ليست الأماكن على اختلاف مواقعها وأشكالها وبيئاتها الطبيعية تفصيلاً عابراً في حياة ساكنيها، بصرف النظر عن انتماءاتهم الطبقية والاجتماعية وعن مستوياتهم الثقافية وسلوكياتهم وطرائق تفكيرهم، بل هي جزء لا يتجزأ من هويتهم ومعنى وجودهم وملعب طفولاتهم وصباهم الأجمل. وفي حين أن القلة القليلة من البشر هي التي تفلح، وإن بصعوبة بالغة، في قطع حبل السرة النفسي والوجداني مع الأماكن أو الأوطان، فإن الكثرة الكاثرة منهم تظل على صلة وثيقة بهذه الأماكن، وترى فيها خميرة حيواتها الأنقى والزاد الذي لا ينفد من الذكريات والصور وترجيعات الماضي. وإذا كان الشعراء والمبدعون يتشاركون مع الناس البسطاء في تعلقهم بالأماكن التي سكنوها، فإن ما يضاعف تعلقهم بها هو تحولها المستمر إلى ينبوع ثري من الصور والأخيلة التي لا تكف عن التدفق. ولم تغب العلاقة الجدلية والوثيقة بين المكان والزمان عن أذهان الشعراء والمفكرين حيث ذهب الشاعر والناقد الفرنسي هنري بوسكو إلى القول بأن «الزمان مكان سائل والمكان زمان متجمد». وغير بعيد عن هذه المقولة اعتبر مواطنه غاستون باشلار بأن «المكان في مقصوراته المغلقة يحتوي على الزمن مكثفاً».
لم يكن تعلق العرب من جهتهم بالمكان أقل وطأة من تعلق الشعوب الأخرى. لا بل إن فكرة المكان السائل الذي يتعرض للتبخر التام تحت شمس الصحراء بفعل الترحل المستمر بحثاً عن الماء والكلأ، هي التي رفدت الشعر العربي القديم بذلك الفيض الغامر من الشجن والحسرة والبكاء على أطلال ما تقطع من رغد العيش وهنائه الآفل. والعرب في وقوفهم على أطلال البيوت ومضارب الخيام لم تفتهم الإشارة إلى أن ما يحنون إليه ليس الأماكن المجردة أو الأشياء الجامدة، بل ما علق بالأماكن والأشياء من أرواح ساكنيها وأصواتهم وزفراتهم ووجيب قلوبهم. وهو ما يفسره قول المتنبي: «لك يا منازل في القلوب منازلُ، أقفرتِ أنت وهن بَعدُ أواهلُ»، أو قول قيس بن الملوح: «وما حب الديار شغفن قلبي، ولكنْ حب من سكن الديارا». ما نفتش عنه إذن في الأماكن التي غادرناها، هو ظلال تلك الحيوات الآفلة التي ربطتنا بها ذات يوم مشاعر جياشة أو حب غامر أو ألفة دافئة. وهو أيضاً ذكرياتنا المواراة بظلال الماضي وبريقه الفردوسي. لكن الأمر لا ينحصر بما عشناه نحن بالذات في الإطار الفردي، بل يتعداه إلى تجارب العشاق والقادة الخلاقين والشعراء الذين نتلمس عبر الأماكن التي لازموها بقايا النيران التي اندلعت في دواخلهم وأمدتهم بأسباب الوجد والشغف والتوهج الإبداعي.
ولعل وعي شعراء العالم وكتابه، والعرب من بينهم بالطبع، بأهمية الأماكن وبالصلة الرحمية الوثيقة التي تربطهم بها، هو ما جعلنا نحصل على ثروة طائلة من أسماء البيوت والأماكن وتضاريس الجبال والسهول والأودية والأنهار، إضافة إلى أنواع الرياح ومدارات الكوكب وانفجارات البراكين. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يجمع امرؤ القيس في البيت الأول من معلقته أسماء ثلاثة أماكن مختلفة هي «سقط اللوى» و«الدخول» و«حومل»، لتتبعها في البيت الثاني «توضح» و«المقراة» وما يتبعهما من تكفل الريح بنسج تشكلات الرمال. سيتكرر الأمر كثيراً بالطبع مع النابغة وعنترة والخنساء ولبيد، كما مع قيس بن الملوح وجميل وكثير وعمر وأبي تمام وأبي نواس والمتنبي، حيث سيتحول الكثير من القصائد العربية إلى أرشيف واسع لحفظ جغرافيا الأماكن وأسمائها ومواقعها. وأبلغ دليل على ذلك هو استعانة الباحثين وعلماء الآثار بالشعر الجاهلي لتحديد الموقع الجغرافي الدقيق لسوق عكاظ الشهير. وفي نتاج بابلو نيرودا الشعري، كما في مذكراته، فهرس واسع لأسماء جبال تشيلي وسواحلها وصخورها وحيواناتها ونباتاتها. كذلك هو الأمر في نصوص غارسيا لوركا التي نتعرف من خلالها على معالم غرناطة وإشبيلية وقرطبة وسائر مدن الأندلس والجنوب الإسباني. أما بدر شاكر السياب فقد جعل من قريته الصغيرة جيكور في الجنوب العراقي قرية كونية بامتياز، كما أعطى لساقية «بويب» الصغيرة نكهة ملحمية خاصة تضاهي برمزيتها الأسطورية أعظم أنهار الأرض وأكثرها غزارة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق يتعلق بالسبب الذي يشدنا إلى تعقب آثار البعض دون سواهم من الكتاب والشعراء. وهل أن ذلك الأمر متصل بأولئك الذين احتفوا بالمكان دون سواهم، أم بالأحجام الإبداعية لهؤلاء، أم بمواقفهم وتجاربهم الإنسانية الفريدة؟. من الصعب بالطبع أن نرد شغفنا بزيارة أماكن الأدباء والفنانين ومنازلهم، إذا وجدت، إلى دافع واحد. وقد تتضافر هذه العوامل مجتمعة، أو بعض منها، لتحريك فضولنا ورغبتنا في القيام بذلك. وإذا كان من نافل القول أن نعتبر الشرط الإبداعي على رأس تلك الدوافع، فإننا لا نستطيع في الوقت ذاته أن نغيب الشرط الإنساني المتعلق بفرادة التجربة الحياتية وطابعها المأزقي. وهو ما ينطبق على الشاعر العباسي ديك الجن الحمصي، على سبيل المثال، الذي يندر أن يقوم أحد من محبي الشعر بزيارة حمص دون أن يعرج على المتنزه الذي يخلد ذكرى حبه لـ«ورد» على ضفاف العاصي. والأمر لا يعود، كما أظن، إلى فرادة شعره ونتاجه القليل، بل بسبب غرابة تجربته العاطفية وتمزقه التراجيدي بين غريزتي الحب والموت. كما أن تعلق الكتاب أنفسهم بأمكنتهم ومساقط رؤؤسهم لا بد وأن يصيبنا بعدواه، بحيث نرغب في تتبع الجغرافيا المحسوسة والجزئيات الصغيرة التي وفرت لكتابنا الأثيرين ما يحتاجونه من مناخات الكتابة الخلاقة. وقد نفعل ذلك أيضاً لكي تتاح لنا فرصة المقارنة بين المكان في واقعه المجرد والملموس، وبين المكان منعكساً في مرايا اللغة وسحر التعبير. وهو ما يفسر رغبة الكثيرين منا في التعرف إلى الأماكن التي سكنها محمود درويش، وفي فلسطين على وجه الخصوص. ربما لنعثر على شبه بين قريته «البروة» التي أزالها الاحتلال عن الخارطة، وبين ما في نصوصه من حرقة الروح وتجليات الفقدان. ومن بين عشرات الشعراء العراقيين الراحلين يكاد بدر شاكر السياب ينفرد بكونه الشاعر الذي يتقاطر الشعراء والمثقفون العرب لزيارة منزله في جيكور، والوقوف بالعين المجردة على ما تبقى من سهول أبي الخصيب التي كحلت عيني الشاعر في مطالع صباه، وما تبقى من مجرى «بويب» الضئيل، ومن غابتي النخيل اللتين جعلتا من مطلع قصيدته الشهيرة «أنشودة المطر» أحد أهم مطالع القصائد في الشعر العربي. وما زلت أذكر تلك الزيارة المؤثرة التي قام بها إلى قرية الشاعر عدد من المشاركين العرب في أحد مهرجانات المربد في سبعينات القرن المنصرم، حيث لم يستطع الشاعر الليبي إدريس بن الطيب حبس دموع التأثر لدى إشارة الدليل بإصبعه إلى شباك وفيقة، التي خلدها صاحب «منزل الأقنان» في غير واحدة من قصائده. ولعل أول ما يفكر به زائر باريس هو التعرف إلى المنزل الذي كان يقطنه فيكتور هيجو، والمقهى الذي كان يتردد إليه جان بول سارتر وغيره من رموز الفكر والأدب الفرنسيين. كذلك الأمر بالنسبة للأماكن التي كان يسكنها أو يؤمها جبران خليل جبران وبوشكين وغوته وناظم حكمت وماركيز ونجيب محفوظ وعشرات غيرهم. وفي موسم أصيلة الثقافي الأخير كان أكثر ما دفعني لزيارة طنجة هو التعرف إلى الأماكن التي كان يتردد إليها محمد شكري، وصولاً إلى زيارة المثوى الأخير لصاحب «الخبز الحافي». ولا يتعلق الأمر بالراحلين وحدهم، بل ينسحب على المبدعين الأحياء، من مثل أدونيس الذي حفر اسم قريته قصابين عميقاً في الوجدان الجمعي، بحيث باتت زيارة منزله الريفي في جبال اللاذقية قبلة أنظار العشرات من شعراء العالم ومثقفيه.
قل أن يثير فينا الكتاب الرديئون، بالمقابل، تلك الرغبة الملحة في تأمل الأماكن التي سكنوها، لأن العقم الإبداعي لا يستدرج أحداً إلى مسرحه، ولا تستدعي أشياؤه الصغيرة أن تُقتنى من أحد، ومنازله المتداعية أن تُرمم أو تُحول إلى متاحف ومزارات… أما المبدعون وذوو الأعمال الفذة فنحن نرغب في زيارة أماكن عيشهم بمقدار رغبتنا في قراءة نصوصهم المتميزة. كأننا نريد بذلك أن نقيم صلةً ما بين عبقرية المكان وعبقرية ساكنيه. وكثيراً ما نحدق ملياً في تفاصيل الأماكن والأشياء والمقتنيات لنعثر على الخيط السري الموصل بين اللغة والحياة. كأن روح الكاتب الغائب تُستحضر في هذه الحالة عبر كل ما تحسسته أنامله ذات يوم، وفي كل ما وقعت عليه عيناه من نثار الأشياء العادية التي تفعل فينا فعل السحر. إن كل نص إبداعي جميل يراكم خلفه ظلالاً وترجيعات كثيرة على مستويي الزمان والمكان.ولعل ما يعترينا من مشاعر غريبة ومتناقضة لدى زيارات كهذه، عائد إلى وقوفنا العياني على منشأ النص، وعلى المسرح الذي تم إخلاؤه من جسد المبدع لكي يلبس مع الزمن لبوس الأسطورة.
_________
*الشرق الأوسط.