وملابسهم، وكل ذلك من أجل الوصول إلى حقيقتهم العارية. وكان ذلك مطلبا شبه مستحيل في عقد العشرينيات الخارج من أتون حرب شملت أوربا كلها. وليس غريبا أن تصل قناعات ياستراو إلى حقيقة أنه يعيش بين غابة من الأقنعة، لا يتورع عن مغامرة نزعها رغم ما كانت تقوده عادة إلى السجن، والقطيعة مع الأصدقاء، والاحباط والعبث حتى نبذ الزوجة، والطفل، والبيت. كان واقعا تحت وطأة تيار شعور جارف، يلاحق كل نأمة في محيطه، وكأنه يسعى جاهدا لتفكيك عالمه الزائف. عالم الفنادق الرخيصة، والصحف، ومرض السفلس، والمثقفين الهوائيين، وحانات الميناء الجديد ببحارته القادمين من جهات الأرض، وعلية القوم بعبثهم الليلي، وأقنعة الوجود الراقصة. حوار الأنا المتشظية مع عاصمة ضاجة فائرة، حوار لا ينتهي. حوار يهدم كل شيء. والوعي الفائض لهذا المثقف القلق، سرعان ما يتحول إلى هدم في النهاية. هدم القناعات، والآيديولوجيات، والإيمان، والأخلاق، والعائلة.

الهدم الذي مارسته الثقافة المتمردة، العدمية، في الحياة الأوربية بين الحربين، وقد اكتشفت ضعفها أمام جبروت الجيوش المدججة، والمؤامرات، وتصاعد الحركات الفاشية والقومية التي توجت بصعود النازية لاحقا. إنه الرفض المطلق في أقصى تجلياته. وعندما يغيب الإيمان الديني فكل شيء مباح، وهذا ما كان عليه أوله ياستراو، ولعل ذلك تكثيف عميق لحالة المجتمع الدانماركي المتجه نحو العلمانية، وإخراج الهيمنة الدينية من منظومة الحكم والتشريع والعلاقات الاجتماعية. ومن هنا يمكن اعتباره رمزا لتحولات المجتمع الباحث عن هويته السياسية والفكرية والثقافية. التخبط الفكري للبطل قاده إلى تخبط حياتي، فهو ينتقل من حانة إلى أخرى، ومن مجموعة مثقفة إلى ماخور أو فندق رخيص، دون أن يدرك سبب ذلك، وكأنه يعيش في قوقعة عقله فقط. ودأب على طرح أسئلة غير مألوفة بعض الأحيان في الحياة العادية، أسئلة الحواس وهي في كامل توترها، ولا منطقيتها، حيث ينتهي بها التأزم الفردي إلى أسئلة وجودية، ومعضلات بشرية تخص كنه الإنسان ذاته، وسبب وجوده في الكون، وغايته. وهو ما يخرج رواية هدم من حيز الروايات التقليدية الشائعة تماماً.

في تعليقه على رواية يولوسيس لجيمس جويس، يقول بطل الرواية: الكتاب سميك وضخم وصعب المواصلة فيه، ومشهور، يحتاج الى عضلات لقراءته. والأمر نفسه ينطبق، حقيقة، على هذه الرواية المعقدة بمبناها، وأفكارها، وحواراتها، وتلميحاتها. وهذا ما دعا الروائي النرويجي كنوت هامسن إلى القول بعد قراءته للرواية: عمل عبقري عظيم. أرجو أن تتقبل مني خالص التهنئة. لدي كتبي، ولا ينقص العالم كتب، ولكن علي الآن أن أتواضع، فلا كتاب مثل كتابك. مات توم كريستينسن في العام 1974، ودفن في جزيرة ثورو جنوبي الدانمارك، وكتب على شاهدة قبره مقطع من شعره يقول:

أنحني قدر استطاعتي/ ليبدو العالم كبيراً.

 

 

_______________________________

*المصدر : المدى

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *