عالمٌ حديثٌ تقودُه الخرافات

*أدونيس

ــ 1 ــ

يمتلك الإنسانُ في هذا العالم الحديث قدرةً يمكن وصفُها، سلبيّاً، بأنّها خارقة:

إنّها القدرةُ على «الإيمان» في حدّ ذاته، في مَعزلٍ عن مضمونه، وَعْداً أو وعيداً.

تتجلّى، اليوم، هذه القدرةُ في شعوب العالم كلّه، وفي شكلٍ أخصّ، في شعوب الشّرق الأوسط.

إنّها ظاهرةٌ «ثقافيّة»، بالمعنى التّاريخيّ العامّ، غير أنّ الدّخولَ في تفاصيلها قد يؤدّي إلى وصفها بأنّها أقرب إلى أن تكونَ ظاهرةً سيكولوجيّة.

الفردُ، هنا، يعمل ويفكِّر، كأنّه «يسكن» تقاليده، و»يلبس» خرافاته، ويتلقّى منها إملاءات فِكرِه وعملِه. فهو سجينٌ في مَحبَس هذا الإملاء ــ أو هو «رَهينُ محبسيْن»، وفقاً لعبارة المعرّي:

الأوّل – محبسُ الاستحالة الكتابيّة إلاّ اتّباعيّاً: فهو يؤمن إيماناً قاطِعاً أنّ لغته لا يمكن أن تتجاوز، على أيّ مستوى، اللغة التُّراثيّة في أشكالها الماضية.

الثّاني ــ محبس الاستحالة المَعرفيّة: يؤمن إيماناً قاطعاً أنّ لغته مهما تقدّمَت لا يمكن أن تُنتِج معرفةً تتجاوز المعرفةَ التي أنتجَتْها في ماضيها التّراثيّ.

وتَسْتَشْرِس وسائلُ الإعلام التي تُوجِّه هذا العالمَ الحديث في تكوين النّموذج الأكثر امتثالاً لهذا الإنسان «الحديث» ــ لا إنسان السّؤال والبحث والعِلم، بل إنسان التّصديق والإيمان.

يمكن وصف هذا النّموذج باختصارٍ كما يلي:

«مجرَّد إناء مَحشوٍّ بأخبارٍ وتعليماتٍ لا يُرادُ منه أن يعرف كُنهَها، بل أن يحتويَها ويطبِّقها كما تُنقَلُ إليه. وأن ينظرَ إلى الآخر بوصفه عدوَّ الحقيقة والحرّية والإنسان، إذا لم يكن مثلَه تماماً محشُوّاً مثله بالأشياء نفسها».

وهكذا باسم الحريّة، تتأسّس العبوديّة، بأساليب ووسائل متنوِّعة، وبأشكالٍ وصِيَغٍ متنوِّعةٍ هي أيضاً.

ــ 2 ــ

لكلّ لغةٍ مُشكلاتها، وفقاً لماضيها وتراثها وحاضــرها. ما يهـمّنا هنا، في العالم العربيّ، هو لغتنا العربيّة. وعليــنا، إذاً أن نسأل: هل تزداد لغــــتنا الــعربية، في هذا العالم الحــديث غِنىً، أم تزداد، على العكس، فقراً؟ وهو سؤالٌ يُضيء الجوابَ عنه سؤالٌ ينبغي أن يتقدّمَه، وهو:

ما المعرفة التي تُنتِجها، اليوم، لغتُنا العربيّة، في مختلف الميادين العلميّة والفلسفيّة والأدبيّة؟ هل هي جديدة، وما هذه الجِدّة التي تُضيفها إلى ما أنتَجَته سابقاً، في مختلف هذه الميادين؟

ــ 3 ــ

ماذا يعني ذلك على صعيد الممارسة الكتابيّة والثقافيّة؟

يعني أنّ الإنسانَ في هذا العالم الحديث لا يتكلّم لغتَه ولا يكتبها، وإنّما هي التي تتكلّمُه وهي التي تكتبه. وهي التي تُفصِح عنه باسم تُراثِه. فالوجود، كما يعلِّم هذا التّراث، ومشكِلات الوجود والإنسان قيلَت جميعُها مرّةً واحدةً وإلى الأبد، خصوصاً على المستوى الدّينيّ. ومعنى ذلك أنّ الإنسان لا يتعلّم الحياةَ والأشياءَ من الحياة ذاتها، وإنّما يتعلّمُها من اللغة التي قالَها في ماضيه وتراثه، وعليه، إذاً، أن يستعيدها كما هي. لا يقدر الإنسان أن يعرف حاضرَه بهذا الحاضر نفسه، وإنّما عليه أن يعرفه باللغة التي قالَتْهُ مُسَبَّقاً، لغةُ الماضي والتّراث. كأنّ الحياةَ، تبعاً لذلك، ليست موجودةً في الحياة، بل في اللغة. وكأنّ المعرفة مخزونةٌ فيها، وليست في الحياة، أو التّجربة، أو الأشياء.

ــ 4 ــ

في ضوء ما تقدّمَ، نفهم كيف أنّ الكاتب، في هذا العالم الحديث، مفكِّراً وشاعراً، يعيش في ثقافةٍ تتحرّكُ بين قوسين: قوس «الرّقابة» التي هي بُعدٌ طبيعيٌّ وعضويّ في الثقافة، بخاصّةٍ في العالم العربيّ، وقوس «الوظيفة» التي هي كذلك بُعدٌ طبيعيٌّ وعضويّ في هذه الثّقافة، والفرق بين بلدٍ وآخر، هنا، فرقٌ في الدّرَجة وليس في النّوع.

بين هاتين القوسين، ما يكون «دور المثقّف»، ومَن «المثقّف»، أساساً، في عالم اليوم، العالم الأميركيّ ــ الأوروبيّ، وفي العالم العربيّ؟ سؤالٌ يُطرَح على الأصدقاء الإعلاميين الذين يُصِرّون دائماً على طرحه، في «الغرب» و «الشرق»، بلهجةٍ تُلقي مسؤوليّة ضخمة على «المثقّفين»، تكاد أن تُجَرِّمهم.

يمكن أيضاً أن نطرح سؤالاً خاصّاً بالعالم العربيّ هو هذا السّؤال:

في أيّ ميدانٍ معرفيّ يمكن العربيّ، اليوم، أن يفكِّر ويعبِّر عن فكره، بحريّةٍ كاملة: الدينيّ؟ الفلسفيّ؟ العلميّ؟ السياسيّ؟ الشّرعيّ الحقوقيّ؟ الاجتماعيّ ــ الخاصّ بقضايا المرأة ؟ … إلخ .

ــ 5 ــ

«وظيفيّة» الفكر، والثّقافة، بعامّة: تلك هي الظّاهرة التي بدأت تهيمن في «الغرب» الأوروبّيّ – الأميركيّ، وفي «الشّرق» العربيّ، على السّواء.

ولَئن دخلنا قليلاً في التّفاصيل، فسوف نرى أنّ أوروبّا، بخاصّةٍ فرنسا وألمانيا، هي الخاسرة الكبرى. تخسر مركزيّتها المعرفيّة، وتصبح تابعةً للنّظام الأميركيّ. وهو نظامٌ ينظر إلى العالم بوصفه «آخر» تَجِبُ السّيطرةُ عليه: العالم، بالنسبة إلى هذا النّظام، «هنديٌّ أحمر آخر».

وهي، إذاً، تشــارك عمليّاً في «إبادة» الإنسان. هكذا تصبح حقوق الإنسان وحرّيّاته في مهبِّ المَصالِح، الاقتصاديّة الاستراتيجيّة. ويتحوّل العالم إلى ثكنةٍ عسكريّة، وإلى «سوقٍ كَوْنيّة».

الهنديّ الأحمر الذي يستأصله «النّظام الأميركيّ – الأوروبّيّ» اليوم، هو الشعب الفلسطينيّ. ويستأصله باسم «فكرة» حارَبَتْها الثّقافة الأوروبيّة، سابقاً، و»تصالحها» اليوم، في صورتها «القوميّة اليهوديّة».

هكذا لم تعد أوروبّا قادرةً على أن تلعب أيّ دَوْرٍ تَمدينيٍّ أو تحضيريّ في العالم. بخاصّةٍ في البلدان التي هيمَنَت عليها سابقاً: أفريقيا والشّرق الأوسط العربيّ.

وهي في تاريخها كلِّه لم تُشْعِل شمعةً واحدة للنهوض بالإنسانِ في «مستعمراتها» كلّها، بوصفه: إنساناً. وإنّما أشعلَت الشّموع لكي تتقن فنَّ «الإضاءة» التي تتيح لها أن تتقِنَ فنّ «الهيمنة»، وفنّ «الاستتباع».

الحاجةُ اليوم، لا إلى ثورة بمعونةٍ من أوروبّا، بل إلى ثورةٍ داخلَ أوروبّا لإنقاذ الإنسان فيها.

فهي لم تعد عامِلَ ثورةٍ للتقدّم. أصبحت، على العكس، عاملَ انحطاطٍ وانهيار. والحاجةُ هي لثورةٍ داخلها، تُفكِّك بناها، وتُعيد النّظرَ فيها، وتجدِّد قراءة واقعها. لقد شاخَت أوروبّا وشاخ معها العالم. أو لعلّها لعبت الدّور الأكبر في تشييخه وتعجيزه. العودة إلى أصولها التّوراتيّة ــ هي عودةُ شيخوخةٍ لا عودة طفولة.

I . مقابسات

إنّها مرحلةٌ من العلاقات بين «الغرب « و «الشّرق « دمّرَت سياسيّاً كلَّ شيء: الذّاتيّة، الهويّة، الحريّات، الحقوق.

دمّرَت كذلك المعنى.

*

الضّرورةُ الشّعريّةُ اليومَ شرطٌ أوّل للضّرورةِ السّياسيّة.

*

اسخَرْ ممّا تملكُه، إن شئتَ أن تُمضي حياتَكَ غنيّاً.

*

«صوتٌ في الصّحراء»؟، وصفاً للكلام الذي لا يجد مَن يُصغي إليه.

أليس من الأكثر صِحَّةً، اليوم، أن نغيِّر هذه العبارة، بحيث تصبح وصفاً لفراغ الصّوت ذاته، الذي تحوَّل هو نفسه إلى صحراء؟

*

غيابٌ لا تخترقُ فراغَه

إلاّ الأجنحة.

*

هل النّهارُ في هذا «العصر»،

وهل الليلُ فيه،

مَخلوقان، حقّاً، على صورة آدم؟

*

«للنّهار، اليوم، شكل النّفَق»:

تهمسُ الشّمسُ في أذن الفضاء.

كانت الشّمسُ هي نفسُها

تتمشّى على ضفّة المتوسِّط الشّرقيّة،

في موكب نساءٍ وأطفالٍ

ينزفون دماً.

II . هم (قادة هذا العالم السياسيّ ــ الإعلاميّ الحديث)

يُقالُ باسم تابعيهم:

أكيدٌ أنّهم سيهبطون على القمر، لا لكي يحوّلوه إلى نقطةٍ متقدِّمة في طريق الكشف المعرفيّ، بل لكي يحوِّلوه إلى «سوقٍ» قوامُها الهيمنةُ والاحتكار، بيعاً وشراءً.

أكيدٌ أنّهم سيعملون على رجمِ الكواكبِ، وعلى الرّجمِ بها.

أكيدٌ أنّهم يعيشون في انتظار أنهارٍ بلونِ الذّهب

تنفجر تحت خطواتهم من صدر الشّمس،

أكيدٌ للّيل في نهارهم عجيزةٌ ضخمة.

أكيدٌ للنّهار في ليلهم سريرٌ يسَع السّماء والأرض،

أكيدٌ للكتب التي يقرأونها أنيابٌ وأظافر،

أكيدٌ سيُقال باسمهم:

كانوا وحدَهم، قبل التّاريخ،

وسوف يكونون، وحدَهم كذلك، بعد التّاريخ.

_________
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *